الخان الأحمر والزمن العربي الأصفر

الخان الأحمر والزّمن العربي الأصفر

نُقدم على كتابة هذا المقال والكلمات تعيش حالة طوارئ تضامنًا مع أهالي الخان الأحمر، المهددين بهدم منازلهم البدوية البسيطة، وطردهم مع أطفالهم من المنطقة، التي أعلنت سلطات الاحتلال أنها منطقة عسكرية مغلقة، وذلك بعد قرار المحكمة العسكرية الإسرائيلية العليا بشرعنة الهدم والطرد والاستيطان فيما بعد.

يأتي ذلك تمهيدا لتطويق مدينة القدس وإغلاق بوابتها الشرقية، لعزلها عن الضفة الغربيّة، التي يراد تقطيع أوصالها، وتحويلها إلى كانتونات معزولة، لا يتصل أحدها بالآخر إلاّ بإذن من الاحتلال وزبانيته.

قد تباشر قوى الاحتلال العسكرية عملية الهدم في أيّ لحظة، حتى قبل أن يجد هذا المقال طريقة للنشر. وكل التضامنات والاحتجاجات والصرخات المعززة بالتكبيرات لن يضعها الاحتلال المتغطرس في الحسبان، ولن تحسب لها الجرافات الاستيطانية أيّ حساب يُذكر.

تأتي هذه الخطوة الاستيطانية السوداء والمثيرة لغبار التّحدي في إطار تنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني (E1) لعزل القدس، وذلك بتعزيز امتداد مستوطنة "معاليه أدوميم"، التي يُراد لها أن تكمل الطوق حول القدس الكبرى، وفق المخطط له، والذي يقضي بتوسيع المستوطنات المقامة في هذه المنطقة المحيطة بأدوميم، وزيادة عددها حتى يتم التهام وادي الخان الأحمر، وبذلك يتم إقامة جدار استيطاني يعزل شمال الضفة الغربيّة عن وسطها وجنوبها، ليتم دق المسمار الصهيوني الأخير في نعش حل الدولتين.

ولمن لا يعلم من العرب في هذا الزّمن العربي الأصفر عن الأبعاد الخطرة والعواقب الوخيمة المترتبة على تنفيذ المشروع، فإنه ليس جديدًا، وليس من نتاج العبقريّة الاستيطانية لدى المتطرفين الصهاينة في عهد الثنائي الاستيطاني (نتنياهو-ليبرمان)، وإنما كان قد طالب به رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين عام 1994، الذي كان يدعي حبَّه لحمامات السلام ويعلن على الملأ أنّه يسعى لسلام دائم.

ما نسمعه عن تدهور الحالة الفلسطينيّة، وما نراه من فداحة سوء الحال الذي آلت إليه، يحزن القلب ويربك التفكير ويفزع الوجدان والضمير، لمن عنده بقيّة من وجدان أو حشرجة حياة تشير إلى بقاء الضمير على قيد الحياة.

وخلال أقل من خمس سنوات تحوّلت هذه المطالبة الماكرة إلى مشروع تم الإعلان عنه عام 1999 في عهد حكومة نتنياهو الأولى، حيث صادق وزير الجيش الإسرائيلي آنذاك على توسيع مستوطنة "معاليه أدوميم" لتشمل باقي المستوطنات المحيطة بها، ويتم ضمها بالكامل إلى بلديّة مدينة القدس.

وقد ترتب على ذلك المشروع مصادرة 58 كيلومترًا مربعًا من الأرض الفلسطينية، وهكذا يتم استكمال محاصرة شرق القدس استيطانيا، وشطر الضفة الغربيّة إلى نصفين، بحيث يتم دفن حلّ الدولتين في مقبرة الاستحالة الجغرافيّة.

عاجلاً أو آجلاً سيسيل الدّم الأحمر للخان الأحمر، وستبقى له بقع حمر كبيرة على أنياب الجرافات الإسرائيلية وعجلاتها، وستبقى لها أشعة حمر ساطعة سرعان ما تتحول بفعل الذاكرة العربيّة الضعيفة إلى أشعة صفر لا حضور لها، ولا تأثير في هذا الزمن العربي الأصفر.

يقولون إن اللون الأصفر غير مرغوب فيه، لأنّه يرمز إلى الصحراء القاحلة، وقد يدل على المكر والدّهاء، ولكن حين يتعلّق الأمر باللون الزّمني، الذي تمر به هذه الأمة المغلوبة على أمرها، فإن اللون الأصفر هنا يرمز إلى الضّعف والاستكانة وخريفيّة الفعل أو ردّ الفعل، إزاء ما يجري للقدس وللوادي الشرقي الأحمر، الذي يفضى بنا إليها. بل وإزاء ما يجري لفلسطين وأهلها المنكوبين، على مدى سبعين عاماً من الاحتلال والاستيطان والاضطهاد والمصادرة والتميز العنصري القاتل البغيض، الذي تمارسه قوى صهيونية مستكبرة ومتغطرسة، إلى حدّ لا يتصوره عقل بشري عربيًا كان أو غير عربي.

ما نسمعه عن تدهور الحالة الفلسطينيّة، وما نراه من فداحة سوء الحال الذي آلت إليه، يحزن القلب ويربك التفكير ويفزع الوجدان والضمير، لمن عنده بقيّة من وجدان أو حشرجة حياة تشير إلى بقاء الضمير على قيد الحياة.

لنرى بأم العين ما يجري في الخان الأحمر، الذي يعتبر جزءا من بادية القدس وريفها، من عملية حصار وإغلاق، يمهّد لهدم وتنكيل وتشريد، ولنستمع لما قاله مواطنٌ فلسطينيّ أحمريٌّ اعتاد على التحدّي والصمود "نحن هنا من عشرات السنين قبل الاحتلال وإقامة المستوطنات، لو نقلنا من هنا لا نستطيع العيش.. لن نرضى بأي ترحيل، وهذه قرية العراقيب في منطقة بئر السبع هدمت أكثر من 150 مرّة، ولم يترك أهلها أراضيهم.. لا نريد لأبنائنا نكبةً جديدة".

وليستوقفنا ما أضاف على قوله هذا الفلسطيني الصامد من بني الأحمر في الوادي الفلسطيني الأحمر، ورغم رؤيته للزّمن العربي الأصفر، حيث قال "لو هدمت بيوتنا سنبقى في العراء، وإن نُقلنا بالقوة سنعود لنبني التّجمع، وسنجلس بأطفالنا ونسائنا ومواشينا، ولو على الشوارع، وليشهد العالم ممارسات الاحتلال وديمقراطيته".

للأسف طلاب مدرسة الخان الأحمر يواجهون مصيراً مجهولاً، ولكن هناك إصرار على البقاء حتّى لو تعلمنا فوق الرّكام، نحن نرفض نكبة جديدة في أرض الخان الأحمر.

ولنستمع جيدًا لعل في الاستماع الجيد عبرة وموعظة.. لنستمع إلى ما تقوله مديرة المدرسة حليمة مزايكة في تصريحها لموقع عرب48 "للأسف طلاب مدرسة الخان الأحمر يواجهون مصيراً مجهولاً، ولكن هناك إصرار على البقاء حتّى لو تعلمنا فوق الرّكام، نحن نرفض نكبة جديدة في أرض الخان الأحمر".

ولعلّ أكثر ما يؤذي السمع ويجرحُه قول المديرة الصّابرة الصّامدة "قدمنا لطلابنا في المدّة الأخيرة شرحًا وافيا عمّا يحدث في الخان الأحمر، وهو أمر يصعب شرحُه للأطفال، فهناك أسئلة صعبة يوجهها لنا الأطفال ولا نملك الإجابة عليها.. فكيف أجيب على سؤال طفل: لماذا لا يحقُّ لنا البقاء هُنا؟ لماذا يطردوننا؟ لماذا يسكت العالم؟".

قبل أن نحيل هذه الأسئلة الصعبة التي دارت وتدور في أذهان أطفال الخان الأحمر المهددين بهدم مدرستهم، وطردهم إلى منطقة أخرى في الضفة الغربيّة، قد تكون بعد حين مهدّدة بالهدم والاستيطان المتهيّء دوماً للطوفان.

قبل أن نحمل هذه الأسئلة البريئة الحائرة إلى سلطات الاحتلال المفترسة للأرض الفلسطينيّة قطعةً وراء أخرى، وقبل أن نحيلها إلى الإدارة الأميركيّة التي تدعم الاستيطان وتؤيده، وتسميه إعمارا لا تخريبا لعملية السلام الوهميّة والمزعومة أصلاً.

قبل هذا وذاك نرى أن نحيل هذه الأسئلة التي لا إجابة لها إلى الدول والشعوب العربيّة مجتمعة كانت أو متفرقة، لعلّ هذه الأسئلة النابعة من قلوب وعقول أطفال الخان الأحمر في هذا الزمن العربي الخريفي الأصفر تجد لها صدى رعديا مدويا، يطيح بهذا الصمت الرابض بقلاعه وحصونه على الصدور العربيّة الواسعة الحلم والصّفح والتسامح، علّ الصّدى يوقظ الإحساس، وينقذ هذه الأمة من حالة انحباس الأنفاس.

وكان الله في عون القدس التي رغم ما يحاك لها ويساس ما زالت مرفوعة الرأس، عزيزة النفس، وقويّة البأس، رغم ما تراه من تطويق استيطاني لها، وصل إلى التهديد بإراقة الدّم الأحمر في الخان الأحمر.

المصدر : الجزيرة