شعار قسم ميدان

هل تشهد إسرائيل انقلابا عسكريا؟

Protest against Israel's judicial overhaul and dismissing of the defense minister, in Jerusalem
(REUTERS)

"أمن دولة إسرائيل كان وسيبقى دائما مهمة حياتي".

قبل أن يُطلق "يوآف غالانت" وزير دفاع دولة الاحتلال الإسرائيلي كلماته تلك، التي جاءت ردا على قرار إقالته من قِبَل رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" قبل ساعات، قضى الرجل أياما مشغولا في محاولة إقناع نتنياهو بالعدول عن خطة التعديلات القضائية المثيرة للجدل الخاصة به، فقال: "من أجل أمن إسرائيل، من أجل أبنائنا وبناتنا، يجب إيقاف العملية التشريعية الآن، لتمكين دولة إسرائيل من الاحتفال بعيد الفصح وعيد الاستقلال معا، والحداد في يوم ذكرى المحرقة".

 

لقد تحدث غالانت مرارا إلى نتنياهو بأن المُضي في هذه الخطة سيأتي بويلات على مؤسسة الجيش، وكان أكثر ما يُخيفه هو أن يمتد حبل الاحتجاج الذي بدأه جنود الاحتياط في المؤسسات العسكرية الأهم، مثل القوات الجوية والمخابرات العسكرية ووحدات العمليات الخاصة والوحدات الإلكترونية. ومن ثمَّ حذَّر الرجل من أن يمتد الغضب إلى الجنود المتفرغين، ما قد يؤدي إلى انقسامات عميقة وخطيرة داخل جيش الاحتلال، ويضر باستعداد عناصره للعمليات في وقت تواجه فيه دولة الاحتلال تهديدات كبيرة وقريبة، مثل البرنامج النووي الإيراني والهجمات الفلسطينية والتوترات الأخيرة مع حزب الله اللبناني.

TEL AVIV, ISRAEL - MARCH 11: Tens of thousands of Israelis attend a massive protest against the government's judicial overhaul plan on March 11, 2023 in Tel Aviv, Israel. The Netanyahu government is pushing ahead with proposed overhaul of the judiciary that would limit the Israeli Supreme Court's ability to review and strike down laws that it deems unconstitutional. Critics say the changes will undermine judicial independence and threaten Israel's democracy. (Photo by Amir Levy/Getty Images)
لم يكد يمضي يوم على تصريحات غالانت حتى استدعاه رئيس الوزراء الإسرائيلي وأبلغه بإقالته من منصبه، وذلك بعد أن أشعلت التعديلات المُقترحة التظاهرات في إسرائيل طيلة أسابيع. (غيتي)

لم تكن مخاوف غالانت مجرد تكهنات على ما يبدو، حيث كانت الإشارات المقلقة في هذا الصدد تتوالى بالفعل. ولعل أبرز هذه الإشارات تهديد بعض ضباط الاحتياط في جيش الاحتلال الإسرائيلي -دون الإفصاح عن هوياتهم الشخصية- بألا يخدموا في الجيش إن تم تمرير التعديلات القضائية، لأنها "تنسف كل ما خدمنا وحاربنا من أجله"، كما جاء في بيان لهم يوم 24 فبراير/شباط الماضي.

 

لعل تلك المخاوف في النهاية هي ما دفعت غالانت إلى كسر صمته، والخروج بتحفظاته تلك من الدائرة السرية للمشاورات الحكومية إلى العلن، حيث ظهر على شاشات التلفاز ليلة السبت الماضي، وقال في تصريح للشعب الإسرائيلي إن رجال قوات الدفاع الإسرائيلية غاضبون ومحبطون إلى درجة لم يرها من قبل، في إشارة ضمنية إلى عدم رضا المؤسسة العسكرية عمَّا تفعله حكومة نتنياهو.

 

بالنسبة إلى نتنياهو، كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير، واللحظة التي قرر فيها أن يخبر الجميع أنه عازم على الذهاب إلى أبعد مدى من أجل تمرير هذه التعديلات. ولم يكد يمضي يوم على تصريحات غالانت حتى استدعاه رئيس الوزراء الإسرائيلي وأبلغه بإقالته من منصبه، وذلك بعد أن أشعلت التعديلات المُقترحة التظاهرات في إسرائيل طيلة أسابيع، والتي وصلت إلى ذروتها في الأيام القليلة الماضية، حيث اعتبر الكثيرون في دولة الاحتلال وخارجها أن هذه التعديلات تقويض لاستقلال القضاء لصالح استحواذ الكنيست والحكومة على نصيب الأسد من السلطة، ومن ثمَّ فإنها تُكرِّس هيمنة اليمين المتطرف الذي ما انفك يفوز بنصيب متزايد من أصوات الناخبين. أما المدافعون عن المشروع من أنصار اليمين فيرون فيه تخليصا لدولة الاحتلال من هيمنة سلطة غير منتخبة هي القضاء، وتحريرا لها من سطوة القضاة بوصفهم أوصياء على إرادة الشعب الإسرائيلي الذي لم يعُد مُجبَرا على الالتزام بالصيغة الليبرالية والديمقراطية التقليدية التي تأسست عليها الدولة الصهيونية قبل نحو سبعة عقود.

 

يقودنا هذا الصراع المحتدم، والذي أصبح الجيش ركنا رئيسيا فيه، إلى تساؤل أساسي حول طبيعة العلاقات المدنية-العسكرية في إسرائيل، في ظل الاحتقان السياسي غير المسبوق في البلاد على وقع صعود الحكومة الأكثر تطرُّفا في تاريخ الدولة الصهيونية. لطالما عدَّت إسرائيل نفسها دولة مؤسسات معقدة وديمقراطية ذات توازن حساس بين كُتَل اجتماعية ومؤسسات سياسية عديدة، بيد أن التحوُّلات الاجتماعية في دولة الاحتلال، كما هو الحال في الكثير من الدول المحيطة بها، عصفت ولا تزال بالكثير مما اعتبره كثيرون أُسسا لا مساس بها منذ عقود. فهل لا تزال تلك الأسس راسخة بما يكفي كي تنأى بإسرائيل عن أي سيناريو فوضوي يُقوِّض طبيعتها الدستورية؟ أم أنها -مثل جيرانها- على موعد مع تغيير جذري في قواعد اللعبة يصبح معه شبح الانقلاب العسكري حاضرا بقوة على المسرح السياسي؟

 

ضباط غاضبون

Protest against government and judicial reforms in Israel- - TEL AVIV, ISRAEL - MARCH 09: Police officers intervene the protesters as they gather for a "Day of Resistance" demonstration to protest the Israeli government plan to introduce judicial changes, in Tel Aviv, Israel on March 09, 2023. Some citizens are detained during the demonstration.
يخاف جنود جيش الاحتلال من أن تؤدي التغييرات القضائية وتبعاتها إلى أن يصبحوا عُرضة لاتهامات بارتكاب جرائم حرب في المحاكم الدولية. (الأناضول)

في صبيحة 9 مارس/آذار الحالي، اختار "إيشيل كلاينهاوس"، ضابط القوات الخاصة (الكوماندوز) السابق، المكان الأنسب في نظره لإيصال رسالة احتجاجه على التغييرات التي يخطط لها رئيس الوزراء نتنياهو في بنية النظام القضائي، إذ تظاهر مع نحو 100 من رفاقه في الوحدات القتالية بجيش الاحتلال أمام مقر "منتدى كوهيليت للسياسات" في القدس المحتلة، الذي يعتبره كثيرون المهندس الرئيسي لخطط حكومة نتنياهو، لا سيما إضعاف المحكمة العليا في دولة الاحتلال. وقد وقف كلاينهاوس هاتفا بشعارات مناهضة للتعديلات القضائية، ولوَّح مع عدد من المتظاهرين بالأعلام الإسرائيلية، وقذفوا مقرَّ المنتدى بكومات من القمامة.

 

لا تقتصر التحوُّلات السياسية في إسرائيل على مشاركة ضباط كبار في التظاهرات ضد الحكومة، بل وصل التصعيد إلى أبعد منذ ذلك في صورة تهديدات بعض الجنود بعدم الانصياع لأوامر التدريب والخدمة العسكرية، وشمل ذلك جنودا من أهم وحدات الجيش الإسرائيلي مثل وحدة الحرب الإلكترونية والمخابرات العسكرية والقوات الجوية وحتى عملاء الشاباك (جهاز الأمن العام). على سبيل المثال، أعلن 37 من أصل 40 من جنود الاحتياط في السرب الجوي الإستراتيجي رقم 69، الذي تملك طائراته الوصول إلى إيران، أنهم لن يحضروا التدريب المعتاد يوم 1 مارس/آذار 2023. وبعد نحو أسبوع فقط، وقَّع أكثر من 6000 جندي احتياط على عريضة بعدم الحضور إلى الخدمة احتجاجا على "الإصلاح القضائي" المزعوم، كما أرسل نحو 200 طبيب احتياط رسالة إلى وزير الدفاع المُقال يوآف غالانت تفيد بأنهم لن يحضروا للخدمة إذا لم تتوقف الحكومة عن إجراءاتها.

 

لفهم الأمور على صعيد الخدمة العسكرية، نشير أن دولة الاحتلال تفرض الخدمة الإلزامية لمدة ثلاث سنوات على الرجال الذين يبلغون من العمر 18 عاما، لكن العديد من هؤلاء يختار بعد انتهاء مدته الانضمام إلى جنود الاحتياط، وهو عمل طوعي وليس إلزاميا، ما يعني أنهم محميون من العقاب المُحتمل. ويقضي هؤلاء 30 يوما في السنة من أجل الخدمة في مواقع الخطوط الأمامية والمشاركة في القتال الفعلي، ولذلك عليهم الخضوع للتدريبات مرة أسبوعيا على الأقل، إذ يُعتمَد عليهم في تشغيل سلاح الجو ووحدة العمليات الخاصة التابعة للمخابرات العسكرية، وكذلك يُعتمَد عليهم في المهام اليومية لجيش الاحتلال، وخاصة في المجالات التي تتطلب معرفة تقنية طويلة، مثل جمع المعلومات الاستخباراتية.

Israeli military reservists hold flags as they block the main highway from Jerusalem to Tel Aviv as they demonstrate against proposed judicial reforms by Israel's new right-wing government in Shoresh near Jerusalem, February 9, 2023. REUTERS/Amir Cohen
جنود الاحتياط العسكريون الإسرائيليون في مظاهرة ضد التعديلات القضائية. (رويترز)

وقد ظهر جنود الاحتياط بأعداد كبيرة في عمليات الدرع الواقي التي قام بها الاحتلال في المدن الفلسطينية عام 2002، وحرب لبنان عام 2006، وحملات العدوان المتتالية الأخيرة على قطاع غزة. ولذا فإن انضمام قطاع متزايد من هؤلاء الجنود إلى المُحتَجين واستعدادهم للعزوف عن الخدمة العسكرية سيكون أزمة بالنسبة لتل أبيب. على سبيل المثال، يُعَدُّ انضمام الطيارين إلى الاحتجاجات معضلة كبيرة، إذ إن ما يقرب من نصف طياري سلاح الجو الإسرائيلي هم من جنود الاحتياط، وهُم يُشكِّلون العمود الفقري لقدرته التشغيلية، ويمكن لتوقفهم عن حضور التدريبات أن يؤثر على جاهزية جيش الاحتلال، وبالتحديد في وقت تتوتر فيه العلاقات مع إيران ويتحدث فيه قادة الاحتلال عن أهمية أن يكون الجيش الإسرائيلي على أهبة الاستعداد لتنفيذ أي ضربة جوية ضد البرنامج النووي الإيراني أو المصالح المرتبطة بالنظام الإيراني في محيط دولة الاحتلال.

 

هناك الكثير من الأسباب التي تجعل جيش الاحتلال معقلا للاحتجاجات المناهضة للحكومة، على رأسها كون الجيش المؤسسة الأكثر تحسسا من اختراقات اليمين الإسرائيلي المتطرف (يعتبر الكثير من قادة جيش الاحتلال الاختراق اليميني خطرا على الجيش)، والأكثر ارتباطا بالتقاليد التاريخية لدولة الاحتلال. ومع ذلك، فإن هناك دافعا آخر لا يقل أهمية يحرك الضباط لمعارضة تعديلات نتنياهو القضائية وهو الخوف من أن تؤدي التغييرات القضائية وتبعاتها إلى أن يصبحوا عُرضة لاتهامات بارتكاب جرائم حرب في المحاكم الدولية. فلطالما قالت إسرائيل إن لديها نظاما قانونيا وقضائيا مستقلا ينظر في أي مخالفات عسكرية أو جرائم من هذا النوع، ومن ثمَّ لا داعي لخضوع جنودها للتحقيق الدولي. ومن ثمَّ يعتبر الكثير من الضباط الإسرائيليين النظامَ القضائي بمنزلة القبة الحديدية القانونية التي تنأى بهم عن المثول أمام المحاكم الدولية بتُهَم ارتكاب جرائم الحرب.

 

شبح الانقلاب ليس جديدا

BERLIN, GERMANY - MARCH 16: Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu and German Chancellor Olaf Scholz (not pictured) speak to the media following talks at the Chancellery on March 16, 2023 in Berlin, Germany. Netanyahu's one-day visit to Berlin is being accompanied by protests, including both by people angry over Israel’s policies towards Palestinians as well as those critical of possible new legislation in Israel supported by Netanyahu that would undermine the independence and the power of Israel's Supreme Court, effectively curtailing democracy in Israel. (Photo by Sean Gallup/Getty Images)
أمضى نتنياهو الأسابيع الأولى بعد تنصيب حكومته في محاولة لتمرير ما يسميه "الإصلاح القضائي"، التي أعقبها تصاعد الاحتجاجات غير المسبوقة. (غيتي)

في عام 1996، عندما تولى رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو السلطة للمرة الأولى، سرعان ما شعر كبار ضباط الجيش بخيبة كبيرة من سياسات حكومته، حتى إنهم لم يستبعدوا حدوث انقلاب عسكري بسبب الاضطرابات التي وقعت داخل الجيش آنذاك. وقد تعلَّق واحد من هذه الاضطرابات حينها بمخالفة نتنياهو لنصيحة "عامي أيالون"، رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) بعدم فتح نفق أرضي أسفل أساسات المسجد الأقصى، لكن نتنياهو أمر بفتح النفق الذي أدى إلى اندلاع ما يُعرف باسم "هَبَّة النفق"، وأسفرت في حينه عن استشهاد عشرات الفلسطينيين ومقتل عدد من جنود الاحتلال. وبحلول عام 2012 الذي كان فيه نتنياهو أيضا رئيسا لحكومة الاحتلال، تجددت المخاوف من وقوع تمرد في أوساط جيش الاحتلال، وذلك بسبب اكتساب المتطرفين اليهود نفوذا داخل أروقة الجيش أوصلهم إلى الرُّتَب العليا، حيث جاء أكثر هؤلاء من مستوطنات الضفة الغربية، وتربوا على معتقدات الحاخامات التي دعتهم إلى عصيان الأوامر العسكرية في حال تعارضت مع معتقداتهم الدينية.

 

منذ عقود طويلة، وبالأخص بعد حرب عام 1967، أضحت المستوطنات في الضفة الغربية جزءا من خطة خبيثة تبنَّاها اليهود الأرثوذكس المتطرفون تدعو لاستيطان الضفة الغربية كاملة. ووفقا للكاتب الإسرائيلي اليساري "غيرشوم غورنبرغ"، مؤلف كتاب "تفكيك إسرائيل"، فإن الرجال الذين يؤمنون بقدسية أرض إسرائيل يتسلقون سلم القيادة (العسكرية) رويدا رويدا، ومن ثمَّ تلوح في الأفق احتمالات التمرُّد الصريح على تراتبية المؤسسات، وبالأخص في الضفة الغربية التي تحوَّلت إلى مجال موازٍ للدولة الإسرائيلية الدستورية، ترتع فيه الحركات والجماعات اليمينية المتطرفة.

 

مع عودة نتنياهو إلى الحكم بعد 18 شهرا في المعارضة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم يكن غريبا أن تصوت نسبة كبيرة من الجنود الذين يعملون في مستوطنات الضفة الغربية لصالح أحزاب يمينية ودينية متطرفة، إذ يعتقد هؤلاء أن وجودهم في الضفة المحتلة عنصر حاسم من منظور ديني، فخلاص أرض اليهود التوراتية مهمة مقدسة بالنسبة لهم، بعيدا عن انصياعهم لحكومة منتخبة من عدمه، فهُم في مهمة دينية لا قومية. ولذا، سرعان ما بدأت قرارات حكومة نتنياهو تصب في صالح الضم الفعلي للضفة بشكل غير مسبوق، وآخر الإجراءات في هذا الصدد تمَّ في 21 مارس/آذار الحالي، عندما ألغى الكنيست الإسرائيلي تشريعا يأمر بتفكيك أربع مستوطنات يهودية في الضفة الغربية المحتلة.

Israel's Prime Minister Benjamin Netanyahu, right, and outgoing Israel Defense Forces Chief of Staff, Aviv Kochavi, left, during a transition ceremony to promote incoming Chief of Staff Herzi Halevi to the rank of Lieutenant-General, in Jerusalem, January 16, 2023. Maya Alleruzzo/Pool via REUTERS
عبر رئيس الأركان السابق "أفيف كوخافي" (يسار الصورة) عن قلقه من التعديلات الخاصة بالجيش قبل خروجه من منصبه في ديسمبر/كانون الأول الماضي. (رويترز)

وفيما أمضى نتنياهو الأسابيع الأولى بعد تنصيب حكومته في محاولة لتمرير التعديلات القضائية، التي أعقبها تصاعد الاحتجاجات غير المسبوقة، دعا جيش الاحتلال في البداية إلى إبعاده عن السجالات العامة الساخنة، لكن سرعان ما بات وجوده محوريا في المأزق حول طبيعة الدولة التي يريد اليمين الإسرائيلي إعادة تعريفها. ولم تقتصر الأمور على سعي الحكومة الحالية لترسيخ حكم الاحتلال في الضفة والسيطرة على القضاء، بل إنها قدمت خططا لإعادة هيكلة الجيش نفسه ووزارة الدفاع، والسيطرة على وحدة شرطة شبه عسكرية خاصة.

 

بوضوح أكثر، ظهر أن نتنياهو يمضي نحو إجراء تغييرات حاسمة في الجيش لإرضاء حلفائه في الائتلاف الحاكم الذين يملكون القدرة على حل حكومته. أولها يتعلق بإجراء تعديلات على وظائف شرطة الاحتلال في الضفة، وثانيها يخص كيفية إشراف جيش الاحتلال على الضفة الغربية المحتلة، وهو الغرض الذي من أجله أنشأ رئيس وزراء الاحتلال منصبا جديدا داخل وزارة الدفاع للإشراف على المنطقة ج من الضفة المحتلة، وهو امتياز منحه نتنياهو لوزير ماليته اليميني المتطرف "بتسلئيل سموتريتش" ويخول له تنظيم تخطيط المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وضمان احتفاظ الاحتلال بالسيطرة المدنية هناك.

 

وقد عبَّر رئيس الأركان السابق "أفيف كوخافي" عن قلقه من التعديلات الخاصة بالجيش قبل خروجه من منصبه في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث ظهرت إلى السطح مقترحات عن تلك التعديلات أثناء المفاوضات من أجل حكومة الائتلاف الجديدة، وهو ما يُعَدُّ سابقة للتوتر في العلاقات مع الجيش قبل حتى أن تباشر حكومة نتنياهو مهامها. علاوة على ذلك، حذَّر كبار قادة الجيش من أن التعديلات قد تثير انقسامات داخلية وصراعا بين الضباط والجنود، ما قد يُفضي إلى تفكُّك في بنية جيش الاحتلال بوصفه قوة قتالية فعالة، بل وستتضاعف هذه التوقعات إذا ما تحقَّق المطلب الأهم لليمين المتطرف، وهو إعفاء اليهود الحريديم من الخدمة العسكرية، ليس فقط بحكم الأمر الواقع كما هو الحال اليوم، ولكن بحكم القانون. ففي جيش يتزايد فيه نفوذ الحاخامات يوما بعد يوم، يمكن لتحقيق مطالب المتطرفين وأحزاب الحريديم بتمرير مشاريع قانونية لشرعنة التهرُّب من الخدمة العسكرية أن يُحدِث صراعا داخل أروقة الجيش وبين قيادته.

 

العقد الاجتماعي والقيادة العسكرية

LONDON, ENGLAND - MARCH 24: Demonstrators gather near Downing Street ahead of the arrival of Israeli prime minister Benjamin Netanyahu on March 24, 2023 in London, England. Benjamin Netanyahu visits London against a backdrop of unrest at home. Protests are being held weekly across Israel against legislation being pushed through the Knesset by his government to restrain the judiciary. (Photo by Carl Court/Getty Images)
تجمع المعارضة على أن الإصلاحات ليست سوى محاولة لإدخال عنصر استبدادي شبه ديني في بنية الحكم بدولة الاحتلال الإسرائيلي. (غيتي)

ظل الإسرائيليون يتناقلون التهديدات اللفظية التي تفوَّه بها جنود الاحتياط المتطوعون بعدم الخدمة العسكرية في وحدات الجيش المختلفة، على أمل أن تبقى مجرد احتجاجات شكلية لن تُترجَم فعليا. لكن في 22 مارس/آذار الحالي، تحدث قادة جيش الاحتلال عن وجود انخفاض كبير بالفعل في عدد جنود الاحتياط في القوات البرية الذين يخدمون على الأرض، وأعلنوا لأول مرة عن حضور 57% فقط من جنود الاحتياط الذين تم استدعاؤهم في لواء النخبة 551 مظلات مقابل نسبة 90% في الأوقات العادية. وقد شكَّل هذا المؤشر علامة صادمة على أن التهديد يسهُل تنفيذه حتى في وقت حرج بالنسبة لدولة الاحتلال، حيث حلَّ شهر رمضان المبارك الذي يجلب في العادة المزيد من الاشتباكات مع الفلسطينيين مقاومة وشعبا، وهو من أحلك الأوقات الذي تحتاج فيه دولة الاحتلال إلى قواتها الاحتياطية، كما تزامن معه تهديد الأسرى الفلسطينيين بخوض إضراب شامل يهدد مصلحة السجون التابعة للاحتلال.

 

ومما زاد الأمور تعقيدا، تواكب التهديدات مع اتساع حلقة المعارضة الداخلية في دولة الاحتلال، التي صارت تضم قائمة طويلة من كبار المسؤولين الأمنيين السابقين ورؤساء وزراء سابقين ووزراء دفاع ورؤساء أركان بالجيش ونواب رؤساء الأركان وقادة سلاح الجو، الذين أعلنوا معارضتهم للتعديلات القضائية، وآخرهم كوخافي رئيس الأركان السابق. ويُجمِع هؤلاء على أن الإصلاحات ليست سوى محاولة لإدخال عنصر استبدادي شبه ديني في بنية الحكم بدولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث أخذ الأرثوذكس المتطرفون يتحولون نحو الحضور السياسي أكثر وأكثر، حتى سُمح لهم بتقويض سلطة المحكمة العُليا، وذلك عبر إصرارهم على إقرار التعديلات التي تُفضي إلى تدخل السياسيين في عملية اختيار القضاة، والسماح للكنيست بإلغاء قرارات المحكمة العليا بأغلبية بسيطة، بل وإلغاء بعض القوانين من المراجعة القضائية.

 

بعد أكثر من عشرة أسابيع من المظاهرات الحاشدة والتهديدات من جنود الاحتياط والتحذيرات من كبار الخبراء الإسرائيليين حول الضرر المحتمل لأمن دولة الاحتلال وعلاقاتها الدولية وتماسكها الداخلي، يمكننا أن نرى أن فرص حدوث أزمة دستورية واسعة النطاق في دولة الاحتلال تزداد يوما بعد يوم. وفي النهاية، تبقى جميع الخيارات مفتوحة، ولكن إذا تم إيقاف التشريع المُقترح، الذي يُفضي إلى الإطاحة بالنظام القانوني للدولة الإسرائيلية كما نعرفه، وحتى إذا ما حصل سيناريو آخر يتيح للمحكمة إلغاء "الإصلاحات القانونية"؛ فإن الأحزاب الدينية الأرثوذكسية المتطرفة في الائتلاف الحاكم لن تترك الأمر يمر بسهولة، وسيكون خيارها الأوحد بعدئذ هو الضغط على نتنياهو كي يرفض قبول حُكم القضاة كما يحلو لهم تسميته وإلا خرجوا من الائتلاف. وفي هذه الحالة قد تواجه دولة الاحتلال أزمة دستورية غير مسبوقة في تاريخها، ولربما يرافقها عصيان مدني واسع مع رفض الآلاف من جنود الاحتياط الحضور من أجل الخدمة العسكرية.

 

تبدو دولة الاحتلال الإسرائيلي إذن على مفترق طرق حاسم ستكشف الأيام المقبلة مآلاته، بيد أن الجيش، المؤسسة الأكثر حيوية لدولة الاحتلال، قد أصبح في القلب من المأزق الحالي، وإن كان من الصعب بمكان الجزم بإمكانية حدوث انقلاب من عدمه، فإن الأزمة فيما يبدو أكبر من "إصلاح القضاء" أو إضعافه، وهي تكمن حقيقة في رغبة تحالف يميني جديد في إعادة تعريف كل المؤسسات الكبرى في إسرائيل، ومدى قدرته على فعل ذلك في مواجهة مقاومة شرسة من رجال الدولة القدامى.

المصدر : الجزيرة