شعار قسم ميدان

لعبة إيران.. لماذا تريد طهران تأجيل توقيع الاتفاق النووي؟

Atomic symbol and USA and Iranian flags are seen in this illustration taken September 8, 2022. REUTERS/Dado Ruvic/Illustration

وسط تسارع وتيرة التحولات الجيوستراتيجية في المنطقة، دخل الوسيط الأوروبي على خط المفاوضات النووية بهدف تخفيض التوتر بين طهران وواشنطن، لكن الرد الإيراني الأخير لم يُلبِّ طموحاته؛ حيث شكَّكت الترويكا الأوروبية في نِيَّات طهران في العودة للاتفاق النووي، وهذه ليست المرة الأولى التي تُعبِّر فيها أطراف أوروبية عن خيبة أملها من عدم تحقيق نتيجة، غير أن الفارق الوحيد هذه المرة هو أن الوقت بات يضيق أمامهم بسبب تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية وتفاقم أزمة الطاقة العالمية.

 

وجهات نظر الإدارة الأميركية وبيان الثلاثية الأوروبية، المتمثلة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، حول الرد الإيراني الأخير يكشفان عن صعوبة في التغلب على الخلافات المتبقية وإن كانت قليلة. فقد أعلنت إيران صراحة أنها لن تتنازل قيد أنملة عن خطوطها الحمراء بشأن برنامجها النووي، وهي بذلك تدرك جيدا أن إطالة أمد المفاوضات قد تجرها إلى مواجهة الدول الغربية وتأزيم الوضع أكثر من ذي قبل، مما قد يجعل ملفها النووي عُرضة للتداول في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ترى إيران أنها منحازة بطبيعة الحال إلى السياسات الغربية. ومن المحتمل أن يتزامن اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية القادم مع اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك التي سيحضر وقائعها الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، حيث سيُلقي كلمة بلاده السنوية فيها.

 

ومن المرجح أن يُصدِر مجلس حكام الوكالة، في حال عدم إغلاق الملف بالوصول إلى اتفاق أو إعلان قُرب الوصول إليه، قرارا ضد إيران، ما سيضطرها إلى رفع تخصيب اليورانيوم في منشآتها النووية إلى 70% أو أكثر ردا على قرار الوكالة، وهو ما ينقل الأزمة برُمَّتها إلى سيناريوهات جديدة. ولكن قبل الحديث عن أبرز السيناريوهات المحتملة بشأن فرص التوصل إلى اتفاق، نتطرق إلى بعض بؤر التشاؤم التي ربما تَحُول دون إحياء الاتفاق النووي.

 

بؤر التشاؤم

Iran's President Ebrahim Raisi attends a news conference in Tehran, Iran August 29, 2022. Majid Asgaripour/WANA (West Asia News Agency) via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE HAS BEEN SUPPLIED BY A THIRD PARTY.
هناك أيضا هاجس إيراني من أن يكون الاتفاق وسيلة لمنع طهران من امتلاك قوة ردع فاعلة مقابل إطلاق يد إسرائيل لتعزيز تفوقها العسكري وقوة ردعها في المنطقة (رويترز)

لقد فاقم انسحاب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي عام 2018 أزمة الثقة بين إيران والولايات المتحدة، ما جعل طهران تطالب بمزيد من الضمانات لمنع تكرار الانسحاب الأميركي مُجددا. أضف إلى ذلك عدم ثقتها بقدرة الإدارة الأميركية الحالية على الالتزام بشروط أي اتفاق جديد. وحتى في حال فوز الديمقراطيين في الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وتثبيت قدرة إدارة بايدن، من الواضح أن المقترحات الراهنة في المسودات المتبادلة لا تشجع إيران على توقيع اتفاق جديد بعد تحقيقها قفزة كبيرة في التجارة الخارجية مع دول الجوار (1). وما يُعقِّد الظروف داخليا هو اعتقاد كثير من مُنظِّري التيار الأصولي بأن خروج إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT) ورفع نسبة التخصيب سيوفِّران لطهران قوة ردع تضمن الأمن القومي وتوفر شروطا تفاوضية متقدمة (2). وهناك أيضا هاجس إيراني من أن يكون الاتفاق وسيلة لمنع طهران من امتلاك قوة ردع فاعلة مقابل إطلاق يد إسرائيل لتعزيز تفوقها العسكري وقوة ردعها في المنطقة.

 

وهناك بؤرة تشاؤم أخرى تأخذ بتلابيب الاتحاد الأوروبي الذي لا يستطيع أن يضمن عدم لحاق العقوبات الأميركية بالشركات الإيرانية التي ستتعامل معه في حال تخلي واشنطن عن الاتفاق، ما يقضي على الهدف الرئيس المتعلق باستثمار الشركات الأجنبية في إيران، وهو الأمر الذي يحث طهران على المطالبة باتفاق مدعوم بنص محكم تتخلله ضمانات مطمئنة في حال انسحاب الجانب الأميركي منه مرة ثانية.

 

ولا يغفل الإيرانيون عن التأثير الهدام لإسرائيل ومحاولاتها الحثيثة لتخريب الاتفاق، وقد سبق لإسرائيل أن قامت بهذا الدور المعطل في عام 2014، حين كان الاتفاق جاهزا للتوقيع فأخَّره وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جون کیري، عاما كاملا تجاوبا مع الضغوط الإسرائيلية.

 

هذه بعض بؤر التشاؤم التي بإمكانها أن تُعيد المفاوضات إلى المربع الأول. كما يجب أن نضع في الحسبان تركيز الأصوليين علی أن اتفاقا سيئا هو أسوأ من عدم الاتفاق، على خلاف ما كان يُصرِّح به وزير الخارجية الإيراني السابق، محمد جواد ظريف، من أن أي اتفاق هو أفضل من عدمه (3).

 

 مؤشرات نجاح الاتفاق

U.S. President Joe Biden delivers remarks during a welcoming ceremony at Ben Gurion International Airport in Lod, near Tel Aviv, Israel, July 13, 2022. REUTERS/Ammar Awad
عدم التوصل إلى اتفاق سيدفع الإيرانيين نحو التصعيد عبر رفع نسبة التخصيب، ما يفتح الباب أمام سباق نووي في المنطقة يتعارض مع المقاربة الأميركية الرامية إلى تفوق إسرائيل في المنطقة بما تملكه من ترسانة نووية (رويترز)

مثلما تفاقمت مؤشرات التصعيد التي يمكن أن تؤدي إلى إفشال مفاوضات فيينا، لاحت في الأفق مؤشرات أخرى تُرجِّح نجاح الاتفاق، أهمها إجماع أصحاب القرار في إيران من أصوليين وإصلاحيين على أن العودة للاتفاق ستؤدي إلى خروج البلاد من أزمتها الاقتصادية، وتُعزِّز الأمن الاجتماعي الذي يُشكِّل دعامة أساسية لاستمرار النظام ويسهم في تبديد الأخطار والتهديدات الأمنية والعسكرية ضد النظام، كما يُرسي دعائم الأمن الداخلي والإقليمي لإيران. أما على الجانب الأميركي، فإن إدارة الرئيس بايدن بحاجة إلى ورقة الاتفاق لدوافع انتخابية، لكي تقول للأميركيين إنها استطاعت من خلال إحياء الاتفاق النووي السيطرة على أسعار الطاقة، والأهم من ذلك احتواء إيران ومنعها من حيازة القنبلة النووية.

 

وأما المؤشر الآخر للنجاح فيتمثَّل في حل كثير من العقد وإزالة جزء كبير من العقبات الفنية من خلال المفاوضات، الأمر الذي يجعلنا متفائلين بقدرة المفاوضين على إزاحة ما تبقى منها، خاصة أن فشل المفاوضات سيُدخِل المنطقة في نفق مظلم ويجر على العالم الكثير من الويلات، إذ إن مواجهة إيران عسكريا ستكون مكلفة للغرب، وعدم التوصل إلى اتفاق سيدفع الإيرانيين نحو التصعيد عبر رفع نسبة التخصيب، ما يفتح الباب أمام سباق نووي في المنطقة يتعارض مع المقاربة الأميركية الرامية إلى تفوق إسرائيل في المنطقة بما تملكه من ترسانة نووية.

 

 بين اتفاق عام 2015 والاتفاق المرتقب

تستند إعادة إحياء الاتفاق النووي إلى مبدأين، هما: رفع الولايات المتحدة جميع العقوبات المرتبطة بالاتفاق، والإبقاء على العقوبات المتعلقة بحقوق الإنسان والإرهاب لا سيما تلك الصادرة عن الكونغرس، مقابل عودة طهران إلى الالتزام الكامل بتعهداتها النووية بشأن وقف التخصيب على مستويات لا تتجاوز 20% ووقف إنتاج أجهزة الطرد المركزي المتطورة، مع بعض التعديلات على الاتفاق السابق تُمكِّن إيران من الاحتفاظ بأجهزة الطرد المركزي المتطورة التي صنعتها خلال العامين الماضيين وتخزينها داخل أراضيها تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بدلا من تدميرها، كما كانت الحال في الاتفاق السابق، بما يساعد إيران عمليا على استئناف نشاطات التخصيب بسرعة قياسية في حال انسحاب الولايات المتحدة مجددا من الاتفاق.

 

ويقضي التفاهم الجديد بأن تكون فترة تنفيذ الاتفاق ما بين 5-6 أشهر تبدأ عمليا باجتماع للجنة المشتركة للاتفاق النووي (فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي وإيران) على مستوى المديرين السياسيين من دون الولايات المتحدة، ويجري خلاله إقرار نص الاتفاق الجديد والدعوة للقاء وزراء خارجية الدول الأعضاء في اللجنة، ليبدأ بعدها الجانبان، الإيراني والأميركي، بخطوات التنفيذ المتزامن والتدريجي لالتزاماتهما بموجب الاتفاق الجديد خلال فترة 5 أو 6 أشهر، تعود بعدها الولايات المتحدة رسميا إلى الاتفاق وتستعيد عضويتها في اللجنة المشتركة (4).

 

من جانبها، تضع طهران شروطا للدخول في أي اتفاق مشترك، منها غلق ملف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لا سيما التحقيقات التي تُجريها الوكالة حول وجود آثار يورانيوم مخصب بنسب عالية في ثلاثة مواقع إيرانية، وذلك لاختبار مدى جدية الغرب المتنفذ في الوكالة للعبور من هذه العقبة وبدء مرحلة جديدة عنوانها الحوار المباشر. فكما صرَّح مسؤولون إيرانيون بينهم الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سابقا، الأدميرال علي شمخاني، بأن طهران لا ترفض اللقاء المباشر مع الأميركيين على غرار تجربة عام 2015، من أجل إحياء الاتفاق النووي وتقديم 400 مليون دولار لإيران تحت اسم إطلاق سراح السجناء الأميركيين.

 

أما في الوقت الراهن، فالإيرانيون يرفضون اللقاء المباشر مع الأميركيين، بيد أنهم لا يرفضونه بشكل كامل ودائم، بل قيَّدوه بشروط أهمها أن يكون مبنيا على أسس واضحة تُفضي إلى تحقيق مكاسب وعروض سخية لطهران، ربما لا تستطيع الولايات المتحدة أن تُقدِّمها للطرف الإيراني في اللقاءات متعددة الأطراف مراعاة لحلفائها الأوروبيين وشركائها في المنطقة، إضافة إلى تقديم ضمانات مُرضية لطهران تؤكد عدم انسحابها من الاتفاق النووي المرتقب.

 

 السيناريو الأمثل لإيران

في ضوء ذلك، هناك عدة سيناريوهات تُطرح في الوقت الحاضر لإحياء الاتفاق النووي الذي بات موضع إجماع الأصوليين والإصلاحيين الذين يُشكِّلون التيارين الرئيسين في إيران، وقد أصبح خلافهما على الاتفاق يقتصر على تاريخ توقيعه، مما يجعلنا نضع احتمال عدم توقيع الاتفاق جانبا في الوقت الراهن.

 

وقد بات جليا أن طهران أرادت من خلال ردها الأخير على المقترح الأوروبي والرد الأميركي الذي تلاه أن تُطيل أمد المفاوضات، خاصة أن بعض الشخصيات المقربة من مراجع اتخاذ القرار ترى أن التريث لمدة لا تقل عن شهرين بانتظار قدوم موجات البرد، التي ستُفاقم أزمة الطاقة وترفع أسعار الوقود من جديد في الغرب، سيمنح إيران دون شك ورقة رابحة على طاولة المفاوضات تجعل الاتفاق أكثر تناغما مع المصالح الإيرانية (5). ولعل طهران ترمي من خلال هذا التأني إلى الاستفادة القصوى من عامل الوقت الذي كثر مؤيدوه في أروقة السياسة الإيرانية مؤخرا، وذلك بهدف رفع نسبة تخصيب اليورانيوم للضغط علی الولايات المتحدة والغرب، خاصة أن مفعول العقوبات بدأ يتراجع، بحسب رأي الحكومة الإيرانية.

 

ما يُعزِّز سيناريو التأجيل أن الأوساط الإيرانية تعتقد بأن الجانب الأميركي ما زال مترددا في اتخاذ القرار النهائي، في حين أن طهران تُفصح علانية عن شروطها لإحياء الاتفاق، الأمر الذي يرجح تأجيل المفاوضات إلى ما بعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، في ظل تركيز إيران الجاد على إغلاق ملفها الأمني لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما دفع الإدارة الأميركية إلى تأجيل المفاوضات لما بعد الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بسبب قرب موعد انتخابات الكونغرس. ويسود اعتقاد لدى الأوسط الإيرانية بأن تأجيل المفاوضات لن يكون له تأثير على اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي قد يكتفي ببيان ينتقد فيه تصرفات إيران.

أي مستقبل؟

كان مسار المفاوضات النووية غير المباشرة بين طهران والولايات المتحدة من خلال الوسيط الأوروبي يهدف بالدرجة الأولى إلى تخفيض التوتر وتقريب وجهات النظر بين طهران وواشنطن، أكثر من التركيز على الأمور الفنية المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني. لكن تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية والتفاعلات الإقليمية أثَّرت على رؤية إيران والولايات المتحدة لمضمون المباحثات النووية. على الجانب الإيراني، إذا كانت هذه المنافع لا تساوي التضحيات التي تقدمها طهران، فعندئذ يكون الاتفاق النووي خاوي الوفاض بالنسبة لإيران، ولا يستحق العناء، خاصة مع وجود تهديد دائم بانسحاب الولايات المتحدة بعد فترة وجيزة.

 

رغم ذلك يمكننا القول إن هناك حالة إجماع داخل المؤسسات الدستورية الإيرانية المعنية بالقرارات الإستراتيجية، خاصة تلك المرتبطة بالملف النووي، حول ضرورة خيار التوصل إلى اتفاق مع مجموعة القوى الدولية، لكون الاتفاق يحقق مصالح النظام داخليا من خلال رفع العقوبات ودعم الاقتصاد الوطني وتعزيز الأمن القومي. وأما على الصعيد الإقليمي فإنه سيضع إيران قوة أساسية ومحورية في منطقة غرب آسيا ويعزز دورها الإقليمي، شريطة الحصول على ظروف تفاوضية أكثر إيجابية خلال الفترة المقبلة، وهذا يفسر لنا سرَّ تأني الجانب الإيراني في المفاوضات واستغلاله عامل الوقت بُغية الاقتراب من سقف المطالب المحددة.

—————————————————————————————————–

هذا المقال مأخوذ عن مركز الجزيرة للدراسات.

المصدر : مركز الجزيرة للدراسات