شعار قسم ميدان

سلسلة اللؤلؤ.. رحلة التنين الصيني في صحاري العرب

dragon
خارج محطة القطارات الرئيسية في دار السلام، عاصمة تنزانيا، يمكنك أن تلمح بسهولة النصب التذكاري الذي تم إنشاؤه في الذكرى الخامسة والعشرين لتدشين سكة حديد تنزانيا -زامبيا. تم تصميم النصب على هيئة جزء من قاطرة موضوعة على مقدمة سكة حديد، بينما يرتسم على جسم القاطرة عبارات مرسومة بأبجدية تبدو غير مألوفة تعني «الشرق الأحمر». إلى الداخل قليلًا لن تعدم رؤية بعض عربات القطارات القديمة مكتوب عليها بوضوح عبارة «صنع في جمهورية الصين الشعبية».

 

 في عام 1967 كانت كل من تنزانيا وزامبيا قد حصلتا للتو على استقلالهما، وقد حاولت الدولتان الحصول على مساعدة الدول الغربية والبنك الدولي، من أجل بناء خط سكة حديد يوفر منفذًا إلى البحر يسمح بتصدير النحاس المنتج في زامبيا عبر تنزانيا. كانت زامبيا -وهي دولة حبيسة- في ذلك التوقيت مضطرة لنقل إنتاجها عبر روديسا، أو ما نعرفها بـ(زيمبابوي) اليوم، أو عبر جنوب أفريقيا، والاثنتين كانتا خاضعتين لسيطرة الاستعمار البرتغالي. ومع رفض المؤسسات الغربية والاتحاد السوفيتي تمويل المشروع كان على كلا الدولتين أن تلجئا إلى الصين.

 

كانت الصين تعيش في خضم ثورتها الثقافية. ورغم أن الريف الصيني في ذلك التوقيت لم يكن أحسن حالًا من الريف الإفريقي، إلا أن تطلعات الأنظمة الثورية غالبًا ما تفرض نفسها. وافقت الصين على تنفيذ المشروع الذي أطلقت عليه «خط الحرية»، وأصحبته بحملة دعاية براقة حول مقاومة الهيمنة، وبناء تحالف مع الأفارقة في مواجهة الكولونيالية الغربية والسوفيتية، وكانت من المعتاد أن تبث برامج التلفاز الصيني أسئلة ومعلومات عن تنزانيا وفقرات باللغة السواحيلية تتحدث عن تطورات المشروع وتحدياته. 


ورغم أن المغامرات الخارجية الصينية في ذلك التوقيت بلغت نهايتها سريعًا، إلا أن البلاد حافظت على نفوذها الصامت في أفريقيا حتى الآن عبر ريادتها في مجال الاستثمار في البنية التحتية في الدول الفقيرة. وظل الحضور الصيني خافتًا إلى الغرب في منطقة الشرق الأوسط، التي يطلق عليها الصينيون منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا. إلا أن هذه الأوضاع تشهد تغيرات متسارعة في الأعوام الأخيرة.

 

المحاريب الحمراء في قلب صحاري العرب

"كل شيء يتم إنتاجه على وجه الأرض موجودٌ هنا. تحمل العربات بضائع لا تحصى إلى الأسواق، حيث كلّ شيءٍ متوافر ورخيص. الأقمشة المزركشة، الحرير المطرّز، اللؤلؤ والأحجار الثمينة معروضةٌ في كلّ أرجاء السوق ومتاجره."دو هوان: عالمٌ صيني متحدثًا عن بغداد العباسية.

 undefined


على الطراز الصيني التقليدي، تصطف الممرات المزينة بالفوانيس الحمراء المدلاة من الأسقف في مدينة التنين التجارية. ولكن التنين قرر هذه المرة أن يفارق قواعده في بكين إلى نزهة تبدو أنها ستطول في قلب جزيرة العرب. تم افتتاح المدينة الجديدة خلال الأيام الأخيرة من العام 2015 في مدينة المحرق البحرينية ثالث أكبر مدن البلاد، وخامس محافظاتها، والتي تقع شمالي العاصمة المنامة. تمتد المدينة التجارية على مساحة 50 ألف كيلو متر وتحوي أكثر من 780 وحدة تجارية، منها 400-500 وحدة على الأقل تستفيد منها شركات صينية، فيما تركت بقية الوحدات للشركات الغربية والمحلية مع معدلات إشغال تقترب من 100%، وتدار المدينة بواسطة شركة «الصين الشرق الأوسط لتعزيز الاستثمار والتجارة»، أحد أكبر الشركات الصينية، وتعرف اختصارًا باسم (تشيناماكس).

 

تدير تشيناماكس أيضا سوق التنين (دراجون مارت) في دبي، وهو أكبر مركز صيني لتجارة الجملة والتجزئة خارج الصين، ويعد بمثابة سوق عالمي يستضيف مائتي جنسية مختلفة. وفي حين اختيار دبي، المركز التجاري العالمي، يبدو غير مفاجئ، فإن التوجه إلى البحرين على وجه التحديد لاستضافة مشروع بهذا الحجم يعكس طبيعة نظرة الصينيين، حيث تعد المملكة الصغيرة أحد أفقر الاقتصادات الخليجية مع عدد قليل نسبيًا من السكان، وفرص أقل من الناحية الاقتصادية، ويزعم الصينيون أن المدينة البحرينية تستهدف بشكل أكبر السوق السعودي، حيث يتدفق السعوديون إلى جارتهم الصغيرة خلال العطلات الأسبوعية والموسمية،

في ظل معاناة الشركات الأجنبية من قيود العمل داخل السعودية بسبب القوانين المحافظة. إلا أن هذا الالتباس يمكن تفسيره من خلال تأكيد «هنري هو»، مدير المشروعات في تشيناماكس، أن معارض وأسواق التنين لا تقتصر أهدافها على التجارة، ولكنها تهدف أيضًا إلى تعزيز الثقافة الصينية، وهو الهدف المعلن لخطة التنمية الخاصة بالشركة. وتقوم الشركة بتوفير دورات في اللغة والثقافة العربية إلى الشركات المستقدَمَة لمساعدتهم على التغلب على الصدمات الثقافية والحواجز اللغوية، وذلك على الرغم من شكوى العديد من الشركات من قلة المبيعات، وهي الظاهرة التي يعزونها بشكل رئيس إلى عدم الثقة في المنتجات الصينية، واعتياد الخليجيين على استهلاك المنتجات الغربية.

 

ورغم أن معظم الشركات الصينية الكبرى هي شركات حكومية، إلا أنه لا توجد معلومات حول وجود صلت رسمية بين تشينا ماكس والحكومة الصينية، باستثناء أن «زيد جي هونج»، نائب رئيس مجلس إدارة الشركة، كان عضوًا سابقًا في السلك الدبلوماسي الصيني. وبشكل عام، يشهد حجم التبادل الصيني الخليجي ازديادًا يستحق الانتباه.
 

undefined

 

خيط اللؤلؤ: خطة مارشال الصينية؟

"تضرب جذور الصداقة بين الصين والدول العربية في أعماق التاريخ. وتظل الأمتان العربية والصينية مرتبطتان بطريق الحرير برًا وبحرًا على مدار أكثر من ألفي عام."

– من وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية يناير/كانون الثاني 2016

 

في ديسمبر (كانون الثاني) 2014 أطلق الرئيس الصيني تشي بينغ دعوته للشركات الصينية للانطلاق نحو العالمية. قبل ذلك الموعد بستة أشهر فقط كان الرئيسي تشي يلقي كلمته الافتتاحية أمام الدورة السادسة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني العربي، مؤكدًا على أهمية السنوات القادمة في مسار التعاون الصيني العربي، وداعيًا إلى إحياء روح طريق الحرير وتعزيز الاستفادة المتبادلة بين الحضارات.
 

كان الرئيس الصيني قد أعلن للتو قبل أشهر من هذا الظهور عن مبادرته المعروفة باسم «حزام واحد طريق واحد»، والتي تعرف اختصارًا بـ «خطة الحزام والطريق»، وأعرب عن نيته إحياء وتطوير طريق الحرير التاريخي.

الرئيس الصيني شي جين بينغ يتحدث في الجلسة الافتتاحية للاجتماع الوزاري السادس لمنتدى التعاون الصيني العربي. بكين
الرئيس الصيني شي جين بينغ يتحدث في الجلسة الافتتاحية للاجتماع الوزاري السادس لمنتدى التعاون الصيني العربي. بكين
 يتفرع طريق الحرير في خطة تشي إلى قسمين: حزام الحرير البري الذي يقتفي أثر طريق الحرير التقليدي، مرورًا بوسط وغرب آسيا والشرق الأوسط وصولًا إلى أوروبا، عبر شبكة معقدة من خطوط الشحن البري والبنية التحتية التي يدعمها بنك الاستثمار الأسيوي الذي أنشأته الصين خصيصًا لهذا الغرض. 


أما القسم الثاني المكمل فيسمى بطريق الحرير البحري ويمتد من جنوب شرق آسيا إلى شمال إفريقيا، ليربط بين بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي والمحيط الهندي، وصولًا إلى البحر المتوسط مرورًا بالبحر الأحمر والخليج العربي. ووفقًا لرؤية الصين، تطرح مبادرة الحزام والطريق على الدول المستهدفة، وعددها 30 دولة على الأقل، التعاون وفق صيغة «1+2+3»  المتمثلة في اتخاذ مجال الطاقة كمحور رئيسي، ومجالي البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمارات كجناحين، ومجالات الطاقة النووية والفضاء والطاقة المتجددة كنقاط اختراق.

 

بحكم الجغرافيا، تحتل منطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي على وجه الأخص، بما في ذلك إيران جغرافيًا، أهمية خاصة في الخطة الصينية، حيث يلتقي جناحا الطريق الصيني. ونتيجة لذلك، اتجهت الصين خلال العامين الماضيين لتقوية علاقتها مع بلدان المنطقة، وهي الجهود التي بلغت ذروتها في مطلع العام المنصرم 2016، حيث أجرى الرئيس الصيني زيارة استمرت لمدة خمسة أيام شملت المحطات الثلاث الأهم في الشرق الأوسط، السعودية وإيران ومصر.

وتم خلال الزيارة توقيع اتفاقية الشراكة الشاملة بين الصين والسعودية، لتنضم الرياض بذلك إلى قطار يضم ثمان دول عربية أخرى ترتبط باتفاقات شراكة مع الصين، وتشمل مصر والجزائر والإمارات وقطر والأردن والعراق والسودان وجيبوتي.

 

في واقع الأمر كانت السعودية هي آخر دول العالم العربي اعترافا بجمهورية الصين الشعبية عام 1989 منتظرة قرابة 4 عقود على تأسيس الأخيرة. حدث التطور في العلاقات بين البلدين إثر نهاية الحرب الباردة وتقلص المخاوف السعودية بشأن المد الشيوعي. لم يستغرق الأمر أكثر من عام واحد كي تقيم السعودية علاقة دبلوماسية كاملة المعالم مع بكين، وتذبح 4 عقود من العلاقات المستقرة مع تايوان كقربان على أعتاب المعبد الأحمر.

 undefined

 

ولكن الأمور لا يبدو أنها ستتوقف عند هذا الحد. في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، التقى المبعوث الخاص للرئيس الصيني مع العاهل السعودي في الرياض حيث تم الكشف عن خطة خمسية مشتركة للتعاون الأمني تشمل تدريبات عسكرية مشتركة. قبل هذا التاريخ بشهر واحد، أجرت السعودية والصين أول مناورات عسكرية مشتركة في تاريخهما في مدينة تشونغ تشينغ جنوب غربي الصين تحت شعار مكافحة الإرهاب، وهو التمرين الذي أطلق عليه اسم «تعايش الاستكشاف».


يمكننا كذلك أن نرصد بسهولة الاهتمام السعودي المتزايد بسوق السلاح الصينية خلال العام الأخير الذي شهد توترا ملحوظا في العلاقات السعودية الأمريكية. فرغم قيام إدارة أوباما بعرض 42 صفقة تسليح منفصلة بقيمة تتجاوز 115 مليار دولار على السعوديين، إلا أن الأسلحة الأمريكية غالبًا ما تكون مصحوبة بالكثير من الشروط خاصة في مجال تكنولوجيا الصواريخ، خوفًا من المساس بشراكتها الدفاعية طويلة الأمد مع إسرائيل، فضلًا عن أن السعودية تمتلك تاريخًا من الالتفاف على الولايات المتحدة، عبر شراء الأسلحة الهجومية من الصين، يعود إلى عام 1985 (قبل إقامة علاقات دبلوماسية رسمية)، حين قامت السعودية سرًا بشراء صواريخ بالستية متوسطة المدى وتسع قاذفات صواريخ من بكين.

 

وفود الجيش الأحمر

"من الواضح أن جيبوتي ستكون لؤلؤة جديدة في سلسلة الصين" 

– توشي يوشيهارا، رئيس دراسات آسيا والمحيط الهادئ بكلية البحرية الأمريكي

 

في عام 2011، كان على البحرية الصينية أن تقوم بتنفيذ عمليتها الأكبر منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية أواخر الأربعينات. لم تكن العملية أحد الاشتباكات العسكرية التي لا تتوقف وسائل الإعلام عن التحذير من حدوثها في بحر الصين الجنوبي.

undefined

كانت العملية ببساطة هي خطة إجلاء بحري لأكثر من 35 ألف مواطن صيني من ليبيا، في أعقاب قيام الثورة الليبية وتدخل الناتو للإطاحة بالقذافي. اعتمدت الصين في هذه العملية على تمركز القطع البحرية الصينية بشكل تقليدي في مضيق عدن لمكافحة القرصنة. أكدت تلك التجربة للصينيين أهمية الأصول البحرية، وأضافت زخمًا لطموحات الصين في بناء أول قاعدة بحرية لها بعيدًا عن بحر الصين الجنوبي.

 

لم يكن اختيار الصين لمقر قاعدتها الجديدة في جيبوتي أقل غرابة من قيامها بتمويل خط سكة حديد تنزانيا – زامبيا منتصف الستينيات. منذ عام 2015، ضخت الصين أكثر من 14 مليار دولار في تنمية البنية التحتية في جيبوتي، قبل أن تعلن في يناير (كانون الثاني) الحالي تأسيس قاعدتها البحرية هناك. وتخطط الصين الآن لتسكين 10 آلاف شخص في قاعدتها الجديدة على البحر الأحمر بمجرد الانتهاء من تشييدها.

 

وكما فعلت في دول الخليج، فإن الصين لعبت أيضًا باستخدام قوتها الناعمة في جيبوتي. فبخلاف استثماراتها في البنية التحتية، أسست الصين معهدًا جديدًا باسم كونفوشيوس من أجل توطيد الروابط الثقافية. ولكن جيبوتي لا تعدو رغم ذلك أحد محطات المناورة العسكرية حديثة العهد للصين في الشرق الأوسط، وإن كانت أكثرها وضوحًا.


كانت البدايات الأولى في عام 2010 حين رست سفن صينية في ميناء زايد في الإمارات، كجزء من جهود مكافحة القرصنة في خليج عدن، وفي العام نفسه قامت طائرات صينية بالتزود بالوقود من إيران في طريقها إلى تدريبات في تركيا، في أول زيارة تقوم بها طائرات حربية أجنبية لإيران منذ ثورة 1979. وفي عام 2014 وصلت السفن الحربية الصينية لأول مرة إلى ميناء بندر عباس جنوب إيران، للمشاركة في تمرينات إغاثة بحرية استمرت لمدة أربعة أيام. وقبل ذلك بعام تقريبًا قامت المدمرة الإيرانية سبلان وحاملة طائرات هيلوكوبتر إيرانية وعدد من القطع البحرية الأخرى بزيارة مماثلة لميناء تشانغ الصيني.

 

التحديق في الهاوية

"تلتزم الصين في علاقاتها مع الدول العربية بالمبادئ الخمسة المتمثلة في الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمنفعة المتبادلة والتعايش السلمي."

– وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية

خلال الثمانينيات والتسعينيات، باعت الصين لإيران صواريخ كروز الباليستية، والصواريخ المضادة للسفن والألغام المتقدمة وزوارق التدخل السريع.
خلال الثمانينيات والتسعينيات، باعت الصين لإيران صواريخ كروز الباليستية، والصواريخ المضادة للسفن والألغام المتقدمة وزوارق التدخل السريع.
 إذا أدمت التحديق في هاوية ما فإنها ستحدق فيك أيضًا كما يخبرنا فريدريك نيشته، وهذا ما تخشى الصين وقوعه. يرفض الصينيون بشدة وصف مبادرة الحزام والطريق بأنها مشروع مارشال جديد بالمقارنة مع خطة مارشال لتعزيز الاقتصاد الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من أجل طمأنة شركائهم بشأن حرصهم على تبني التجارة المتبادلة، وليس فرض المنتجات من طرف واحد.


ولكن جزءً من الرفض الصيني يمكن عزوه إلى رغبة الصين في عدم ربط خطتها الجديدة بأي أبعاد عسكرية، خوفًا من إثارة ذعر الولايات المتحدة من ناحية، وخوفًا من التورط في صراعات الشرق الأوسط من ناحية أخرى. وعلى مدار العقود الماضية، فضلت الصين تبني سياسات غير منحازة تجاه مشكلات الشرق الأوسط، وخاصة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والصراع السعودي الإيراني، وساعدها على ذلك عدم وجود اشتباك عسكري مباشر لها في الشرق الأوسط، على النقيض من الولايات المتحدة. ولكن إشارات عدة تخبرنا أن هاوية الشرق الأوسط قد بدأت تحدق في أعين الصين أيضًا.

 

في عام 2015 كانت الصين على موعد مع نقلة جديدة في مغامراتها البحرية، بعد أن أعلنت عن إجراء مناورات مشتركة مع روسيا في البحر المتوسط. ويبدو أن المغامرة الروسية الناجحة حتى الآن في الشرق الأوسط قد أسالت لعاب بكين. وفي تخل عن حذرها التقليدي، أعلنت الصين في أكتوبر الماضي عن اتفاق مع حكومة دمشق لتقديم المساعدة والتدريب والعسكري، متجاهلة الديناميات الإقليمية للأزمة في سوريا، ما يوضح رغبة بكين في الحصول على موطئ قدم في شرق المتوسط.

 

يمكننا أن نفهم معضلة البحار في استراتيجية الأمن القومي الصيني حين نعلم أن 90% من التجارة الصينية تمر عبر طرق الشحن البحرية. تعرف هذه المعضلة الأمنية باسم معضلة ملقا، نسبة إلى مضيق ملقا الذي يمتد بين غرب ماليزيا وجزيرة سومطرة الأندونيسية، وتمر خلاله 50 ألف سفينة سنويًا تمثل حجم ربع تجارة الشحن العالمية.

وعلى الرغم من محاولات الصين المتعددة لبناء خطوط أنابيب لتقليل اعتمادها على مضيق ملقا إلا أنها فشلت في ذلك، واكتشفت أنه لا بديل عن الشحن البحري للطاقة، ما دفعها نحو تبني استراتيجية «خيط اللؤلؤ» لربط الموانئ في بحر الصين الجنوبي، وهو الخيط الذي توسعه بكين عبر مبادرة الحزام والطريق، في محاولة للهرب من التطويق الأمريكي في بحر الصين الجنوبي.

يشير الكابتن لي جي، من معهد بحوث البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، في صحيفة ميليتاري دايجست، إلى أنه مع استمرار الولايات المتحدة في الضغط على الفراغ الاستراتيجي للصين، فإن ممر البحر الشرقي «يصبح في خطر كبير». لذا كان طريق الحرير البحري مهربًا استراتيجيًا للصين التي تعول على عقد اتفاقات عسكرية لنشر قوات التدخل السريع والسفن الحربية على طول الطريق.

 

آخر هذه الاتفاقات كانت من نصيب إيران، وتم توقيعه في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي خلال زيارة وزير الدفاع الصيني إلى طهران. من بين جميع دول الشرق الأوسط، تحظى بكين بعلاقات أكثر عمقًا مع طهران، حيث تتشارك كلا البلدين الرغبة في تحجيم الهيمنة الأمريكية. وخلال الثمانينيات والتسعينيات، باعت الصين لإيران صواريخ كروز الباليستية، والصواريخ المضادة للسفن والألغام المتقدمة وزوارق التدخل السريع. كما عرضت بكين المساعدة على طهران من خلال تدريب المهندسين النوويين الإيرانيين والمساعدة في التنقيب عن اليورانيوم.

 

undefined

 

الأحبال المشدودة

يفخر الصينيون أن لديهم سجلًا ورديًا من السير على أحبال الدبلوماسية المشدودة، لذا يبدو أن المغامرة الصينية سوف تستمر على أي حال. تزداد حاجة بكين الطاقة ومن المرجح أن تصبح كبر مستهلك للطاقة في العالم عام 2030 وأن ينمو طلبها على النفط من 6 ملايين إلى 13 مليون برميل يوميا عام 2035. وقد زادت هواجس بكين حول أمن الطاقة مع زيادة الاضطرابات في الشرق الأوسط، والتي جاءت متزامنة مع صعود الرئيس تشي جين بينغ إلى السلطة. لا يبدو أن تشي، الذي يرى نفسه خليفة لماوتسي تونغ، يفتقر إلى الجرأة الكافية لخوض المغامرات.

 

بالإضافة إلى الأسباب المعلنة والبدهية الدافعة للطموح الصيني، مثل أمن الطاقة والقدرة على تأمين وإجلاء المواطنين الصينيين في مناطق النزاعات، والربط الاستراتيجي بين منطقة الشرق الأوسط ومعاقل النفوذ الصيني في أفريقيا، وتأمين طرق التجارة البحرية واستغلال الفرصة لتعزيز التواجد العسكريز
undefined

ربما ترى الصين أن الفرصة باتت مواتية لمزاحمة الولايات المتحدة في عمقها الاستراتيجي، بعد أن قررت الولايات مزاحمة الصين في عمقها الخاص بعد تبني إدارة أوباما لاستراتيجية التحول إلى آسيا. الولايات المتحدة بدورها ليست غافلة عن التحركات الصينية في المنطقة، حيث حذر كل من وزير الخارجية ووزير الدفاع في الإدارة الأمريكية المنتهية ولايتها منذ أيام من أن تزايد نفوذ الصين في جيبوتي يهدد المصالح الاستراتيجية الأمريكية في القرن الأفريقي.

 

يخشى البعض من اندلاع مواجهة أمريكية صينية في منطقة الشرق الأوسط، في ظل تولي ترامب مسؤولية البيت الأبيض، متبنيًا خطابُا شديد اللهجة في مواجهة الصين. لكن جون بومفريت يخبرنا، في بحث مستفيض حول نمط العلاقات الأمريكية الصينية، أن الخطاب المتشدد للمرشحين الأمريكيين سرعان ما يتحول إلى خطط للتقارب والاعتماد أو الاحتواء على أقل التقديرات، بداية من دعم ريغان لغزو بكين في فيتنام عام 1979، وصولًا إلى صمت الولايات المتحدة عن أحداث ساحة تيانانمين بعد ذلك بعقد من الزمان. فضلًا عن أن دول المنقطة، باستثناء إيران، لا تبدو على استعداد جاد للمناورة بعيدًا عن الولايات المتحدة، برغم كل الحديث عن توتر العلاقات والانسحاب الأمريكي.

 

في حال افتراضنا بأن الصين سوف تتخلى عن حبل الدبلوماسية التقليدي، سعيًا نحو لعب دور مهيمن في الشرق الأوسط، وهو احتمال يبدو مستبعدًا، حيث لا تزال بكين تركز بشكل رئيسي على حماية مصالحها (المتوسعة). في حين يرغب العرب في جني الفوائد الاقتصادية لطموحات الدولة الأكبر عالميًا، مع السعي للاستفادة من هوامش المناورة بين القوى العالمية التي تواصل التدفق كعادتها إلى ديارهم.

المصدر : الجزيرة