شعار قسم ميدان

ميدان يحاور بسام جرّار.. هل ستزول إسرائيل عام 2022؟

اضغط للاستماع

مع تجدُّد المواجهات بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، والفجوة العسكرية الواضحة بين الطرفين لصالح الاحتلال رغم ارتفاع قدرة المقاومة على الردع في السنوات الأخيرة بفعل برنامج عسكريّ طموح، تتزايد التساؤلات حول إمكانية تحقيق الفلسطينيين النصر في مواجهة حربية مختلة الموازين، أو إذا ما كان الاحتلال سيزول في النهاية رغم آلة البطش العسكرية التي يمتلكها، والدعم الدولي، ناهيك عن تواطؤ غالبية الأنظمة العربية. في هذه المقابلة يطرح علينا الباحث والمفكر الإسلامي الفلسطيني تنبؤاته حول زوال دولة إسرائيل، ورغم تأكيده أن هذه التنبؤات الزمنية مجرد اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، فإنه يجزم أن زوال الاحتلال سيكون أقرب مما يظن الجميع.

"هذا الأمر يحتاج إلى سجن"، هكذا بدأت قصة الشيخ الفلسطيني المهتمّ بتفسير القرآن وعلومه مع ما يدعوه "الإعجاز العددي في القرآن الكريم"، وهي النظرية الرياضية التي استنبط منها النبوءة الشهيرة عن زوال "إسرائيل" في العام 2022 ميلادية.

بدأت الحكاية منذ اطلاع الشيخ بسام جرار على كتاب لرجل مصري مهاجر إلى الولايات المتحدة ومتخصص في الكيمياء الحيوية، يُدعى رشاد خليفة، وَسَمَ خليفة كتابه بعنوان "معجزة القرآن الكريم"[1]. بدا عمل خليفة متناقضا، فمن جهة يتضمّن مقدمات من شأنها أن تقود إلى معطيات أكثر وأكبر، ومن جهة أخرى تضمّن العمل تلفيقات وكأنّها متعمدة، وفي الأثناء كان هناك من سبق الشيخ بسام جرّار في البحث حول الملاحظات العددية في القرآن الكريم والتي ضمّن بعضها خليفة كتابه، وهو السوري صدقي البيك الذي ألّف كتابا بعنوان "معجزة القرآن العددية"[2]، بيد أنّه بالإضافة إلى التلفيقات التي تورّط بها خليفة، فقد اتُّهم بالبهائية، ثمّ ما لبث أن ادّعى الرسالة، ثم اغتيل في العام 1990.

هذه الأسباب كلّها كافية لصرف النظر عن متابعة البحث، إلا أنّ الشيخ بسام جرار رأى في حينه أن عدّ حروف المصحف، في ذلك الوقت الذي كان يخلو من التطبيقات الإلكترونية المساعدة، يحتاج إلى فريق لا يمكن أن يجده إلا في السجن، فألقى كتاب خليفة وقال على مسمع من زوجه: "هذا الأمر يحتاج إلى سجن"، وقد سُجن بالفعل بعد ذلك في سجن النقب الصحراوي "أنصار 3" لدى الاحتلال الإسرائيلي، وأَرسلت له زوجه الكتاب مع المحامي، لتبدأ الرحلة الجدّية مع عشرة شباب في السجن في إحصاء أحرف فواتح السور، وهي الرحلة التي أفضت أوّل الأمر عن كتابه "إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم: مقدّمات تنتظر النتائج"[3]، لتتوالى بعد ذلك عشرات البحوث والدراسات والكتب.

"إعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم: مقدّمات تنتظر النتائج" (مواقع التواصل)

أمّا حكاية زوال "إسرائيل" عام 2022، والمبنيّة في أصلها على نظرية إعجاز الرقم 19، فلم تكن لتخلو بدورها من المفارقة كذلك، إذ كان الباعث عليها نبوءة عجوز يهودية، سَرَدَها المنظّر الإخواني الشهير محمد أحمد الراشد في محاضرة له، مفادها أنّ عجوزا يهوديّة عراقية دخلت باكية على والدة الراشد حين قيام دولة "إسرائيل"، وقد أثار بكاؤها استغراب والدة الراشد، وهو ما بددته العجوز بقولها إن هذه الدولة لن تدوم أكثر من 76 سنة، وبالرغم من أنّ هذه النبوءة لم تَرُق للشيخ أول الأمر، فإنّه تابعها لاحقا، لفحص صدقيتها، وباعتبار أنّه يملك من المقدّمات العددية ما قد يساعد في كشف ذلك، وهو الأمر الذي تمّ في جنوب لبنان، حينما قامت "إسرائيل" بإبعاد عدد من قيادات وكوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور في العام 1992، وليصدر كتابه "زوال إسرائيل 2022م نبوءة أم صُدف رقمية"[4] في العام 1995.

وفي حين تقلّ الإضاءة على الرموز العلمية والدينية في فلسطين لصالح السياسي، يبدو الحديث مع الشيخ بسام جرّار مثيرا لاقتراب زمن النبوءة دون ظهور مقدّمات ماديّة تعزّزها كما يقول كثيرون، وفي وقت تظهر فيه اعتراضات متعددة، سواء على النبوءة أم على مسألة الإعجاز العددي، وذلك في وقت تتكثّف فيه الاعتداءات على المسجد الأقصى وتتبدّى فيه هيمنة الاحتلال الإسرائيلي دوليا وإقليميا، وعليه فقد تطرّق حوار "ميدان" مع الشيخ بسام جرار لهذه الموضوعات، وغيرها مما ينشغل به جرّار من قضايا سياسية وفكرية.

بسام جرار (مواقع التواصل)

ميدان: بالنظر إلى آخر أبحاثكم المنشورة حول نبوءة زوال إسرائيل، فإنكم تبدون كمن يزداد اقتناعا بهذه النبوءة، بيد أنّ هناك اعتراضات من وجوه متعددة على النبوءة، أولها أن المعطيات الواقعية لا تشير إلى إمكانية زوال إسرائيل خلال ثلاثة أعوام أو أقل، فما الذي يمكنكم قوله بهذا الخصوص؟!

* جرار: لا نقول إن الأمر سيحصل 100%، ولكن الأبحاث منذ العام 1992م إلى اليوم تزيدنا قناعة بصدقيّة التوقعات إلى درجة تتعدى الـ 95%. دخل الاتحاد السوفييتي أفغانستان العام 1979م، وظن الناس أنّ أفغانستان قد دخلت بطن الدب الروسي الشيوعي، وأنه لا شك سيهضمها؛ فموازين القوى والواقع يؤكدان ذلك دون شك. فكانت المفاجأة أنّه بعد 11 سنة ينهار الاتحاد السوفييتي، وتأفل شمس الشيوعيّة، ويُخرج الدب الروسي من بطنه عددا من الجمهوريات المستعمرة.

وكأن الأحداث كرة بدأت صغيرة تتدحرج، فتكبر وتكبر. وفي كل يوم نُفاجأ بواقع جديد. وها هو حلف الأطلسي، وها هي أميركا، تُذلّ في أفغانستان، فلم يعد الحلف هو الحلف، ولم تعد أميركا هي أميركا. وبات حديث الناس اليوم حول تراجع أميركا عالميا، وبات الحديث عن دولار واقتصاد يوشك أن ينهار. مَن يرصد التغيّرات داخل إسرائيل على مستوى الشعب والقيادة يدرك أنه مجتمع هشّ، فَقَدَ الكثير من مقومات الاستمرار والبقاء. يُضاف إلى ذلك تراجع أهميّة إسرائيل بالنسبة للغرب الذي أوجدها لأهداف لم تعد ذات جدوى؛ فإسرائيل وجدت في ظروف دولية وإقليميّة لم تعد موجودة.

ميدان: تدفعنا إجابتكم هذه للسؤال عمّا تقولونه دائما عن أنّ الأمّة في صعود. لا ريب أنّه لا يخفى عليكم أنّ هذا التشخيص لواقع الأمّة قد يخالفكم فيه أكثر الناس. فما الذي تقصدونه بالصعود، وما معالمه؟!

* جرار: لو نظرنا إلى واقع الأمة عندما قامت إسرائيل عام 1948م لوجدنا أنّ السائد كان هو الأميّة، والتخلف العلمي والتكنولوجي، وعدم الثقة بالنفس والشعور بالدونيّة في مواجهة الغرب، وفقدان البوصلة والشك في الذات الحضاريّة، والرغبة الجارفة في تقليد الآخر حتى في سلبياته وأمراضه. يضاف إلى ذلك قدرة الاستعمار على التلون والخداع إلى درجة أننا ظننا أننا قد حققنا الاستقلال وامتلكنا إرادتنا وقدرتنا على الفعل المستقل.    

أما اليوم فالواقع يختلف اختلافا كبيرا؛ من حيث الوعي، والعلم، والقدرة على جسر الهوة في عالم التكنولوجيا. وقبل ذلك كله العودة إلى الذات الحضاريّة، والثقة بالذات، وإدراك الواقع على حقيقته. ومن هذا الواقع حقيقة أننا لم نستقلَّ يوما، ولم نكن نمتلك إرادتنا طوال أكثر من قرن، وتبيّنت حقيقة الأنظمة الحاكمة المصنوعة بألوان خادعة.

أصبحت الرؤية واضحة والقناعات أكيدة، وهذه مقدمات لا بد منها للسير في الطريق. ولو نظرنا إلى حدّة رَدة فعل الاستعمار، بأشكاله وألوانه، على نهضة الشعوب وثوراتها، لأدركنا حقيقة أننا ننهض وأننا في الطريق الصحيح. ووفق سنن التاريخ والاجتماع البشري لا يكون خلاص حتى يكون احتيال ومؤامرة وصبر ومصابرة، ومن يطلب الحسناء لم يُغلها المهر، وقضاء الله نافذ: "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ".

ميدان: عودة إلى نبوءة زوال إسرائيل، ثمّة مَن يعترض على منهجيتكم، حتّى ممن لا يخالفكم جوهريّا في إمكانية وجود إعجاز عدديّ في القرآن، أهم الاعتراضات المنهجية أن الشيخ وضع فرضية سابقة، وهي نبوءة تلك المرأة اليهودية، ثم بحث لتلك النبوءة عن أدلة من القرآن، أو أن الشيخ يتخير من الكلمات القرآنية ما يُفضي في النهاية إلى عام 2022.

* جرار: النبوءة القرآنية في سورة الإسراء يعلمها الجميع، وقد قمنا بتفسير فواتح سورة الإسراء في 8 دروس يضاف إليها درس تاسع بعنوان وعد الآخرة فتكاملت الصورة. أما متى؟! فكان لا بدّ من مفتاح، وتمثّل هذا المفتاح في أول كتاب أخرجناه عام 1990م يتعلق بالإعجاز العددي في القرآن الكريم. وبعد سنتين تبيّن لنا أنّ اليهود لديهم نبوءة تتعلق بالمسألة. وفواتح سورة الإسراء تنص بوضوح أنّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل النبوءة في التوراة: "وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ….. وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ…". وفي الاعتقاد الإسلامي أنّ التوراة قد حُرّفت، وهذا يعني أنّ فيها ما هو حق. ومن هنا كانت بداية البحث في القرآن الكريم للتحقق من صدقيّة زمن النبوءة.

مسألة الإعجاز العددي هي مسألة استقرائيّة وليست من قبيل الرأي أو الاجتهاد القابل للأخذ والرد

ويفترض للتحقق أن نذهب إلى الآيات القرآنيّة ذات الصلة بالمسألة، وتوظيف معرفتنا السابقة بالنظم العدديّة للألفاظ القرآنيّة، فكانت المفاجآت. إذن أنت لا تتخيّر؛ بل أنت تنظر في الآيات ذات الصلة، ثم تجد أعدادا ينظمها نسيج، ولم تكن يوما ملاحظات مبعثرة. ولكن من تعامل مع المسألة بالنظر في العناوين العريضة فقط، ولم يتابع تفصيلات ما عرضناه، قد يتوهّم أننا نتخيّر ما يوافق النتائج المطلوبة. ونشك أنّ هذا هو ما يقتنع به من تابع فعلا وعرف حقيقة ما يُطرح.

ميدان: سيبقى احتمال عدم وقوع النبوءة قائما، وهو ما تنوّهون إليه أحيانا، في هذه الحالة، يسأل كثيرون عن موقفكم في حال عدم وقوعها.

* جرار: من أول يوم نبّهنا إلى أنّ الأمر هو احتمال راجح، وحذّرنا من الجزم بالمسألة. ومن هنا جاء عنوان الكتاب الأول هكذا: "زوال إسرائيل 2022م نبوءة أم صدف رقميّة"، وقلنا في المقدمة: "لا نقول إنها نبوءة ولا نقول إنها ستحصل". ولكن تواتر الملاحظات، وبشكل مذهل، جعل البعض يجزم بالمسألة. وبما أنه ليس بنص واضح، وإنما نُظم عددية، فالعقل يجعل هناك احتمالات لمثل هذا النظم، وإن كانت احتمالات ضعيفة جدا. في المقابل لو تحققت التوقعات فسيعود الناس للنظر في النُّظم التي تمّ استكشافها في القرآن الكريم، مما يعني انعكاس ذلك بعمق على كل ما يتعلق بالدراسات القرآنية، وعلى وجه الخصوص الدراسات المتعلقة بالإعجاز وإثبات أنّ القرآن الكريم هو ربّانيّ المصدر.

ميدان: يقودنا ذلك لقضية الإعجاز العددي، والتي تعلمون أن لكم فيها مخالفين كما لكم شركاء يتفقون في المبدأ وإن خالفوكم في المنهج أو التفاصيل، ثمّة مَن يرفض المبدأ نفسه لأنه غير معروف عن السلف، وثمّة مَن يستدلّ بخلافات أصحاب الإعجاز العددي حول بعض المسائل كحساب الجُمّل، أو طريقة عدّ بعض حروف الرسم العثماني، أو اختلاف العدد أو اختلاف القراءات.. يستدلّون بذلك على اضطراب حكاية الإعجاز برمتها، فهل لكم الوقوف قليلا عند بعض هذه الاعتراضات وردودكم عليها؟!

* جرار: مسألة الإعجاز العددي هي مسألة استقرائيّة وليست من قبيل الرأي أو الاجتهاد القابل للأخذ والرد. فعندما نقول مثلا: "إن سورة النحل هي السورة 16 في ترتيب سور المصحف، وأن كروموسومات ذكر النحل هو 16 كروموسوم"، فأين الرأي ووجهة النظر في مثل هذه المسألة؟!! إلا أن يقال إن ذلك جاء مصادفة. وعندها يأتي دورنا لنبيّن ونفصّل الكلام في ارتباط العدد 16 بالسورة وما يتعلق بلفظة النحل في القرآن الكريم، بحيث يحكم العقل بامتناع حصول المصادفة.

"سورة النحل هي السورة 16 في ترتيب سور المصحف، وكروموسومات ذكر النحل هو 16 كروموسوم" (مواقع التواصل)

أما كون السلف لم يتحدّثوا في المسألة فهذا أمر جيد، لأننا بذلك نثبت أن الرسول عليه السلام لا دخل له في صياغة القرآن الكريم؛ لأنه لو كان هو مَن صاغ القرآن وتعمّد أن يقيم ألفاظه على نظم عددية لأخبر أتباعه ليقنعهم. وهل كان يعلم أننا بعد 1400 سنة سنقوم باكتشاف ما افتعله؟!! ثُمَّ مَن يستطيع من المسلمين أن يزعم بأنّ السلف قد أحاطوا بكل ما في القرآن من علوم؟!! ومَن يزعم ذلك فقد افترى إثما مبينا.

أما حساب الجمّل فهو موجود في لسان العرب قبل الإسلام. ومعلوم أنّ القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي. من هنا تأتي الأمثلة التي استقرأناها لتُثبت بشكل قاطع وجود الجمّل في الألفاظ القرآنيّة. ونقول (بشكل قاطع) استنادا إلى قانون الاحتمالات المعتمد رياضيّا، بل إنّ النظم الكونيّة هي ما يجعل البشر يجزمون بوجود الخالق سبحانه. فطالما أنّ هناك تصميما ذكيّا فلا بدّ من مصمم.

أما في مسألة عدّ الكلمات والحروف، فنحن في كل الأبحاث نستخدم المصحف السائد في العالم الإسلامي، ولا يخلو منه بيت مسلم. ولا داعي لتتبع بعض الاختلافات الناتجة عن اختلاف القراءات القرآنيّة، لأننا بصدد تجلية ما في هذا المصحف من نُظم تثبت بشكل قاطع أنّ النص الكريم محفوظ من الله سبحانه: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ". فالنظم المستكشفة هي الإثبات الأقوى أنّ القرآن الكريم قد نُقل إلينا نقلا لا تشوبه شائبة. وهذا ما نسميه الدليل الداخلي، فالقرآن نفسه هو الذي يخبرك أنّه لم يحرّف ولم يزد حرفا ولم ينقص حرفا.

مسألة الإعجاز هي المقدمة الضروريّة التي لا بدّ منها لإثبات ربانيّة المصدر

وبما أنّ القراءات القرآنيّة مأخوذة عن الرسول عليه السلام بالتواتر، فما الداعي لفرضية احتمال تناقضها، ولماذا تتناقض؟!! وقد رأينا أنّ القراءات تأتي بمعانٍ لا تتناقض، بل يفسّر بعضها بعضا وتزيدنا فهما. ثمّ إنّ مسألة الإعجاز العددي تتعلق بترتيب السور، وتتعلق بالآيات، وتتعلق بالكلمات، وأخيرا بالحروف. ولنفرض جدلا أنّ لدينا 1000 نتيجة وأنّ اختلاف القراءات أدّى إلى أن تصبح 900 نتيجة، فإنّ ذلك يكفينا لإثبات وجود الإعجاز العددي في النص الكريم. ومن هو هذا الذي أجرى البحوث على القراءات الأخرى فلم يجد المزيد من الإعجاز؟!!

ميدان: إذن أنتم تتحدثون عن أهمية الإعجاز العددي وفائدته، هل لكم ذكر بعض أوجه هذه الفائدة؟!

* جرار: مسألة الإعجاز هي المقدمة الضروريّة التي لا بدّ منها لإثبات ربانيّة المصدر. وبعد إقامة الحجّة بأنّ القرآن الكريم هو كلام الله الخالق؛ يصبح الناس على يقين من الدين الحق. والله سبحانه وتعالى أرحم بالناس؛ فلا يكلفهم إلا بعد إقامة الحجّة. والناظر اليوم في الأديان في الأرض يلاحظ أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يقدّم البرهان ويقيم الحجة. وهناك وجوه عديدة لإعجاز القرآن الكريم، وكلما تطور الناس في علومهم وتصاعد وعيهم تجلت لهم وجوه جديدة تتلاءم مع معارفهم والمستوى الذي وصلوه. ويأتي الحديث في مسألة الإعجاز العدديّ في الوقت المناسب ليحدّث الناس باللغة المشتركة بين البشر؛ لغة الأعداد، التي لا تعرف الحدود، وتستند إلى البدهيّات العقليّة. لا يسهل علينا -مثلا- أن نحدّث غير العربي في مسألة الإعجاز البياني، ولكنّه يفهم بعمق مسائل العدد ويستشعر عظمتها. والبشريّة اليوم متعطشة لمعرفة الدين الحق الذي يأخذ بيدها إلى الخلاص من جحيم الفلسفات الماديّة.

بات واضحا أنّ مسألة الإعجاز العددي في حالة تصاعد، مما يعني انهيار آلاف الأبحاث والكتب والدراسات والمحاضرات التي أثارت الشبهات حول تاريخ تدوين المصحف، ومحاولة التشكيك في عصمة القرآن الكريم من الزيادة والنقصان، وسيكون أهل الإلحاد وكهنة الاستشراق والتبشير في مأزق لا مناص منه. وهناك مسائل عديدة في علوم القرآن الكريم هي محل اجتهاد، وبالتالي محل اختلاف، فيأتي العدد القرآني فيحسم الجدال حولها. ومن ذلك مثلا: رسم المصحف وأنّه توقيفي، أي عن الرسول عليه السلام وحيا. وكذلك ترتيب سور المصحف، وعدد آيات كلّ سورة، وأسماء السور، إلخ. نلاحظ أنّ النظام الكوني يقوم على أساس من العدد: "وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا"، بل أصبحت كل فروع العلوم الكونيّة بحاجة إلى علم الرياضيات، مما يساعد في فهم الكون وتطوير العلوم الكونيّة. وما نقوله في العلوم الكونيّة نقوله في العلوم المتعلقة بالقرآن الكريم؛ فالذي خلق الكون هو مَن أنزل القرآن الكريم.

مشكلة الأمة الأساس تكمن في النظم القائمة التي تتسلط على رقاب الأمة، وتعمل على ضبط وتيرة تطورها لصالح قوى استعماريّة

ميدان: بعيدا عن قضايا الإعجاز والتفسير، من ضمن دروسكم التفسيرية وقفات تشخّصون فيها أحوال الأمة، ما أبرز المشكلات السياسية التي ترونها عائقا أمام نهضة الأمة واستعادتها لمكانتها ودخولها فيما تسمونه "العالمية الإسلامية الثانية"؟

* جرار: حتى العام 1850م كانت اليابان دولة متخلفة، وكذلك ألمانيا، ولم تكن هذه الدول في حينها تقارن بتطور مصر وبعض الدول في بلاد العرب والمسلمين! وحتى العام 1949م كانت الصين في حالة تخلف تجتاحها المجاعات، وحتى العام 1980م كانت ماليزيا في عداد دول العالم الثالث، إلخ. ولم يكن الأمر في هذه الدول بحاجة إلا إلى قيادة وقرار، لا أكثر. وحتى لا نذهب في متاهات التحليلات والحذلقات؛ نقول: مشكلة الأمة الأساس تكمن في النظم القائمة التي تتسلط على رقاب الأمة، وتعمل على ضبط وتيرة تطورها لصالح قوى استعماريّة. فالأمّة لم تستقلَّ بعد، وهي في خطر طالما أنّ النظم الدكتاتوريّة تحكم وتتحكّم.

ميدان: في حين تجعلون خطابكم السياسي منصبّا على نقد ما تعتبرونه غصبا لحقّ الأمّة وعمالة للاستعمار، يخالفكم علماء دين آخرون ويعتبرون خطابكم خارجيّا، ما الحدّ الفاصل بين الخروج الشرعي على الحاكم وبين حالة الخوارج التاريخية؟! وفي هذا الصدد لا بدّ من سؤالكم عن رأيكم في اشتراط الكفر البواح للخروج عليه كما في بعض النصوص.

* جرار: العالِم الذي يتحدث عن الخوارج ولا يتحدث عن تسلّط الحكام وعن ظلمهم وعبثهم في موارد الأمّة ومقدّراتها، ولا يتحدث عن انحراف الحكام وعن عدائهم لحضارة الأمة، هو ليس بثقة، بل ومفضوح؛ فلو كانوا صادقين في نصحهم للأمّة لوجدناهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في كلّ محفل. لا بدّ في البداية أن يكون نظام الحكم شرعيّا، ولا يكون شرعيّا حتى يكون برضى الأمة واختيارها. فإذا كان نظام الحكم شرعيّا وأقام حكم الله في الأرض، فلا يجوز الخروج عليه إلا بعذر وحجة واضحة، وإلا يكون الخارج خارجيا بالمفهوم المذموم شرعا. ثمّ إنّ الخوارج لم يقتصر أمرهم على الخروج بقوة السلاح، بل ولهم مذهب في العقيدة والشريعة على خلاف الحق. والتاريخ الإسلامي حافل بالذين خرجوا آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ولم يصفهم أحد بأنهم خوارج. الكفر البواح هو الكفر الواضح البيّن الصريح، ومنه الكفر الاعتقادي ومنه الكفر العملي، والحديث الشريف لم يفرّق. ومن صور الكفر البواح إباحة الربا واعتبار الزنا حريّة شخصيّة، وتقنين ذلك وتشريعه.

ميدان: يتصل بذلك العلاقة الملتبسة بين اختيار الأمّة لحاكمها وحاكمية الشريعة في الوقت نفسه، كيف ترتّبون هذا الأمر من وجهة نظركم وتفكّون ما فيه من التباسات؟

* جرار: ما عليه إجماع الصحابة أنّ الحاكم لا بدّ أن يكون مرضيا من الأمّة، وهو وكيل عنها، وهي صاحبة الحق. ومَن اغتصب الأمّة حقها يكون قد اعتدى على أحكام الشرع. فلا معنى لزعم مَن يزعم أنّه يريد أن يطبق شرع الله ثمّ هو مغتصب لحقوق عباد الله. والبيعة للحاكم هي عقد بينه وبين الأمّة، والعقود لا بدّ فيها من رضى الطرفين. والأمّة هي الأصيل والحاكم هو الوكيل، وللأمّة الحق في الاشتراط وتقييد تصرف الوكيل.

أما ما حصل تاريخيا من وصول بعض الحكام بقوة السلاح، فيما سمّي بالحاكم المتغلّب، فواقع غير شرعي، ولكن تمّ التعامل معه كضرورة في حال وجود قطاعات عريضة من الناس تؤيّده، وفي حال كونه يقيم الشرع ويحمي البيضة. ولكن في المقابل لا يعدّ الخروج عليه خروجا بالمفهوم السلبي. أما إذا خرج على حكم الشرع في الأمور الواضحة والصريحة فقال العلماء بضرورة الخروج عليه وإزالته عن الحكم.

ميدان: أنتم من أصحاب نظرية بركة الأرض المقدسة، فلسطين، ولديكم تفسير فريد لمعاني البركة والقداسة في فلسطين من حيث وظيفة هذه البلاد، كيف يمكن أن يكون لفلسطين وظيفة فيما يتعلق بالأمّة أو العالم؟!

* جرار: فلسطين أرض مباركة، والله سبحانه وتعالى قال في حق إبراهيم عليه السلام: "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ"، فهي إذن مباركٌ فيها للبشرية. والبركة هي هنا ثبوت الخير الإلهي فيها كقانون يبقى على مدى الأزمان؛ فما يحصل فيها ينتهي إيجابيا وينعكس خيرا على البشريّة. وحتى يتضح بعض المقصود نأخذ أمثلة تاريخيّة:

– بعد معركة أجنادين في فلسطين نتج عنها معركة اليرموك على تخوم فلسطين فتغيّر وجه التاريخ في المنطقة وامتد شعاع الحق في ربوع الأرض.

– وفي حطين (في فلسطين) كان وضع الحدّ للامتداد والوجود الصليبي الغربي في الشرق الإسلامي، ورجع الصليبيون إلى بلادهم بهزيمة عسكرية، ولكنهم رجعوا بكنوز في عالم الفكر والعلم، فكانت نهضة الغرب الفكرية والعلميّة.

– واجتاح المغول والتّتار العالم بقوة طاغية همجيّة، وبلغت المساحات التي احتلّوها في العالم الإسلامي وغيره أكثر من ثلاثين مليون كيلومتر مربع، وكادوا أن يجتاحوا أوروبا، كل أوروبا، حتى كانت معركة عين جالوت (في فلسطين) وهزم المسلمون المغول والتّتار وأوقفوا زحفهم الذي كان ممتدا إلى كلّ العالم القديم. وأدّت هذه الهزيمة إلى تحوّلات جذريّة منها؛ إسلام قطاعات من المغول والتّتار، بل وأقام المغول والتّتار دولا إسلاميّة عظمى، ونشأ فيهم من الحكام من يشبه في عدله عمر بن عبد العزيز.

– وجاء نابليون بمشروع يهدف إلى احتلال الشرق الإسلامي، فاجتاح مصر وأخضعها ثمّ اجتاح فلسطين، التي عجز أن يستمر فيها أكثر من ثلاثة أشهر أو ما يقارب ذلك، وكانت هزيمته منكرة أدّت إلى إخفاق مشروعه في المنطقة.   

واليوم أنشأ الغرب إسرائيل لأهداف استعمارية، وقاعدة متقدمة في قلب العالم العربي المسلم. ولا يزال التحدّي قائما. وكان لوجود إسرائيل في فلسطين (عقر دار المسلمين) دور كبير في إيقاظ شعوب العرب والمسلمين. وقبل ذلك شكّل وجودها حاجزا نفسيا بين العرب والمسلمين وبين الغرب، منع من ذوبان المسلمين في الحضارة الغربيّة، في وقت كان فيه المسلمون في حالة من التخلف يسهل عندها ذوبانهم في حضارة الغرب القوي الغني ومالك العلم والتكنولوجيا المتقدمة. ولا تزال القضيّة الفلسطينيّة تفعل وتغيّر وتثوّر في عالم الفكر والواقع، مما سيؤدّي، بإذن الله، إلى نهايات يتجلى للناس فيها حقيقة بركة فلسطين كوظيفة أرادها الله لها من أجل البشريّة. وفلسطين أرض مقدّسة، والقدس هو الطّهر، والمقدّسة أي المطهّرة. والقدسيّة وظيفة لها؛ فهي أرض لا يُعمّر فيها ظالم، وكلّما لابسها دنس يتمّ تطهيرها. هي أرض لا يتجذّر فيها باطل، فكيف بها وقد اجتمعت فيها البركة والقدسيّة!

ميدان: وصلا بما بدأناه عن نبوءة زوال إسرائيل، هل ترون الأحداث المحيطة بفلسطين منذ انفجار الثورات العربية ذات صلة بالنبوءة أو بممهدات تحرير فلسطين؟!

* جرار: كانت البداية عام 1992م، وكان القول عندها: إذا كانت التقديرات صحيحة فيفترض أن نلاحظ مقدّمات قبل الحدث بعدد من السنين، أي من 10 إلى 15 سنة. وجاءت الأحداث موافقة للتقديرات المفترضة، ولا تزال الأحداث تتفاعل لتنتج واقعا جديدا، كما هي التفاعلات بين العناصر في الكيمياء. ولكن قبل ذلك كان لأفغانستان وأحداثها تأثيرات أوجدت واقعا جديدا، ولا تزال أفغانستان تفعل في الصراع القائم. وتطورت سلسلة الأحداث فكان احتلال العراق وما تبعه من تغيّرات كان يصعب توقعها، ولا تزال الأمور بعيدة عن الاستقرار الذي يجعلنا نرى الصورة على حقيقتها.

وجاء عام 2008م بمفاجأة الانهيارات الاقتصاديّة وما تبع ذلك من تراجع لدور الولايات المتحدة في الساحة الدوليّة، ولا تزال الصورة مشوشة لا تجعلك ترى المآلات. والمهم هنا أنك اليوم تعيش حالة من عدم الاستقرار، وتعيش واقعا قلبت فيه الكثير من المفاهيم، وأسقطت الكثير من الأفكار والأحزاب والجماعات، وبات الناس وقد كفروا بكلّ الأصنام المخترعة واكتشفوا ذاتهم الحضاريّة، وهذا يفسّر لنا دوافع الهجمة المضادة التي تريد النيل من الإسلام وقيمه وحضارته. وعلى مستوى العالم نجد أنّ الصورة تتغير والتحالفات تتمحور بصورة لم تكن متوقعة، وإسرائيل ترصد كلّ هذا وهي في قلق شديد جعلها اليوم غير مستيقنة من المستقبل.

الإحباط واليأس يؤدّيان إلى فساد الناس وتحلل المجتمعات، ووجود الأمل يُنهض الهمم ويحفز الناس ويجعل الأفراد والمجتمعات في حالة التماسك والفاعليّة

ميدان: في حين يعتقد البعض أن نبوءة الزوال تدفع نحو الانتظارية والركون، فإنكم تعتقدون العكس تماما، كيف يمكن شرح ذلك؟!

* جرار: الإحباط واليأس يؤدّيان إلى فساد الناس وتحلل المجتمعات، ووجود الأمل يُنهض الهمم ويحفز الناس ويجعل الأفراد والمجتمعات في حالة التماسك والفاعليّة. وإذا كان الإنسان يائسا من النتائج لا يجد مسوغا ولا دافعا يدفعه للعمل والتضحية، في حين نجد أنّ الأمل يجعل الإنسان مقتنعا بجدوى السير في الطريق وصولا إلى الأهداف.

عندما حاصرت الأحزاب المدينة المنورة، وكان الناس في خوف وعدم يقين بالنجاة: "وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا"، أعلن الرسول، عليه السلام، البشرى بفتح بلاد كسرى وبلاد قيصر. وليس فقط سراقة هو الوحيد الذي بشّره الرسول، عليه السلام، بأنّه سيلبس سواري كسرى؛ بل كان معظم الصحابة الكرام على علم بالكثير من الوقائع التي ستأتي في المستقبل وتحمل الخير للأمة والعالم. ومن يقرأ تاريخ الصحابة الكرام يجد أنّ يقينهم بالمستقبل لم يؤدّ إلى تقاعسهم، بل لم تعرف البشريّة أمّة من الأمم في مثل حيويّتهم واندفاعهم لتحقيق ما بشّروا به.

ميدان: ثمّة صوت جديد ينادي بإعادة النظر في الفتوى المانعة لزيارة العرب والمسلمين للمسجد الأقصى في ظلّ الاحتلال، سواء من جهة تناول الأمر بمنطق الفتوى، أو رأيكم أساسا في الموقف نفسه سياسيّا، هل هذه الزيارة مفيدة للفلسطينيين، أم تخدم التطبيع مع الاحتلال؟!

* جرار: المسألة، كما نراها، لا تتعلق بحكم زيارة المسجد الأقصى، وإنّما تتعلق في الحقيقة باتخاذ زيارة الأقصى ذريعة للتطبيع مع إسرائيل. والدليل على ذلك أنّ المسألة لم تثر سابقا على الرغم من زيارة مسلمي الغرب، ومسلمي الدول غير العربيّة، والتي لها علاقات قديمة مع إسرائيل. ولكن عندما لاحظ الناس أنّ هناك أنظمة تسعى إلى التطبيع مع إسرائيل كمقدمة للاعتراف بها وقبولها في المحيط العربي والإسلامي، وتتخذ من زيارة الأقصى ذريعة لذلك، ثارت الشكوك وبادر العلماء إلى الفتوى.

ميدان: يقود ذلك للسؤال عن أبرز المخاطر التي تهدّد المسجد الأقصى؟

* جرار: كان من المسوغات التي قدمتها الصهيونيّة لليهود، حتى تجمعهم في فلسطين، هو إقامة وطن لليهود في الأرض الموعودة، الأرض التي أعطاها الله للشعب اليهودي. وحتى يكتسب هذا الوطن قيمة وشرعيّة يهوديّة فلا بدّ من إعادة بناء الهيكل، وما يعنيه هذا الهيكل وفق العقيدة اليهوديّة، والتي ترى أنّ وجود الهيكل يعني أنّ الرب يسكن في وسط شعبه المختار. ولكن أين موقع الهيكل؟!! تختلف أقوال اليهود ومؤرّخيهم ولا تتفق على موقع بعينه. ولكن كون الأهداف النهائيّة لليهود تقتضي العمل قدر الإمكان على إقامة دولة يهوديّة عاصمتها القدس (أورشاليم) فإنّ وجود الأقصى يقف حجر عثرة أمام أحلامهم وأهدافهم النهائيّة. وحتى يبدو وجودهم شرعيا فلا بدّ أن يكون الهيكل في ساحات الأقصى وليس في أي مكان آخر، ولا بدّ أن يحصل تنازع أحقيّة بينهم وبين المسلمين.

يدرك اليهود تماما أنّ قيام دولتهم كان بفعل غيرهم، وفق شروط لا بدّ من مراعاتها حتى يستهلكها الزمن. وهم يدركون خطورة الاستعجال وحرق المراحل ومخالفة الاتفاقيات السريّة، بل وليس بإمكانهم فعل ذلك. من هنا نجد أنّ موقف الساسة يختلف عن موقف الجماعات التي تُسمّى متشددة، ولها دورها في خلق حالة من التنازع على الأحقيّة. فالتهديد الحقيقي للأقصى هو أن تفلح الصهيونيّة اليهوديّة والصهيونيّة المسيحيّة والصهيونيّة العربيّة (من قادة ماسونيين وغيرهم) في مسح أدمغة الشعوب الإسلاميّة في اتجاه التسليم بحق اليهود، بل والتهوين من شأن ومنزلة الأقصى في العقيدة الإسلاميّة، بل وما هو أبعد من ذلك؛ وهو التشكيك في حقيقة موقع الأقصى.

ميدان: عودة لدرسكم الدوري في التفسير، بالإضافة إلى التفسير، قد تتوقفون عند بعض المسائل الفكرية والفقهية التي تُطرح بين فترة وأخرى، ما رأيكم في أبرز التحديات الفكرية التي تواجه الإسلام في هذا الوقت، وهل ترون ظاهرة إلحادية كما يخوّف كثيرون؟

* جرار: تفسير القرآن الكريم يجعلك تمس الكثير من القضايا؛ لما يتسم به القرآن الكريم من شمول؛ في العقيدة، والشريعة، والقيم الأخلاقيّة والتربويّة، وسنن التاريخ، وسنن النفس والاجتماع البشري، إلخ. والمعركة مع الأفكار والعقائد الأخرى هي معركة تتسم أيضا بالشمول، فالحقيقة الإسلاميّة يواجهها في ساحة الصراع كلّ ما هو غير إسلامي، ومثل هذا التحدي الشامل والمتعدد لا تواجهه أيّ عقيدة أخرى. وعندما ننظر إلى الوسائل نجد عدم تكافؤ في الوسائل. فأنت كمسلم محكوم بمبادئ العدل والصدق، ومَن يخالفك يؤمن بأنّ الغاية تبرر الوسيلة؛ فتجد المسلم مشتتا بين تفنيد الأكاذيب التي لا تنتهي، بل وتصنعها مصانع تمتلك المال والوسائل ووسائل الإعلام. نعم، مشتت بين هذا ورغبته الأكيدة في إيصال الحقيقة الإسلاميّة إلى جميع البشر.

الإلحاد مرض وقشرة سطحيّة، ولا نظن أنه سيأتي زمان يزول فيه الإلحاد، ولكنّه يعيش دائما في الهامش، ويستفيد من الأوضاع الشاذة

لو كان الأمر مقتصرا على التحديات الفكريّة لهان الأمر، ولكن التحدي الأكبر يكمن في الانحرافات السلوكيّة التي يسهل على المخالفين صناعتها وترويجها مستندين إلى عالم الشهوات وميل الإنسان إلى تحقيق رغباته الماديّة، وميله إلى الراحة والتفلّت والانطلاق بعيدا عن القيود. أنت تبني وهم يهدمون، والهدم، لا شكّ، أسهل من البناء. ولكن المسألة مسألة وقت؛ فالمسلمون في وعي متصاعد، وأساليبهم تتطور، وإمكاناتهم كلّ يوم أفضل، ودوافعهم أسمى، ووسائلهم أشرف، والأهم من هذا كله أنّهم يمتلكون الحق، ويخاطبون الفطرة، ويركنون إلى ركنٍ شديد.

أما الإلحاد فمرض وقشرة سطحيّة، وفي الأوضاع الطبيعيّة والسويّة لا يجد الإلحاد التربة التي تناسبه لينبت ويتفرّع. ولا نظن أنه سيأتي زمان يزول فيه الإلحاد، ولكنّه يعيش دائما في الهامش، ويستفيد من الأوضاع الشاذة. وهناك مَن هو معنيّ أن يروّج للإلحاد، وأن يُوهم الناس أنّه ظاهرة تتسع، والحقيقة غير ذلك تماما. والتجربة في القرن العشرين، والعقود الماضيّة، تؤكد أنّ الإلحاد يظهر في ظروف شاذة ولكن لا يُعمّر ولا يدوم، بل يذوب ويتلاشى، ولا يكون من حقائق المجتمع السويّ، وعلى وجه الخصوص في البيئات الإسلاميّة.

ميدان: فيما يتعلق بالدرس التفسيري نفسه، نلاحظ أن منهجيتكم تقوم على أن العمق في ملامسة الظاهر، وفي الفهم الدقيق لمعاني المفردة القرآنية في سياقها كما نزلت في حينه، فهل لكم بيان أبرز معالم منهجيتكم في التفسير؟

* جرار: في البداية نحن نختار الآيات التي تبدو مُشكِلة في الفهم، وكذلك الآيات التي تعالج واقعا قائما يشغل بال الناس، أو الآيات التي تفنّد شبهات وتبني التصور الصحيح، إلخ. القصد هنا أننا نختار بعد تفكير. ثم نقوم بالاطلاع على ما كتبه أهل التفسير قديما وحديثا، ثم نقوم بالتحقق من معاني المفردات للوصول إلى المعاني الدقيقة للألفاظ، ثمّ ننظر إن كان هناك ما يصح من أحاديث في تفسير الآيات، وبعد ذلك ننظر في سياق الآيات وما جاء في القرآن الكريم من آيات أخرى تساعد في تفسيرها. فإن استقام لدينا المعنى نتبنّاه، وإلا انشغلنا به وأطلنا التفكير وتقليب الأمور، حتى ترتاح النفس إلى معانٍ تتوافق مع ظاهر النص الكريم أولا، ولا نصرف المعنى عن الظاهر إلا بدليل ظاهر.

ميدان: أخيرا، تبدو الحالة العلمية الشرعية ضعيفة في فلسطين، ما الأسباب في رأيكم، وكيف يمكن خلق حالة علمية تليق بالبلاد ومكانتها الدينية؟!

* جرار:  يمكن الاقتصار هنا على ثلاثة أسباب رئيسة:

أولا: الكثير الكثير من أهل العلم يعيشون خارج فلسطين، وتجدهم مشتتين في أرجاء المعمورة، ولا داعي لذكر الأسباب لأنّ أغلبها معلوم.

ثانيا: موقع فلسطين الجغرافي جعلها ساحة صراع عبر القرون، ومعلوم أنّ العلم والنهوض به يحتاج إلى استقرار يصنع الأصالة.

ثالثا: دور المساجد مغيّب تماما، على خلاف الأمر في بعض دولٍ إسلاميّة أخرى.

وفي حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان للمساجد بعض الأثر في بث الوعي الديني إلى أن قامت الانتفاضة الفلسطينيّة عام 1987م، وتصاعد دور المساجد، وتمّ اعتقال وسجن الكثير من الأئمة والخطباء ورواد المساجد، وأصبح الجلوس في المساجد للعلم تهمة تلاحق الشيخ والتلميذ، كل ذلك أدّى إلى تراجع دور المسجد، واستمر الحال على ذلك حتى يومنا هذا.

وفي المقابل وجدنا:

أولا: أنّ السجون كان لها دور في التوعية الدينيّة.

ثانيا: انتشار الجامعات في أرجاء الوطن الفلسطيني كان فيه شيء من التعويض.

ثالثا: انتشار التعليم بين الآباء الأمهات انعكس في وعي الأبناء.

رابعا: انتشار الإنترنت ووسائل التواصل فتح آفاقا جديدة مكّنت الكثير من المهتمين من متابعة العلم الشرعي.

وأخيرا نختم ببعض النصائح لأهل الاهتمام:

أولا: تعريف الناس بالعلماء ودروسهم المبثوثة في الإنترنت، وكذلك التعريف بالمواقع العلميّة الجادّة. ويمكن للكليات الجامعيّة الشرعيّة أن تقوم بهذا الدور وتجعله ضمن الأبحاث التي يجريها الطلبة والأساتذة.

ثانيا: ننصح أن يقوم الأساتذة المختصون بين الفينة والفينة بعرض دروس متخصصة لعلماء ثِقات ثمّ مناقشتها مع الطلبة في قاعات المحاضرات، وبذلك نعرّف بالعالِم ونجعل الطالب في حالة من التفاعل والمساهمة في النقد والتقييم.

ثالثا: تعريف الناس بالتجربة المغربيّة المتعلقة بـ "الكراسي العلميّة"، والعمل على نقلها في المساجد والجامعات وحيث أمكن. ويجد المهتم بهذه التجربة العديد من الدروس العلميّة في يوتيوب.

رابعا: من التجارب الرائدة والفعّالة ما نجده اليوم من أخذ القراءات عن أهل الاختصاص من علماء القراءات بالتواصل الشخصي مع الشيخ والتلقي المباشر عنه على طريقة السلف، ومثل هذا يمكن أن يكون في الفقه والحديث وعلوم القرآن وعلوم اللغة العربيّة.

المصدر : الجزيرة