شعار قسم ميدان

لا يوجد قانون أسرة يرضي النساء في مصر.. ما السبب؟

مصر 111

في فبراير/شباط 2021، أحال مجلس الوزراء إلى البرلمان المصري مقترحا متكاملا لقانون الأحوال الشخصية، لكن الحكومة والبرلمان وجهات رسمية عدة سرعان ما تبرَّأوا من مسودة القانون المُسرَّب لوسائل الإعلام، بعد أن أثار عاصفة من الانتقادات، لا سيما من مؤسسات حقوق المرأة وكذلك بعض التيارات الدينية، ومن ثمَّ سُحِب مشروع القانون، ووعد الرئيس المصري بتقديم قانون جديد "متوازن". غير أنه لم يخرج أي مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية حتى اللحظة، رغم ما أبداه النظام المصري من اهتمام كبير بملف "الأسرة" منذ عام 2014، حيث تضمَّنت أجندة عمل لجنة الإصلاح التشريعي (التابعة لمجلس الوزراء والقريبة من الرئاسة) تعديل قانون الأحوال الشخصية. وقد سبَّب ذلك في السابق توترا في العلاقات مع شيخ الأزهر، على خلفية قضية الطلاق الشفهي، وسعي السيسي لعدم الاعتداد به للحد من معدلات الطلاق المرتفعة. (1)

لم يستطع السيسي إلغاء "الطلاق الشفهي"، ولم تستطع حكومته تقديم مشروع قانون "متوازن" للأحوال الشخصية، ذلك القانون الذي مرَّ عليه نحو مئة عام، ومن ثمَّ تُرِكَت القضايا لاجتهادات القضاة ورؤاهم الشخصية بناء على فهمهم لنص القانون وما استند إليه من أحكام الشريعة الإسلامية. ويُسلِّط فشل النظام حتى الآن في تلك المساحة، التي تبدو أعقد من الاقتصاد والإدارة والعمران التي قطع النظام فيها أشواطا كبيرة، يُسلِّط الضوء على مدى حساسيتها وتعقيدها.

لطالما شكَّل قانون الأحوال الشخصية مادة ملتهبة، وقد أثار النقاش حوله الجدل باستمرار، ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي كله. ففي تونس والمغرب ولبنان، أثار ملف قانون الأحوال الشخصية نزاعا دائما بين التيارات الدينية التي رفضت أي مواد تخالف "الشريعة الإسلامية"، وبين الأنظمة والتيارات العلمانية والليبرالية التي طالبت بقانون أحوال شخصية "مدني". وبين هذا وذاك تظل المرأة العربية، وخاصة المصرية، أسيرة القوانين الحالية. لماذا إذن لا يُنصفها القانون المُستند إلى "الشريعة الإسلامية"؟ ولماذا يُثار كل ذلك الخلاف حول قانون الأحوال الشخصية؟

كيف ظهر قانون الأحوال الشخصية؟

ارتبط قانون الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية، وخاصة مصر وماليزيا والهند، بحركة ضبط وتقنين الشريعة التي أشرف عليها الاحتلال الإنجليزي. ولكن في مصر تحديدا، بدأت جهود التقنين في وقت أبكر، حيث أُنشئ مجلس الأحكام في عهد محمد علي (بين عامَيْ 1848-1849) مع مجالس مماثلة في الأقاليم والمحافظات مثل الإسكندرية. وقد عكفت تلك المجالس على تنظيم مجالات التجارة والصناعة، بجانب الإجراءات الجنائية، مع إلحاق اثنين من المفتين أحدهما حنفي والآخر شافعي بكل مجلس. آنذاك، كان المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي للدولة العثمانية، وتبنَّاه محمد علي وجعله المذهب الرسمي للإفتاء في مصر تقرُّبا من الدولة العلية، رغم أن غالبية الأهالي في مصر اتبعوا المذهب الشافعي، واتبع البعض في الجنوب المذهب المالكي. (2)

انحصر بذلك اختصاص المحاكم الشرعية، وهي المحاكم الوحيدة في مصر حينذاك، بالقضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية مثل الزواج والطلاق والميراث وملكية الأرض. فيما عزفت النخبة المصرية الحاكمة والمختصون بالقانون عن تطبيق قانون العقوبات العثماني لعامَيْ 1840 و1851، وفضَّلوا تأسيس قانون عقوبات مصري مماثل للقانون الفرنسي. وفي عام 1875، صدر القانون المدني المصري مماثلا للقانون الفرنسي إلى حدٍّ كبير، وغاب عنه أي ذكر للشريعة الإسلامية أو نظام العقوبات بها. (2)

بحلول عام 1883، أصبحت المحاكم الشرعية في المرتبة الثالثة بعد المختلطة والأهلية، وأمسى اختصاصها مقصورا على أمور الأحوال الشخصية والوقف وغيرها، كما تغيَّر نظام تعيين القضاة، بعد أن كانت إسطنبول هي مَن يُعيِّن "قاضي عسكر"، الذي عيَّن بدوره القضاة في مصر، ومن ثمَّ آل هذا الأمر إلى يد الخديوي بحيازته امتياز تعيين قاضي القضاة، الذي قدَّم بدوره المشورة مع مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر بخصوص تعيين أعضاء مجلسَيْ التشريع والقضاة، ومتابعة عملهم في المحاكم، وخاصة المحاكم الشرعية التي استند التحاكم فيها إلى أحكام الشريعة. (2)

مع صدور قانون الأسرة العثماني عام 1917، بات أمام القانونيين المصريين نموذج لكيفية ضبط المسائل المتعلقة بالأحوال الشخصية، فساروا على نهج العثمانيين هذه المرة وصدر قانون الأسرة عام 1920، مُستمِدا أحكامه من المذهب الحنفي "باعتباره الأكثر تماشيا مع أوضاع العالم الحديث"، قبل أن يُعدَّل القانون عام 1929 فاتحا المجال لانتقاء الأحكام من المذاهب الأخرى. (2)

الطلاق

كان قانون الأحوال الشخصية لعام 1929 وسابقه الصادر عام 1920 أول قانونَيْ أسرة في مصر أُعِدَّا عبر تقنين الفقه بالجمع بين المذاهب والانتقاء منها بما يُحقِّق المصلحة، ولكن يأتي هنا السؤال: مصلحة مَن؟ وهل أدَّى مذهب الانتقاء الذي سار عليه المفتون لبناء شكل جديد للإسلام يتماشى مع احتياجات الدولة المصرية ويعطيها حق التحدُّث باسم الشريعة عبر مؤسساتها الرسمية إلى تحقيق مصلحة المصريين بالفعل؟

القانون في مصلحة مَن؟

تضمَّن مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي قدَّمته الحكومة المصرية عام 2021 كل المواد المتعلقة بالأحوال الشخصية في مصر، بعد أن تفرَّقت بين قوانين متعددة، وهو جزء من توجُّه النظام إلى "إصلاح نظام التقاضي" بجعله أكثر انضباطا، وتقليل هامش الاجتهاد والمساحة المتروكة لتقدير القضاة، ومن ثمَّ تيسير إحكام سيطرة النظام على النظام القضائي وضبط المجتمع. (3)

بيد أن التحدي الأساسي كان التعامل مع نصوص وأحكام الشريعة، وانتقاء ما أمكن تقنينه منها، ولذا عملت جهات شتى على مواد مشروع القانون؛ منها الحكومة المصرية نفسها، والمجلس القومي للمرأة، ومشيخة الأزهر، وهو ما أنتج مواد تتسم بالعوار والنشاز. فمثلا، من بين القوانين التي تضمَّنها المشروع قانون تغريم الزوج الذي يتزوج أخرى دون إبلاغ الأولى بمبلغ يتراوح ما بين 20-50 ألف جنيه أو الحبس ما لا يقل عن سنة، وكذا معاقبة المأذون إذا لم يُخطِر الزوجة الأولى. (4)

فيما يتعلَّق بـ"ولاية الزوجة"، تنص إحدى مواد القانون على أنه يحق لأي "ذكر" من عائلة امرأة ترغب بالزواج أن يُبطِل زواجها في غضون عام واحد بدعوى عدم كفاءة الزوج الذي اختارته، أو في حال تزوجت دون موافقة هذا "الذكر" أو غيره من ذكور العائلة، أو إذا لم تحصل على مهر ممَّن زوَّجت نفسها له. (4) كما أن الأم، وفق القانون الجديد، ليس لها ولاية على أطفالها في كل ما يتعلق بالتعليم والصحة والسفر وإصدار الأوراق الرسمية وغيرها من معاملات تُلغي تقريبا وجود المرأة في كل تعامل قانوني أو رسمي يتصل بأولادها. وبينما يمكن للأب السفر بأولاده دون إذن، لا يحق للزوجة أو المطلقة السفر بأبنائها دون الحصول على موافقة كتابية من الزوج.

لم تكن هذه البنود في مصلحة النساء، وخاصة المطلقات اللاتي يتعرَّضن للانتقام والإذلال من أزواجهن السابقين. لكن الحقيقة هي أن هذه القوانين والمواد كان معمولا بها من قبل باستثناء قانون تجريم الزواج من أخرى، فما استحدثه مشروع القانون الجديد هو تسجيل التفاصيل بمواد قانونية، حيث تُرِك الأمر في السابق للتفاوض بين مُسجِّلي عقود الزواج واجتهادات القضاة في القضايا الواردة لهم من عائلات اعترضت على اقتران فتياتها بأزواج من خلفية اجتماعية وطبقية أدنى دون علمهم، أو تُرِكَت للحسم خارج قاعات المحاكم بوصفها شأنا خاصا للعائلات فيما بينها.

يقودنا هذا مباشرة إلى السجال الطويل حول مسألة تقنين أحكام الشريعة والهدف منها في مصر، وهو سجال وقعت أبرز فصوله في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. فما إن وُضعت مادة تقول إن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع بالقانون المصري، حتى اندلعت معارك تشريعية شتى بدأت عام 1979 عندما فرض السادات قانونا جديدا للأسرة هو الأول من نوعه منذ صدور قانون 1929، الذي قام على مبدأ الجمع بين المذاهب الفقهية.

عُرِف القانون الجديد بقانون "جيهان" نسبة إلى زوجة السادات، التي كانت لها يد في صدور القانون بهدف "تحسين وضع المرأة والأطفال"، وقد نصَّ القانون على مواد مشابهة إلى حدٍّ كبير لمشروع قانون الحكومة المصرية عام 2021، خاصة فيما يتعلَّق بتجريم الزواج الثاني، وشارك كلٌّ من المفتي وشيخ الأزهر ووزير الأوقاف في صياغة القانون، غير أنه قوبل بانتقاد عنيف في كل الأوساط تحت دعوى أنه "ينتهك الشريعة الإسلامية". (5)

ونظرا إلى أن المفتي البارز الشيخ "جاد الحق" شارك في صياغة القانون، لم يكن له محيص من الدفاع عنه، فأصدر عام 1980 بيانا رسميا مُطوَّلا في شرح القانون تمحور حول مادتين من مواده: المادة (6/ب) التي قضت بأن الضرر يقع على الزوجة لو تزوج زوجها أخرى دون إذنها، وفسَّرته التيارات الإسلامية بأنه تقويض لتعدد الزوجات الذي أباحته الشريعة. أما المادة الثانية فهي (2/5) التي قضت بعدم حرمان الزوجة من حق النفقة لو تركت البيت من أجل العمل. (5)

الشيخ "جاد الحق"
الشيخ "جاد الحق"

وقد قال "جاد الحق" في دفاعه عن هاتين المادتين: "ليس فيهما ما يتعارض مع أي نص بالقرآن، فضلا على أن حكمهما وارد في المراجع الفقهية؛ فالحنابلة والحنفية على سبيل المثال يُجيزون أن تشترط الزوجة في عقد الزواج حقها في الطلاق إذا تزوج زوجها بأخرى، فهذا النص ليس هجوما على تعدد الزوجات، بل مجرد تأكيد لحق امرأة بعينها أن تمنع زوجها منه، أما حق الزوجة في الخروج من البيت دون إذن زوجها فهو الآخر مُقرَّر في الفقه، وذلك بالسماح لها بزيارة والديها على سبيل المثال، ويجوز للمرأة بالمثل العمل بالتجارة ومشاريع الأعمال". (5)

هذا التعليق المُطوَّل للمفتي كان امتدادا للوضع الذي بدأ منذ عهد محمد علي مع إجراءات تطبيق أحكام الشريعة، ففي حين أن جُلَّ ما ذكره الشيخ جاد الحق كانت اختيارات فقهية يمكن أن يأخذ بها مَن يريد، فإن تحويلها إلى قوانين مُلزِمة يُضيِّق ما وسَّعته الشريعة، ويخنق حرية الاختيار بين الآراء والمذاهب الفقهية التي اعتادت عليها المجتمعات الإسلامية عبر تاريخها. ففي البداية، حُصرت الفتاوى في المذهب الحنفي دون غيره، واليوم بات على الناس ألا يتبعوا أي مذهب من المذاهب الأربعة وأن يتبعوا اختيارات الشيوخ والمفتين الذين تُعيِّنهم السلطة الحاكمة.

يظهر ذلك بجلاء في رد الشيخ "جاد الحق" عندما سُئل عن الحاجة إلى قانون الأحوال الشخصية مُجيبا: "إن قانونَيْ الأحوال الشخصية الصادرين عامَيْ 1920 و1929 كانا نموذجين جيدين لتقنين الفقه، وإن القانون 44 ليس إلا خطوة صغيرة إضافية أخرى في المسار ذاته، فالجمع بين المذاهب شكَّل مشروعا لصنع قرارات قانونية متماشية مع متطلبات العصر، وقد أجازه مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الأول ولا داعي للتخلي عنه الآن". إذن، أصبح الشرع المُقنَّن -كما يقول معارضو تقنين الشريعة- شبيها بمذهب جديد هو مذهب الدولة، حيث يُراجَع من شيوخها الرسميين كل فترة. (6)

تلك هي الرؤية نفسها التي يحملها النظام المصري الحالي، الذي يريد من قانون الأحوال الشخصية أن يقوم بالوظيفة التي وُضِع من أجلها قديما، وهي ضبط المجتمع، لا سيما ضبط مسائل الزواج والطلاق والحد من حالات الطلاق وضبط معايير وقيم الأسرة المصرية، التي أدَّى غيابها بجانب زيادة حالات الطلاق إلى تهديد الانضباط المجتمعي عام 2011، علاوة على ما تُسبِّبه إجراءات قضايا الأسرة من إثقال لكاهل النظام القضائي، ومشكلات وجرائم أسرية خارجة عن السيطرة. (7) (8)

الشريعة التي ظلمت المرأة

من أجل فهم هذه المعارك القديمة والمتجدِّدة حتى الآن حول قانون الأحوال الشخصية وحقوق المرأة المتزوجة، ربما علينا أن ننظر إلى السياق الاستعماري الذي تَشكَّل خلاله القانون في وقت كانت مصر فيه تحت الاحتلال الإنجليزي. آنذاك، سعى الاحتلال، كما كتبت عزة حسين في كتابها "سياسات تقنين الشريعة"، إلى فصل المجال العام عن المجال الخاص، بحيث تخضع الأمور المتعلقة بالمجال العام، مثل التجارة والتعليم والصحة والإجراءات القانونية، لقوانين وضعية تُحقِّق مصلحته، أما المجال الخاص فهو مجال "الحساسيات المحلية" التي يجب ألا تتدخَّل فيها السلطة الإنجليزية منعا لنشوب أي انتفاضات كما حدث بالهند وماليزيا. وفي هذا السياق، خرج قانون الأحوال الشخصية المصري الذي كان محاولة لإيجاد توازن بين مصالح ثلاثة تيارات فكرية رئيسية.

أول هذه التيارات هي السلطة البريطانية التي كانت تسعى للظهور بمظهر القوة التنويرية التي تحمي الفئات المُستضعَفة في المجتمعات المحتلة، وهذه الفئات هي النسوة والفتيات. وثانيها تيار القيم الأبوية والأخلاق الفيكتورية (أ) التي طبَّقها الإنجليز في أجزاء كبيرة من مستعمراتهم فيما يخص الجنس والعائلة والفضاء العام (على سبيل المثال كان اللورد كرومر قائدا بارزا في الجبهة المناوئة لمنح النساء في إنجلترا حق الاقتراع). (8) أما التيار الثالث فهي النخبة المسلمة التي أتت من الريف إلى المدن بنهاية القرن التاسع عشر.

لذلك، رغم إعلان السلطة الاستعمارية عدم نيتها التدخُّل في الشؤون الدينية والثقافية، فإنها وضعت قوانين لتسجيل حالات الزواج والطلاق، وفرضت سِنًّا معينة للزواج، وعقوبة للزنا وتعدد الزوجات بالاستعانة بشيوخ وقضاة مسلمين. وكان هدف هذه القوانين ضبط المجتمع، وخاصة النساء مع حجبهن لِيَكُنَّ الحيز الخاص الذي تُطبَّق فيه أحكام الشريعة تحت أعين السلطة الإنجليزية والشيوخ. وبذلك أصبحت النساء -كما كتبت عزة حسين- "رهنا لسلطة ذات هيكلية مزدوجة، واستمرَّت حياتهن اليومية في أسْر السلطة الاجتماعية للمجتمع، فيما أحالتهن النزاعات المتصلة بالملكية الخاصة إلى رهائن للدولة". (8)

يقودنا ذلك حتما إلى التساؤل حول أوضاع النساء في المجتمعات الإسلامية قبل قانون الأحوال الشخصية وتقنين الشريعة والاحتلال الإنجليزي. وهنا يجدر بنا أن نُسلِّط الضوء على ما كتبه "يوسف رابوبورت"، الأستاذ المختص بالشؤون الاجتماعية والثقافية للتاريخ الإسلامي بجامعة الملكة ماري في بريطانيا، في كتابه "الزواج والمال والطلاق في المجتمع الإسلامي بالعصور الوسطى". ففي معرض مناقشته لأسباب زيادة حالات الطلاق والخلع في المجتمع المملوكي بالقاهرة ودمشق والقدس، يجادل الكاتب أن ذلك لم يكن ليحدث لولا توفُّر درجة كبيرة من الاستقلال الاقتصادي للمرأة حينذاك، فقد توفَّر لها في حالة الطلاق حقوق مثل تعيين مؤخر الصداق في عقود النكاح، الذي يستحق للمرأة بمجرد الطلاق أو الموت، إضافة إلى التزامات مادية متعددة، كالمطالبة بأخذ ثمن الكسوة نقدا، وغيرها من الامتيازات التي منحتها وضعا أفضل للمفاوضة على الانفصال. (9)

تحدَّث "رابوبورت" عن التطور في عقود الزواج لتصبح أشبه بعقود الشراكة التجارية، حيث تضمَّنت شروطا متنوعة وتعيينا نقديا لقيمة الصداق المُقدَّم والمؤجَّل وكيفية دفعه دَيْنا أو أقساطا سنوية، وكذلك تقدير قيمة النفقة الزوجية من كسوة سنوية وحتى "المصروف اليومي" الذي اشترطته بعض الزوجات. لكن الأهم أن المؤلف يوضِّح أن المحاكم الشرعية وقضاتها وفقهاءها حرصوا على عدم التدخُّل في تلك التسويات إلا بقدر يسير، ولم يكن التدخُّل من السلطة إلا في حالة فض المنازعات الأسرية العنيفة وإيقاع العقوبات بالأزواج المُدانين بعدم النفقة أو العنف مع الزوجات. (9)

لعب الفقهاء والمصلحون والوعاظ في ذلك المجتمع دورا أساسيا في خلق ما سمَّاه "وائل حلاق" بـ"تقنيات الضبط"، أي إن ما تربَّى عليه الناس من علوم الشريعة وسمعوه من القضاة الشرعيين والمفتين شكَّل بذاته عمليات ضبط عامة، جنبا إلى جنب مع عقود الزواج التي أشرف عليها القضاة الشرعيون وضمنت حقوق النساء. أما بعد التقنين، فاقتصر الأمر على صيغة واحدة لعقد الزواج، وأمَّمت الدولة دور القضاة الشرعيين، بل وألغت المحاكم الشرعية وسيطرت على الإفتاء ليُصدِر فقط ما يوافق "إسلام الدولة".

أما قانون الأحوال الشخصية فصار أداة محضة بيد السلطة لضبط المجتمع وليس لحفظ حقوق الزوجات والأزواج. وهكذا ظلمت الشريعة المرأة، لكنها ليست الشريعة الإسلامية، بل الشريعة التي وضعتها الدولة وشيوخها ونخبتها. فلم تكن قوانين الأحوال المدنية في أي وقت محايدة أبدا، لكنها تأثَّرت دوما بمصالح النخب التي وضعتها وأغراضها الشخصية.

لا يتطلَّب الزواج في الإسلام أكثر من قبول وإشهاد وإشهار، ثمَّ يأتي التوثيق خطوة زائدة تنظيمية، بينما تُحفَظ الحقوق بواسطة أحكام الشريعة بتنوُّعها الهائل. وعلى النقيض، تعج الإجراءات المدنية بالخطوات البيروقراطية، ومن ثمَّ تُعقِّد ملف الزواج وحياة الزوجين معا، والمرأة خاصة. وهنا تحديدا تظهر إشكالية ظلم القانون للمرأة، لأنه لم يكن يهدف إلى إنصافها أصلا بقدر ما يهدف إلى ترسيخ الضبط وإحكام السيطرة على المجتمع.

___________________________________

الهوامش

أ. الأخلاق الفيكتورية (بالإنجليزية: Victorian Morality)‏ هي تلخيص للآراء الأخلاقية للطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر في بريطانيا أثناء العصر الفيكتوري، وهي أخلاق إنجيلية محافظة تُعلي من قيم الأسرة وتطبيق الأخلاق الحميدة حسب عُرف مجتمع الطبقة الوسطى ببريطانيا.

المصادر

  1. النظام المصري يتخبط في قانون الأحوال الشخصية
  2. إسلام الدولة المصرية: مفتو وفتاوى دار الإفتاء. تأليف: جاكوب سكو فجارد-بيترسون. ترجمة: أ.د. السيد عمر.
  3. النظام المصري يتخبط في قانون الأحوال الشخصية.
  4. مصر.. خلاف وجدل محتدم حول مشروع قانون الأحوال الشخصية.
  5. إسلام الدولة المصرية : مفتو وفتاوى دار الإفتاء. تأليف: جاكوب سكو فجارد-بيترسون. ترجمة: أ.د. السيد عمر.
  6. الإسرائيليون في دار الإفتاء المصرية. فهمي هويدي.
  7. مصر.. خلاف وجدل محتدم حول مشروع قانون الأحوال الشخصية.
  8. سوسيولوجية الفتوى (المرأة والفنون نموذجا، تأليف حيدر إبراهيم علي).
  9. سياسات تقنين الشريعة، عزة حسين.
المصدر : الجزيرة