شعار قسم ميدان

ماذا لو حطم أرقامهما.. كيف يغير هالاند نظرتنا إلى ميسي ورونالدو؟

إنه العام 2040، والحدث هو إعلان إرلينغ براوت-هالاند اعتزاله كرة القدم رسميا، والعودة إلى النرويج لرعاية الأبقار في ضيعته الشاسعة، كما كان يحلم دوما. في تلك اللحظة، يبلغ النرويجي 40 عاما من العمر، ولكنَّ أداءه البدني ما زال صامدا نسبة إلى عمره، بعد أربعة عقود من التغذية الصحية وجلسات الشمس الصباحية والاهتمام الفائق بكل ما يدخل جسده.

هالاند يعتزل بعد أن نجح في تسجيل 1277 هدفا وصناعة 103 غيرها، وكان البعض يعتقد أنه قادر على اللعب لبضع سنوات أخرى، يقترب فيها أكثر من معادلة حصيلة ميسي ورونالدو التهديفية مجتمعة، ليصبح الرجل الذي حطَّم أعظم منافسة ثنائية إحصائية في تاريخ اللعبة.

عودة إلى المستقبل

الآن فلتأخذ دقيقة لتتخيل كمَّ التنمر الذي تعرَّض له النرويجي قبل أن يصل إلى تلك اللحظة. في الواقع، إلى جانب ما يلقاه الآن من نعوت تصفه بانعدام المهارة وتتحسر على أيام المهارة الفردية الساحرة التي أمتعت جماهير كرة القدم، فإنه حتى الإشادات التي يتلقاها تحمل تنمرا ضمنيا، باعتباره "فايكينغ" آتيًا من العصور الوسطى، في إشارة واضحة إلى أن بنيته الجسدية ميزته الوحيدة أو الأهم، أو باعتباره إنسانا آليا تمت برمجته على تسجيل الأهداف بلا دخل منه.

أحد المواقع الرياضية الإنجليزية الشهيرة استخدم العبارة الأخيرة بالفعل، وآخر جمع بين الوصفين في تنويع على شخصية "المُنهي" أو "Terminator" الشهيرة لأرنولد شوارزينغر، وهذا هو ما يدفعنا دفعا نحو أول استدراك مهم في هذه القصة؛ صدِّق أو لا تُصدِّق، ما يفعله هالاند يحمل قدرا كبيرا من المهارة، حتى وإن أخبرتك الانطباعات الجماهيرية بغير ذلك. (1) (2)

 

المشكلة هنا تقع في الخلط بين مفهومين منفصلي المعنى؛ الأول هو المتعة، وهو أمر شديد النسبية، أو على الأقل هكذا سيخبرك كل مشجع فاز فريقه بهدف من هجمة يتيمة في 90 دقيقة، والثاني هو المهارة، وهي أيضا، للمفاجأة، قيمة شديدة النسبية بدورها، ولكنها أسهل في القياس بالطبع.

معجم ميريام وبستر يُعرِّف المهارة بعدة تفسيرات؛ الأول هو استخدام المعرفة بفاعلية وجاهزية في أداء مهمة ما، والثاني -وهو مصدر الخلط في هذه الحالة- يفسر المهارة بكونها الحِرَفية في أداء المهمات، خاصة اليدوي منها، والثالث يعتبرها القدرة المُتعلَّمة لأداء مهمة ما بكفاءة. (3)

بالطبع كل الكلمات المفتاحية في التعريفات الثلاثة شديدة النسبية، لأن أمورا مثل الفاعلية والحِرَفية والكفاءة لا تُقاس بمعايير مطلقة، بل نسبة إلى الآخرين، فإن كان أفضل مهاجم موجود في العالم يسجل هدفا من كل تسديدتين مثلا، وأتى مَن يسجل هدفين من كل ثلاثة، فبالقياس سيصبح الأخير أكثر "فاعلية" أو "حِرَفية" أو "كفاءة" بداهة.

العثور على الطريق

هذا التشابك اللغوي يتحوَّل إلى فوضى تامة عندما يُضاف إلى كل ما سبق مفهوم آخر -لا ينال حقه من الحديث أبدا- هو ما يعرفه الإنجليز بالـ"Style"، وهي لفظة لها معانٍ كثيرة في سياقات مختلفة، ولكن في كرة القدم غالبا ما تعني الأناقة الحركية، والتوافق العضلي المتناغم. (4)

على سبيل المثال، فللبرازيليين الـ"Style" الخاص بهم؛ رونالدو دي ليما ورونالدينيو غاوتشو وكثيرون غيرهم تعلموا كرة القدم في ساحات الرقص، أو ربما تعلموا الرقص في ساحات كرة القدم، لا نعلم بالضبط، ولهذا السبب ترسم أجسادهم لوحات موسيقية بديعة أثناء المراوغة والاستلام والتسديد، بحركات مخادعة شديدة الخبث، وبتحكُّم شبه كامل في الجذع والأطراف الأربعة، بلا إشارات خرقاء خارجة عن السياق، وبلا محاولات مضحكة للاحتفاظ بالتوازن، في ديناميكية دقيقة محسوبة تجعل حتى سقطاتهم وتعثراتهم مثيرة للإعجاب، دون ذكر شعر رونالدينيو الطويل الذي يمنح حركته خصوصية إضافية.

هذا التناغم يحقق إمتاعا بصريا لا يُضاهى، وهو أحد الأسباب التي أنشأت الاعتقاد عند كثير من المصريين بأن محمد صلاح ليس لاعبا "مهاريا" بالمعنى الجماهيري الدارج، ففي الساحات الشعبية بمصر، يندر أن تجد مراوغا غير أنيق الحركة، وهذه الأناقة أو الـ"Style" هو ما يفتقده صلاح في وجهة نظر الكثيرين، وهنا حدث خلط آخر بين الأناقة والمهارة.

مراوغة لاعبين أو ثلاثة بشكل متكرر، وتمرير البينيات الدقيقة، والقدرة على الاستلام في أضيق المساحات، هي أمور لا تنتج إلا عن مهارة قطعا، لذا عندما يتحدث بعض المصريين عن افتقاد صلاح للمهارة، فإن ما يقصدونه فعليا أن تقنية حركة جسده لا تبعث السحر ذاته الذي تبعثه حركة اللاتينيين، لذا تبدو محاولاته مفتعلة أو مصطنعة من وجهة نظرهم.

لا شيء يدل على هذا الخلط بقدر المقارنات الدائمة بين محرز وصلاح في هذا السياق؛ عمليا ورقميا، أكمل صلاح عددا أكبر من المراوغات مقارنة بنظيره الجزائري في آخر أربعة مواسم بالبريميرليغ، ولكن للسبب ذاته يبدو محرز دائما مراوغا أفضل، ببساطة لأنه أكثر أناقة حتى لو لم يكن بالفاعلية ذاتها. (5) (6)

إن كنت تملك الكلمات فهناك فرصة دائمة لكي تعثر على الطريق. كان هذا ما يعتقده الشاعر الأيرلندي الحائز على جائزة نوبل شيموس هيني، وفي هذا السياق، كان الخلط بين مفاهيم كالمتعة والمهارة والأناقة قائما بالكامل على افتقاد أدوات التعبير المناسبة، وهو أمر آخر يُستهان به عادة، لأننا نعتقد أن من المهين أن نعترف بالحاجة إلى التمرس في لغتنا الأم، أو أن نتشكك في مفرداتنا وقدرتنا على التعبير. (8)

هالاند الفقير

إرلينغ هالاند (غيتي إيميجز)

الأمر أسوأ بمراحل مع هالاند، ليس فقط لأن مهاراته ليست من الطراز الممتع بصريا، ولا حتى من النوع الذي اصطلح الجمهور على اعتباره مهارة أصلا، بل لأن تقنية حركته كذلك تجعل كانتي يبدو كرونالدينيو بالمقارنة.

جزء من الأمر يعود لبحثه المحموم عن الفاعلية بالمقام الأول، وتجاهله المتعمَّد للأناقة في المقابل، وجزء آخر يعود لنِسَب جسده غير الاعتيادية، فأطرافه الطويلة، نسبة حتى إلى طوله، تمنحنا انطباعا بفقدانه السيطرة على جسده أثناء الركض، خاصة عندما يؤرجح ذراعيه يمينا ويسارا أثناء محاولته التخلص من رقيبه، وحتى عندما يقابل عرضية أرضية بلمسة متقنة مدروسة، فإن وصوله المبكر في وضعية مريحة يُشعرنا بأن اللقطة كانت لتصبح أجمل وأكثر إثارة لو كانت سيقانه أقصر ببضعة سنتيمترات.

كل ذلك يجتمع ليسلبه حقه المشروع في الاعتراف بمهاراته الأخرى، مهاراته بتعريفها الخام الأوّلي، تلك التي لا يُضاهيه فيها أحد على الساحة حاليا، مثل دقة لمسته للكرة أثناء الإنهاء، وتوقيتاته المحسوبة، وتحركاته الذكية، والأهم على الإطلاق جرأته غير العادية، التي تُعَدُّ أندر مزاياه بلا منازع في العصر الحالي من كرة القدم.

 

حاوِل أن تتذكر آخر هداف شاهدته لا يخشى ملاقاة العرضيات على القائم القريب، وستجد نفسك تعود إلى أسماء مثل نيستلروي وكريسبو ودروغبا في أول الألفية، مع استثناءات قليلة تشمل أمثال سواريز وأغويرو بعدها.

منذ تلك اللحظة، ومع دخول الأجنحة العكسية على خطوط التهديف، أصبح الهم الأول لأغلبهم هو تجنُّب المواجهات مع المدافعين ابتداء، لذا ستجد العديد من الأهداف لسترلنغ ونيمار ومانيه وصلاح ومبابي وحتى رونالدو، يلاقون فيها العرضيات على القائم البعيد في المرمى الخالي، بعد أن تخترق الزحام وتخرج نظيفة من الجهة الأخرى.

الجميع يحاول اختصار عملية التسجيل في هذه المواقف إلى أسهل صورها، معتمدا على مهارات الفريق في التحضير وتفريغ المساحات واجتذاب مدافعي الخصم وتشتيت تمركزهم. الجميع باستثناء هالاند، ببساطة لأن ثقته في قدرته على تحويل الكرة بدقة وقوة -كما تتطلب العرضيات على القائم القريب- لا تُضاهى، والأمر لا علاقة له بطوله وقدرته على التفوق في الهوائيات بسهولة، لأن عدد الأهداف التي أحرزها النرويجي الأعسر بقدمه اليمنى يفوق تلك التي أحرزها برأسه.

تلك الخاصية تحديدا تعكس المعادلة المعتادة، فبدلا من أن يتكفل الهداف بأسهل جزء في العملية، وهو التحرك في الجانب الأعمى للمدافع، وانتظار الأهداف السهلة أمام المرمى الخالي معتمدا على مهارة زملائه في تفكيك الزحام، يمنح هالاند الأظهرة والأجنحة وصُنَّاع الألعاب فرصة لمراكمة إحصائيات شبه مضمونة على حسابه، لأن خروجه للقائم القريب عندما يستدعي الأمر، وقدرته على استباق المدافعين بتحركاته المخادعة وطول أطرافه ودقة لمسته، يجعل عرضياتهم وتمريراتهم الحاسمة من أسهل ما يمكن.

الانطلاق إلى الماضي

الأهم من كل ما سبق أن القلق المبالغ فيه من قدرته على معادلة أرقام ميسي ورونالدو القياسية، وربما تجاوزها، لا يُغيِّر من نظرتنا إلى الثنائي، ولا يهدد شموليتهم وقدرتهم على أداء أدوار متعددة والتهديف بشكل متنوع في مراحل من مسيرتهم، ولكنه، للمفارقة، يُغيِّر من نظرتنا لمَن يعتريهم هذا القلق.

السبب واضح، فبين هذا الزحام من الخلط اللغوي والتعبيري، يُعَدُّ الخلط الأصعب على الإطلاق هو ذاك الواقع بين ما يفعله هالاند من جهة، وبين ما يفعله ميسي وما فعله رونالدو في مراحل مبكرة من مسيرته من جهة أخرى.

ببساطة، يصعب التخيل بأن أحدهم سيأتي في 2040 ليتساءل إن كان هالاند لاعبا أفضل من ميسي أو رونالدو أو رونالدينيو، لأن هذا سيعني أنه لم يشاهد مباراة واحدة لأيٍّ منهم، وهذا هو ما يضعنا أمام حقيقة هذا القلق؛ أنه معني بالإرث الرقمي للثنائي بالأساس، لا بشمولية أدوارهم في الملعب، على عكس ما يدعي للمفارقة.

هذا هو الجانب الوحيد الذي قد يُهدِّده هالاند من مسيرتهما؛ أنه، إن حالفه القليل من الحظ وتمكن من تجنب الإصابات واختيار خطواته التالية بدقة، قد يعتزل وقد راكم حصيلة تهديفية تفوق الثنائي، وهو ما أنجزه بالفعل حتى اللحظة إن قارناه بأيٍّ منهم في عمر الثانية والعشرين، وبفارق رقمي مذهل. (8)

في الواقع، إحدى أهم مزايا ما ينجزه هالاند حاليا من تحطيم مستمر للأرقام القياسية بسهولة لافتة هو لفت النظر إلى كل ما عداها، ومن هذه الزاوية، يبدو ما أنجزه حتى اللحظة دليلا واضحا على أن تنوع الثنائي المذهل في بداياتهما قد لا يتكرر في المستقبل القريب.

هالاند لن يتحول إلى ميسي أو رونالدو غالبا، ولا نعتقد أنه رغب في ذلك عند أي لحظة من مسيرته، وهذا لا يعني أنه روبوت مبرمج على إحراز الأهداف أو فايكينغ يطحن ملاعب إنجلترا بمطرقته. هذه عبارات ظاهرها المدح وباطنها الذم لأنها تقصر مفهوم المهارة على مساحة شديدة الضيق والخصوصية والنسبية، ولو أنهى مسيرته وفي جعبته 2000 هدف لما غيَّر ذلك من حقيقة أسلافه "المهاريين" شيئا، غير أنه قد يدفعنا إلى مراجعة نظرتنا لكرة القدم ذاتها.

_________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة