تاريخ من المؤامرات.. كيف يتم التلاعب بنتائج المستديرة؟
في هذا السياق، عادة ما تكون شخصا من اثنين؛ إما مواطن عالم ثالث محبط مهووس بتفسير كل شيء بالمؤامرات الخفية لتبرير كل أزماتك، أو مثقف راقي متحضر لا تؤمن بهذا الهراء وترى أن من يعتنقونه ليسوا أكثر من مواطني عالم ثالث مهووسون بتفسير كل شيء بالمؤامرات الخفية لتبرير كل أزماتهم. في هذه الأيام يتطلب الحديث عن نظرية المؤامرة الكثير من الشجاعة، وبالطبع جلد سميك لتحمل الإهانات المصاحبة.
لذا وبعد أن نخبرك بالبديهيات المعتادة، مثل أن نظرية المؤامرة تبقى في إطارها النظري فقط في حال لم يكن هناك حقائق تدعمها، وأن كرة القدم جزء من الحياة مثلها مثل غيرها وليست مستثناة من هذه القاعدة، علينا أن نحذرك أن التالي مزعج للغاية، وقد يقتل جزءًا لا بأس به من شغفك باللعبة، وعلينا أن نحذرك أيضًا أن هذا ليس تحذيرًا تحفيزيًا لإرغامك على القراءة.
منذ ساعات أعلن بلاتيني أن قرعة كأس العالم 1998 كانت مدبرة. البرازيل ستقع على رأس المجموعة الأولى لأنها حامل اللقب، لا تلاعب هنا، ولكن فرنسا ستُرسل إلى المجموعة الثالثة حتى إذا تصدر المنتخبان مجموعتيهما كما هو متوقع أصبح من المستحيل أن يلتقيا قبل النهائي. النهائي الحلم كما أسماه الملك الفرنسي. (1)
وقتها، كان بلاتيني أحد رؤساء اللجنة المنظمة للبطولة، وكان لا يزال شابًا طموحًا مرتشيًا يشق طريقه في ردهات الاتحاد الأوروبي الذي تولى رئاسته لاحقًا، وهو الآن يقضي عقوبة الاستبعاد من كرة القدم لمدة أربع سنوات بعد تلقيه "مبلغًا غير مستحق" قدره 1.3 مليون يورو من رئيس الفيفا آنذاك سيب بلاتر، طبقًا للتحقيقات. (2)
|
لماذا هو النهائي الحلم؟ لأنه الأكثر قابلية للتسويق. البرازيل حامل اللقب المدجج بالنجوم والمهارات في مواجهة أصحاب الأرض الذي جمعوا قدرًا هائلًا من التعاطف في طريقهم للنهائي. بلاتيني يحكي أنه لم يكن حلمه وحده بل حلم كل أعضاء اللجنة المنظمة على مختلف جنسياتهم. لماذا هذه البطولة تحديدًا؟ هذا يقودنا للنقطة الثانية. المشكلة لم تكن في التلاعب وحسب، ولا حتى في البساطة التي وقع بها على حد تعبير بلاتيني، ولكن أيضًا في السؤال الذي أنهى به حواره مع France Bleu؛ هل تظنون أن هناك دولة مضيفة واحدة لم تفعل المثل؟ (1)
بهذه التلقائية نسف الرجل قسطًا كبيرًا من العدالة في قرعة كل كؤوس العالم وبطولات أوروبا التي أجريت تحت عينيه وعيني بلاتر. بالطبع يمكنك أن تقول إن فرنسا تغلبت في الطريق على إيطاليا وكرواتيا الرهيبة التي سحقت الألمان بثلاثية، ولكنك تعلم مثلما نعلم أن القرعة تلعب دورًا لا بأس به في تحديد الفائز، وأن حسابات البطولات المشابهة غالبًا ما تكون أعقد من ذلك. هناك منتخبات لا تتمنى مواجهة بعضها البعض، وهناك عُقد تاريخية تحسم العديد من المباريات قبل أن تبدأ، ناهيك عن أن القرعة ضمنت أن تلعب فرنسا المباريات الثلاث الأصعب في البطولة في ستاد دو فرانس الذي تبلغ سعته مرة ونصف أي ملعب ثاني من ملاعب البطولة.
المصيبة أن الأمر ليس متعلقًا بحقبة بلاتر وبلاتيني فحسب، بل أن ما سبق هو نفس ما وقع في مونديال 1966 ويورو 1996، عندما تم تصميم القرعة ليلعب الإنجليز كل مبارياتهم على ملعب ويمبلي الأكبر سعة بدوره. البعض يقول بأن الأمر لم يكن مهمًا لهذه الدرجة، ولا يمكن الحكم بفساد البطولة برمتها من أجل تفصيلة كتلك، والبعض الآخر يؤكد بأنها لو لم تكن مهمة لما خاطر أحد من أجل إتمامها. (1)
فلنعبر إذن إلى بعض الأمور التي كانت مهمة إلى هذه الدرجة؛ الملعب لم يكن الأزمة الوحيدة في مونديال 1966 الذي فازت به إنجلترا، بل فضائح تحكيمية مدوية على طول البطولة وعرضها لم تكتف بضمان تأهل الإنجليز بل تخطت ذلك إلى إبعاد متعمد للبرازيل – أبرز المرشحين – عن المنافسة، وطبعًا أنت تعلم عن مونديال 1978 ومباراة بيرو والأرجنتين المشبوهة التي ضمنت تأهل الأخيرة، وتعلم أن ذلك كان قبل أن ينتقم مارادونا من الإنجليز بـ"يد الإله" الشهيرة. بل حتى في 1990 عندما وصلت الأرجنتين إلى النهائي على حساب البرازيل كان ذلك بمساعدة زجاجة مياه مخدرة مُنحت لمدافع السيلساو برانكو، واعترف بها مارادونا نفسه لاحقًا. الطريف أن بعدها بخمسة عشر عامًا قرر الاتحاد البرازيلي إعادة فتح الواقعة، ولم يجد سوى بلاتر ليقدم له الملف. (3) (4) (5) (6)
(مارادونا يعترف بزجاجة المياه المخدرة في إيطاليا 1990)
1978 و1986 و1990 وما خفي كان أعظم، ولكن في هذا السياق ليس بإمكان أحد منافسة الطليان. تاريخ إيطاليا الدولي والمحلي يبدو في الواقع وكأنه مسيرة لا نهائية من الفضائح والمؤامرات يتخللها القليل من كرة القدم.
كما هو معلوم، نظمت الأوروغواي أولى نسخ المونديال وفازت بها. كان ذلك على حساب رغبة الطليان – وتحديدًا موسوليني – في تنظيم البطولة. الفاشي الإيطالي اعتبر الأمر صفعة على وجهه وقرر الانسحاب من المشاركة، ثم عاد وكرر طلبه في النسخة التالية ليفوز بها وتبدأ سلسلة من أحطّ الأحداث في تاريخ كأس العالم وكرة القدم عمومًا. (7)
بالطبع انسحبت الأوروغواي من البطولة التالية في محاولة لرد اعتبارها، والأهم أن الأرجنتين أحجمت عن إرسال أهم لاعبيها لسبب بسيط جدًا هو أن العديد منهم يمتلك أصولًا إيطالية، وقانون الـ"أوريوندي" الذي وضعه موسوليني كان يسمح لإيطاليا بتجنيس هؤلاء – أو اختطافهم بالأحرى – إذا توافرت فيهم ثلاثة شروط؛ أولها أن يمتلكوا عقدًا ساريًا للعب في وطنهم الجديد إيطاليا، وثانيها أن يكون أحد أجدادهم من نسب إيطالي بحد أقصى ثلاثة أجيال سابقة، وآخرها ألا يسمح لهم باللعب ضد وطنهم "الآخر"، أي بصفوف الأرجنتين في هذه الحالة. القانون وُضع بالأساس من أجل تجنيد الأرجنتينيين من أصول إيطالية في الحرب ولكن تم استخدامه في كرة القدم بالتبعية، وهو ما يفسر تصريح بوتزو مدرب الأتزوري آنذاك "إن كان بإمكانهم الموت لأجل إيطاليا فبإمكانهم اللعب لأجل إيطاليا".
|
(صحفي الغارديان والجزيرة خوان أرانغو؛ الأرجنتين كانت تقتل المنشقين أثناء مونديال 1978، وموسوليني كان متورطًا في إنتصارات إيطاليا في الثلاثينات)
يمكنك القول مبدئيًا أن الـ"أوريوندي" – إلى جانب عوامل أخرى مهمة – هو ما أدى لفوز إيطاليا بهذه البطولة، غايتا وأورسي كانا لاعبا "أوريوندي" في صفوف المنتخب ولعبا دورًا مهمًا في التتويج. في الواقع مازال القانون ساريًا حتى اللحظة وبموجبه انضم كامورانيزي لصفوف الأتزوري في مونديال 2006. المهم أن موسوليني، وكأي ديكتاتور فاشي يحترم نفسه، كان يسعى للفوز بهذه البطولة وإثبات ذاته على الساحة العالمية من خلال الجماهير الغفيرة التي تتابع كرة القدم.
حكام مرتشون، حكام تم تهديدهم، حكام اجتمعوا مع الرجل على العشاء ليلة المباراة، كل ما تتخيله وقع وأكثر. أبرزهم بالطبع كان إيفان إيكليند السويدي الذي أدار مباراتي نصف النهائي والنهائي بتألق كبير نجم عنه صناعته لهدف إيطاليا الوحيد أمام النمسا. هذه ليست مزحة، الرجل اعترض كرة عرضية في الثلث الأول للنمسا من الطرف للطرف برأسه "عن طريق الخطأ" ليضع غايتا – أوريوندي آخر – في مواجهة المرمى، ولم يتوقف الأمر هنا بل تم دفع حارس النمسا بشكل فج حتى يُحرم من أي فرصة ممكنة للتصدي للكرة. موسوليني لا يمزح ولا يترك شيئًا للصدفة.
بعدها حُرم إيكليند من التحكيم للأبد، ولكن في النسخة التالية التي نظمتها فرنسا كانت القصة مختصرة نوعًا ما. نتائج مفاجئة للأتزوري على كل من فرنسا والولايات المتحدة باعتبار أن إيطاليا كانت لا تزال أمة ناشئة في كرة القدم ولم تكن تمتلك أية مواهب كبيرة باستثناء المجنسين الأرجنتينيين، بل إن جياني بريرا أشهر صحفي إيطالي كتب عن كرة القدم اعتبر أن هذا هو السبب الرئيس لاعتناق فكر الكاتيناتشو أصلًا.
(لقطات من نهائي مونديال 1934 إيطاليا والنمسا بتحكيم إيكليند)
المهم أن الأتزوري وصل إلى المباراة النهائية بطريقة ما، وكان عليه أن يتغلب على المجر بطريقة ما، فوصل تليغرام من موسوليني للاعبين قبل المباراة يقول "الانتصار أو الموت". تلك لم تكن عبارة مجازية، وقيل إن الطليان توسلوا للمجريين لترك المباراة بعد أن تعادلوا 1-1، وعقب ذلك انهزمت المجر بعد أن تلقت ثلاثة أهداف سهلة وخرج الحارس أنتال زابو ليقول إنه قبل أربعة أهداف ولكنه أنقذ حياتهم، ناهيك عن القصة المريبة لخروج روسّي من السجن في 1982 قبل انقضاء مدته وقيادته إيطاليا للفوز بالبطولة. (7)
في أسبانيا، كان هناك شيئ أقل حدة وفجاجة يدور مع فاشي آخر يبحث عن ذاته في الكرة هو فرانكو، ولكن لم تكن حظوته ومكانته كافيتين للتأثير في نتائج أسبانيا فاكتفى بالتدخل في صفقة دي ستيفانو التي يعتبرها البعض أهم صفقة أتمها الميرينغي في تاريخه، بالإضافة إلى بضع اغتيالات هنا وهناك للمعارضين الذين تصادف أنهم كانوا يديرون أندية لكرة القدم. ووفقًا لجاك فيرّان أحد مؤسسي دوري الأبطال، نال سانتياغو برنابيو، والذي كان رئيسًا للميرينغي آنذاك ومجند سابق تحت إمرة فرانكو في الحرب الأهلية، ما يمكن تسميته بـ"معاملة خاصة" في النسخ الأولى من البطولة، باعتباره كان أهم الداعمين لها وقت إنشائها. (8) (9) (10)
حتى هتلر حاول استغلال نفس لعبة موسوليني لاحقًا بعد اجتياح النمسا، وانتقم بتجنيس نجومها الذين هزموا فريقه بنتائج ثقيلة سابقًا، ولكنه لم ينجح. وذُكر أن ماتياس سيندلر، الذي اُختير كأفضل رياضي نمساوي في القرن العشرين، كان قد تم اغتياله على يد قوات الغشتابو وهو في السادسة والثلاثين من عمره، بعد أن رفض الانضمام للمانشافت وفقًا لتعليمات النازي، بل واحتفل بهدفيه في مرمى الألمان بالرقص في الملعب أمام ضباط الرايخ الحاضرين. (11)
|
(قصة ماتياس سيندلر وهدفه في ألمانيا النازية الذي قتله)
ليست هناك طريقة مهذبة لإنهاء هذا السيل من الفظائع لأن ما سبق مجرد غيض من فيض. في الواقع كان من الأسهل أن نخبرك بالبطولات التي لم تقع فيها فضائح كبرى.
في البداية حذرناك من أن التالي قد يقتل شغفك باللعبة، ولكنه لم ولن يفعل لعدة أسباب؛ أولها أنها ليست المرة الأولى التي تذكر فيها تلك الوقائع ومازال العالم يشاهد كرة القدم بل وربما أكثر من ذي قبل، وثانيها هو أن الجماهير تنجح بطريقة ما في تجاهل كل ذلك والتظاهر بأنه لم يكن. تقنية الإنكار النفسية المعروفة التي تسمح لنا بمواصلة الحياة حتى لا نصاب بالجنون أو نتوقف عن مشاهدة كرة القدم، ولكن لن نستطيع أن نمنع أمور كتصريحات بلاتيني من الطفو إلى السطح كل فترة، لتذكرنا بهشاشة كل ذلك، وأن ما يُقال عادة عن كون كرة القدم مختلفة عن الحياة الواقعية وعادلة وقادرة على منح المُجد ومكافأة المجتهد، هو هراء في كثير من الحالات إن لم يكن أغلبها.
بالطبع اختلفت الطرق كثيرًا عن الماضي، يصعب في هذه الأيام أن تشاهد حكمًا يصنع هدفًا أو ديكتاتورًا يستقبل حكم المباراة في المقصورة قبل اللقاء، على الأقل بطريقة مباشرة واضحة مُعلنة، ولكن مازال للمال والمصالح النصيب الأكبر في كرة القدم. عبارة مبتذلة للغاية ومكررة للغاية ولكنها حقيقية للغاية كذلك.
طبعًا أنت تنتظر حكمة ما أو خلاصة شاعرية يمكن استنتاجها من كل ذلك، ولكنها لم توجد بعد للأسف. الشيء الوحيد الذي يمكن قوله أن البشر يتآمرون منذ بدء الخليقة، وليس هناك أي منطق في استثناء كرة القدم من هذه القاعدة، ولا أي حظوة مكتسبة من الترفع عن فرضيات التآمر أو التمسك بها. الشيء الوحيد الذي يمكن قوله أن كرة القدم ملوثة ومشبوهة مثل الواقع بالضبط ولا فارق هنالك.