كلوب الذي لا يفهم!
في أماكن متفرقة في إنجلترا يجلس الآن مئات الصحفيين المترددين أمام شاشات حواسبهم في حيرة من أمرهم بعد عرض آخر مخيب للريدز، فالعناوين كلها مكررة والمياه الراكدة لا تتحرك في ليفربول، نفس المشكلات المزمنة المصطنعة التي لا تُحل أبدا، نفس العيوب ونفس الثغرات ونفس الفرص السهلة الضائعة وربما نفس الأهداف المحبطة في الدقائق الأخيرة كذلك.
ما يجعل الأمر معقدا هو الرومانسية التي تنتاب الجميع حينما يتعاملون مع كلوب، فالرجل الذي رفض برشلونة وريال مدريد ليتولى المهمة التي لا يريدها أحد لا بد وأن يكون مميزا، (1) (2) والرجل الذي بنى مجده بالقوس والسهم في مواجهة البازوكا لا يمكن أن يُعامل كباقي المدربين، (3) والأهم من كل ذلك أنه يمتلك جاذبية ساحرة محببة تمكنه من المبالغة في ردود أفعاله مثل كونتي ولكن دون أن يتلقى نصف معدلات السخرية، وأن يعرض 65 مليون باوند في فان دايك دون أن يتهمه أحد بالسفه كغوارديولا، (4) وأن يخالف كل ما نادى به طيلة الموسمين الماضيين دون أن يُعتبر منافقا كمورينيو، وربما لم يعد يتبقى له سوى بضع سنوات إضافية من العناد ليتحول إلى فينغر آخر، ولكن على الأرجح فحتى حينها لن يعتبره أحد فينغر آخر.
مورينيو يمتلك جاذبية كاسحة بالطبع، ولكنه بالغ في إحراج نفسه ناسيا أن التاريخ لم يعد يتذكر النتائج وحدها، وأن اختراع اليوتيوب قد أضاف التصريحات والمواقف لسجلات التاريخ كذلك، وأن اصطياد تناقضاته الفجة لم يكن يوما أسهل من الآن، وأن حروبه النفسية لم تعد أكثر من فرص جديدة لمزيد من الفكاهة.
بالإضافة إلى أن حبكة المدرب الذي يتآمر عليه الجميع وينفق مئات الملايين موسميا لتقديم كرة دفاعية لم تعد بنفس الجاذبية السابقة، أو لعلها قد استنفدت غرضها بما أن نقيضها قد حل أخيرا على إنجلترا وشفى الجميع غليلهم منه بعد أن تهدّم عالمه الأفلاطوني على رأسه في الموسم الأول، ولم ينفعه سَمْت الفيلسوف العبقري الذي اكتسبه مع الزمن، ولم يكن أكثر من جاذبية أخرى تحولت إلى وبال على صاحبها، لأن الفلاسفة العباقرة لا يخسرون بالأربعة من إيفرتون ولا ينفقون 50 مليونا في مدافع كستونز.
المشترك بين كل تلك التجارب أن أصحابها أظهروا عداء واضحا للإنجليز وإعلامهم فمنحوهم العذر لشَن الحرب، والنتيجة أن كل الأصنام قد تحطمت وبقي صنم كلوب صامدا رغم امتلائه بالشروخ، لأن الرجل أكثر صخبا وحماسا في الملعب من أن تكرهه، وأكثر وداعة وطرافة في المؤتمرات الصحفية من أن يستفزك، وأكثر إثارة من أن تتجاهله كفينغر، ولأنه أتى بعد تجربة حالمة مع دورتموند، ولأنه لم يُثِر حفيظة الجميع بإطلاق الألقاب على نفسه ولم يطلق عليه مريدوه واحدا.
لذا لا يجرؤ أحد على إطلاق الرصاصة الأولى وإعلان الحرب على الرجل أو مطالبته بالرحيل رغم أن الفكرة راودت الجميع تقريبا، لأن لا أحد منهم مستعد لكي يكون الوغد الذي أعلن الحرب على رجل أعزل وديع شغوف لا ينفق 200 مليون كل موسم ومدافعوه هم ماتيب ولوفرين وكلافان، ولأن كلا منهم يعلم أنه سيخوض تلك الحرب منفردا لفترة لا بأس بها، لأن كلوب لم يخرق المعاهدة بعد ولم ينفق المئة مليون الأولى، لذا انتظر الجميع إتمام صفقتي فان دايك وكيتا على أحر من الجمر، لأنها كانت ستعني أن كلوب قد قبل التحدي، ولأن هذا سيعني بالتبعية أن هناك صنما جديدا قد صار جاهزا للتحطيم مع أول إخفاق، وبضمير مستريح يتوسد 150 مليون يورو كاملة كانت ستنفق لضم الثنائي. (5)
المهم أن هذا الوضع المشوه قد استقر، بل وهو مرشح للاستمرار لأن نافذة الانتقالات قد أغلقت بلا حل واحد لأغلب مشكلات الفريق، وبمقتضاه تم اختطاف النادي بأكمله في مسار إعلامي أجوف، ومع الوقت صارت انتقادات الجماهير بلا صوت حقيقي يمثلها، وأصبح السؤال الأهم هو "متى يتوقف الإعلام عن تجاهل خطايا كلوب؟" بدلا من السؤال المنطقي الأصلي "متى يتوقف كلوب عن خطاياه؟".
ما يزيد الطين بلة أن الرجل يظن أنه سيقضي السنوات الخمس الأولى في إعداد فريقه وكأنه مازال في دورتموند، حيث يمتلك المدربون كل الوقت ويُعيّنون لإعادة بناء الفريق بعد غارات البايرن المعتادة ويُقالون لأي سبب إلا الفشل في حصد الدوري، فاللقب هناك يُعامل معاملة المفاجآت السعيدة التي تستمر معها الحياة سواء حضرت أو لا، وكل هذا ليس بجديد على ليفربول وجماهيره، بل كان المعتاد لتسعة وعشرين عاما، وتلك هي المشكلة.
كلها أمور مستفزة جدا تستطيع إخراج أي مشجع للريدز عن شعوره، والمستفز فيها أنها لا تحتاج عالم في فيزياء الكم ليدركها، فبالتأكيد لا يحتاج كلوب لمن يخبره أن قائمة الـ 5 ملايين لاعب المسجلين في أوروبا تضم بدائل أخرى غير لوفرين وفان دايك، وأن فرنسا وألمانيا تعج بالمواهب الشابة التي صار اقتناصها أسهل مع وعود اللعب في دوري الأبطال، وأن التكتلات الدفاعية تستعصي على أعتى الفرق وأكثرها ازدحاما بالنجوم لو لم يكن أحدهم قادرا على التعامل مع العرضيات والفرص السهلة. ولكن بطريقة ما تحول كل هذا العناد والانفصال عن الواقع إلى قصة رومانسية أخرى تحكي عن كلوب الذي يريد تجربة القوس والسهم مجددا في إنجلترا، عازما على جعل تجربة دورتموند قاعدة لا استثناء، ولكن بلاعبين أقل جودة وفي دوري أكثر صعوبة، ولو كان الأمر قابلا للتكرار بنفس الطريقة لما كانت تجربة الفيستيفاليا بهذا التفرد في المقام الأول، وربما لما ترشح لتدريب ليفربول من الأصل.
لن تميل الأرض لو قلنا أن لا رومانسية هنالك، لا شغف ولا ملاحم ولا كفاح ضد الأثرياء، فقط عناد أجوف في غير محله، فقط فشل في التعامل مع المتغيرات وعجز عن مواكبتها، فقط المزيد من إضاعة الوقت مع مدرب ما زال أسير فكرته الأولى ويرفض تطويرها، فالمشكلة ليست في أن كلوب يفضل نوعا معينا من الموسيقى، بل في كونه يستمع لأغنية واحدة طيلة الوقت، وهذا أقرب لضيق الأفق من الرومانسية، وفقط حينما يدرك كلوب ذلك سيتحول الإخفاق القادم إلى خطوة على الطريق الصحيح بدلا من أغنية تُتلى على صنم لا يفهم، وسيجد مئات الصحفيين الجالسين في حيرة أمام شاشات حواسبهم شيئا جديدا يكتبونه عن ليفربول كلوب.