شعار قسم ميدان

السر الذي حيَّر العلماء.. هل تحلُم الحيوانات حقا مثل البشر؟

كانت الغوريلا "واشو" أول كائن غير بشري يتحدث لغة الإشارة الأميركية في ستينيات القرن الماضي، وقد تعلَّم منها ابنها "لوليس" اللغة نفسها بعد ذلك. بعد ذلك، قرَّرت عالِمة الرئيسيات "كمبرلي موكوبي" (Kimberly Mukobi) مراقبة "واشو" وابنها ومجموعة من الغوريلات عند خلودها إلى النوم داخل مختبر في جامعة "واشنطن" الأميركية، بعد أن زرعت مجموعة من الكاميرات في محيط المكان، وعند حلول منتصف الليل كانت المفاجأة أن "واشو" طلبت القهوة مُستخدِمة لغة الإشارة الأميركية خلال نومها، أمر مُشابه حدث مع "لويس" وبقية أفراد المجموعة مع اختلاف ما أشاروا إليه في تلك الليلة، ودون أدنى تدخُّل من الباحثة (1).

بعيدا عن "واشو"، عند نقطة في أعماق أحد البحار، رصدت عدسة فيلم وثائقي لحظة شاهدها الملايين لأول مرة في حياتهم، أخطبوط مغلق العينين، منغمس في نومه، يتحرك قليلا ربما بفعل الماء، لكن لونه يتغير بسرعة شديدة، وهو سلوك مشهور للأخطبوط أثناء صحوه حيث يتبدل لونه على مدار اليوم وفق حركته وأفعاله، وهو ما جعل الباحثين يستنتجون أن ذلك الأخطبوط كان يحلم، ربما بوجبة من سمك السلطعون الشهي يلتهمها في هدوء.

هل تحلم الحيوانات حقا؟

حسنا، هذا هو السؤال الرئيسي الذي نطرحه اليوم. في نهاية يونيو/حزيران الفائت صدر كتاب جديد بعنوان "عندما تحلم الحيوانات: العالم الخفي لوعي الحيوان" (When Animals Dream: The Hidden World of Animal Consciousness)، من إعداد "ديفيد بناغوتسمان"، الأستاذ المشارك بجامعة ولاية سان فرانسيسكو الأميركية، وقد حصد اهتماما علميا وإعلاميا بما عرضه من معلومات جمعها خلال تحليله آلاف الأبحاث العلمية المنشورة حول نوم الحيوانات.

يُصرِّح الكاتب في إحدى مقابلاته الصحفية أن العلماء تجنَّبوا على مدى عقود طويلة الإجابة عن سؤال: "هل تحلم الحيوانات؟"، رغم الاهتمام العلمي بدراسة نوم الحيوانات، وتوفُّر الكثير من الدراسات العلمية في هذا السياق. يذهب ديفيد إلى أبعد من ذلك مؤكِّدا أن الباحثين تجنَّبوا طويلا استخدام أي مفردة حول "الأحلام" في الحيوانات، وبدلا من ذلك ركَّزوا اهتمامهم على جانبين، الأول السلوكيات التي تُظهِرها الحيوانات خلال نومها مثل تحريك الأطراف أو الجسد أو العيون، والثاني التغيرات الدماغية التي تمر بها خلال نومها، وذلك من خلال مراقبتها وفحصها بالأجهزة الحديثة. ورغم وجود بيانات حول التغيرات الجسدية والعصبية التي تحدث للحيوانات خلال نومها التي يمكن استخدامها دليلا على أنها تحلم، فإنهم التفوا على هذا السؤال، وهو ما اعتبره حالة من الإنكار تنتاب الأوساط العلمية حاليا حيال الأدلة التي يعتبرها كافية على أحلام الحيوانات.

في كتابه، يورد ديفيد تجارب علمية يمكن استخدامها أدلة على أن الحيوانات تحلم، من بينها تجربة قرود الغوريلا، التي تحدَّثنا عنها في المقدمة، إضافة إلى تجربة أخرى تؤكِّد أن الحيوانات قد ترى الكوابيس أيضا في أحلامها. في تلك التجربة التي أُجريت في جامعة "بكين"، قُسِّمت الفئران إلى مجموعتين، وتعرَّضت الأولى لأذى جسدي، والثانية لأذى نفسي، وروقبت الفئران خلال نومها، وقد خلصت الدراسة إلى أن الفئران الخاضعة للتجربة اختبرت كوابيس أثناء النوم، بل وأعادت تمثيل ما تعرَّضت له قبل النوم، وهو أمر مشابه لما يحدث للبشر خلال نومهم بعد تعرُّضهم لصدمات جسدية أو نفسية (3).

كتاب "عندما تحلم الحيوانات: العالم الخفي لوعي الحيوان" لـ "ديفيد بناغوتسمان".

السر الغامض

لكن دعونا لا نبالغ في تقدير معرفتنا حول الأمر، فحتى في الإنسان، لا يزال عالم الأحلام سِرًّا تعجز القدرات العلمية البشرية عن سبر أغواره، وكل ما نملكه حاليا هو مجموعة من الفرضيات التي تُفسِّر السبب وراء أحلام البشر. واحدة من هذه النظريات أن وظيفة الأحلام هي زيادة قدرة الدماغ على التعامل مع العواطف وتنظيمها، ويزعم أنصار هذه النظرية أن الأحلام تُقلِّل من تعرُّض الشخص للاضطرابات المزاجية (4)، وأن النوم الجيد يزيد من التواصل بين مراكز الدماغ المسؤولة عن تنظيم العواطف (5) (6)، لكن هذه النظرية تحتاج إلى مزيد من الأدلة لترجيحها.

في المقابل، تجادل فرضية أخرى أن وظيفة الأحلام هي تقوية الذاكرة وتخزين المعلومات (7)، وذلك من خلال إعادة تمثيل الأحداث، أي إن الشخص يمر بالحدث الواقعي نفسه مرة أخرى خلال حلمه من أجل تخزين تفاصيله جيدا (8)، لكن رغم غزارة الأبحاث في هذا السياق، فإن هناك جدلا يُشكِّك في النظرية يستند إلى أن الأحداث التي يمر بها الشخص في الواقع لا تحدث في أحلامه إلا في حالات معينة مثل اضطراب ما بعد الصدمة، إضافة إلى أن أحلامنا ليست دائما متصلة بالأحداث التي شهدناها خلال حياتنا (9).

على النقيض تماما، تدَّعي نظرية ثالثة أن وظيفة الأحلام هي دفع الناس لنسيان بعض الوقائع الفعلية التي تحدث في حياتهم، فيما تدَّعي فرضية رابعة أن الأحلام تُهيِّئنا لمواجهة مشكلاتنا، من خلال محاكاة المشكلات وردود أفعالنا عليها أثناء النوم (10).

وأخيرا، هناك نظرية جديدة ظهرت منذ عدة أشهر، مُستندة إلى التقنيات الحديثة كالتعلُّم العميق والشبكات العصبية، تَعتبر أن وظيفة الأحلام هي حماية قدرة الدماغ على التعميم (11)، وزيادة أدائه في هذه القدرة الإدراكية. يُعرَّف التعميم بأنه قدرة الدماغ على استخدام المعلومات الواردة إليه من الحواس لتعميمها على أشياء مماثلة يمر بها مستقبلا، مثلا إذا تعلَّم شخص كيفية حل مسألة ما، ثم عرضت له مسألة جديدة، فسيستخدم الدماغ المعلومات الواردة إليه عند تعلُّم حل المسألة الأولى، ليُعمِّم هذه المعلومات ويتعامل مع المسألة الجديدة ويحلها (12)، لكن عندما يتعرَّض الدماغ لكمٍّ كبير من المحفزات الخارجية التي تفوق قدرته على التعامل معها، يؤدي ذلك إلى اختلال قدرته على التعميم (13)، وهنا تَعتبر هذه النظرية الأحلام مجموعة من الهلوسات التي يتخلص بها الدماغ كل ليلة من بعض المعلومات الواردة من المحفزات الخارجية ويحتفظ فقط بالقدر الذي يمكنه التعامل معه، وبالتالي يحمي قدرته على التعامل مع عدد محدد من المحفزات ليستخدمها في التعميم.

بين الحيوانات والبشر

إذا تأملنا قليلا هذه النظريات، فسنرى أننا وإن استخدمنا التقنيات الحديثة لرصد وتحليل ومحاكاة أحلام البشر لفهم وظيفتها وأسبابها، فإن هناك عاملا مهما كان هو البوابة التي نقلت العلماء والباحثين إلى عالم أحلام البشر، وهو قدرة البشر على رواية ما يحدث في أحلامهم، وبعد ذلك يأتي دور العلماء في رصد التغيرات السلوكية والدماغية التي تصاحب النوم والأحلام من خلال التجارب العلمية (14).

ولسوء الحظ فإن الحيوانات لا تمتلك القدرة على أن تحكي لنا أحلامها، كما لا يمكننا أن نسألها إذا ما كانت تحلم من الأساس، لكن غياب التواصل اللفظي بيننا وبين الحيوانات لا يكفي لاستبعاد فرضية أنها تختبر أحلاما أثناء نومها. يعتقد "ديفيد بناغوتسمان" أن الحيوانات بإمكانها أن تحلم بالأشياء المرتبطة بتاريخ حياتها، وبالتجارب التي مرَّت بها، وهذا يوافق ما رُصد عن "واشو" عندما طلبت القهوة، وهو فعل اعتادت عليه خلال يقظتها. وقد اعتبر باحثون من جامعتَيْ "إيست لندن" و"ألاسكا باسيفيك" في الولايات المتحدة أنه رغم عدم قدرة الحيوانات على تأكيد أحلامها بالحديث عنها، فإن التغيرات الدماغية التي تمر بها تُدلِّل على أنها تنام وتحلم (15) (16)، ليس هذا فحسب، بل إن هناك شيئا آخر يحدث للحيوانات عند نومها وهو إعادة إنتاج بعض الأحداث الواقعية أثناء نومها (كما يحدث مع البشر)، والمفاجأة أنها تُمثِّل الأحداث في أحلامها بحركات جسدية واضحة بعكس ما يحدث مع البشر الذين يكونون مُستلقين تماما أثناء نومهم، باستثناء بعض الحركات العشوائية البسيطة.

لطالما أثار هذا السؤال فضول العلماء على مدى سنوات طويلة: لِمَ لا يُمثِّل البشر أحلامهم؟ وقد توصَّل عالم الأعصاب "ميشيل جوفي" (Michelle Jouvet) إلى أن ما يمنع البشر من تمثيل أحلامهم بالكامل هو حدوث شلل لأطرافهم خلال النوم، وأن هناك منطقة في الدماغ هي المسؤولة عن إحداث هذا الشلل أو تقليل حركة الأطراف بشكل كبير خلال الحلم، لذا لن تشاهد شخصا يُمثِّل عراكه مع شخص آخر وهو نائم يحلم بذلك. ولأخذ التجربة إلى مستوى جديد، قرَّر جوفي إجراء تدخُّل جراحي لإزالة تلك المنطقة من أدمغة القطط، وما حدث عند نومها بعد ذلك كان مدهشا للجميع، لقد مثَّلت القطط أحلامها من البداية إلى النهاية (17)، تماما كما يحدث في مقطع الفيديو التالي.

إدراك الإدراك

ينقلنا هذا إلى السؤال التالي: إذا كانت الحيوانات تحلم حقا، فهل تدرك مثل البشر أنها تحلم؟ وهل تستطيع التمييز بين الحقائق والأحلام؟ تُعزى هذه القدرة لدى البشر إلى ما يعرفه العلماء بـ"الإدراك الذاتي" أو "إدراك الإدراك" (Metacognition)، ويعني قدرة الدماغ على التخطيط والمراقبة وتغيير أسلوبه في التعلُّم عما يحيط به، أي إنه يتعلم بنفسه عن نفسه، وبذلك يتمكَّن من التفرقة بين الحقائق والأحلام عبر تمييز مستوى اليقين المتعلِّق بكل حدث. المفاجأة هنا أن ديفيد يزعم أن الحيوانات يمكنها تطوير هذه المقدرة أيضا (18).

يذكر "بناغوتسمان" في هذا السياق مثالا توضيحيا، إذا اعتبرنا أن لدينا قردا من نوعية الرايزيسي وحاولنا اختباره بتمييز صورة صديق له عن شخص آخر غريب عبر النقر على أحد زرين إلى اليمين أو اليسار، بمرور الوقت، يتعلَّم القرد الاختبار ويبدأ في الأداء جيدا، خاصة إذا كنت تكافئه في كل مرة يتوصل فيها إلى الجواب الصحيح بحبة عنب مثلا. وعند زيادة صعوبة الاختبار، عبر تقليل دقة الصور لتصبح أكثر ضبابية، ستبدأ القرود في التردد، وسيبدأ كلٌّ منهم في التراجع والتساؤل: "إلى أي مدى أنا متأكد من قراري هنا؟".

علاوة على ذلك، إذا أضفت خيارا ثالثا "زرا" يرمز إلى إجابة "لا أعرف" وكافأت القرود بنصف حبة عنب عندما تمارس هذه الخيار، فإنها في الواقع ستبدأ في استخدامه بمجرد أن تصبح الصور صعبة بعض الشيء على أنظمتها الإدراكية، مما يُشير إلى أن هذه الحيوانات تراقب إدراكها وترصد مستويات اليقين الخاصة بها قبل اتخاذ القرار (20).

يأمل ديفيد في النهاية أن يفتح كتابه الباب للحديث عن أحلام الحيوانات بوضوح، وأن يُثير اهتمام المتخصصين لربطها بنظريات الأحلام بين البشر، وربما الاستدلال على نظريات أو حقائق جديدة تكشف المزيد عن عالم الأحلام. لقد تجنَّب الباحثون طويلا أي حديث يتعلق بأحلام الحيوانات خوفا من الاتهام بـ"اللا عقلانية"، ولكن يبدو أن ذلك الأمر في طريقه للتغيُّر تماما في وقت قريب.

______________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة