شعار قسم ميدان

تكتيكات القراءة.. دليلك الشامل للمرور بسلاسة خلال الكتب الصعبة

تكتيكات القراءة

لعلنا لن نكون مبالغين إذا قلنا إن فوائد القراءة حازت أكبر كمٍّ من الاقتباسات الملهمة في تاريخ البشرية، الجميع تقريبا تحدث عن عظمة القراءة وأهميتها منذ الماضي السحيق، مرورا بالمتنبي إذ يقول إن "خير جليس في الزمان كتاب"، وصولا إلى لحظة كتابة هذه الكلمات، لكن في أثناء ذلك كله وقعنا في خطأ واحد رئيس، يمكن تلخيصه فيما قاله أوسكار وايلد ذات مرة: "إذا لم تستمتع بتكرار قراءة الكتاب نفسه أكثر من مرة بالقدر نفسه، فلا حاجة لك إلى أن تبدأ بقراءته من الأساس"، وأضاف: "أنا أستمتع بالكتب لدرجة تجعلني لا أهتم بكتابتها".

 

بسبب اقتباسات كهذه، وهي كثيفة كالمطر في ليالي الشتاء الباردة، يتصور البعض أنه حينما نقرأ فمن المفترض أن نشعر بتلك اللذة التي نراها في إعلانات الشوكولاتة، أو التي تختبرها إحداهن في لحظة متخيلة في غابة استوائية وهي تستمتع بمشروب المانجو بينما تمسك في يديها كتابا، لكن ذلك -ببساطة- غير صحيح.

 

حينما تحاول أن تقرأ في كتاب عن الفلسفة الوجودية على سبيل المثال، حتّى وإن كانت مقدمة قصيرة جدا للمبتدئين، أو آخر عن ميكانيكا الكم أو النظرية النسبية أو علم اجتماع النوع، فإنك بالطبع لن تشعر بتلك اللذة، بل وربما تُرهق بعد الصفحات القليلة الأولى، ويبدأ الملل بالتسرب إلى أعماقك شيئا فشيئا، وربما بعد نهاية الفصل الأول تقرر الانسحاب قليلا وتصفح هاتفك النقّال، ثم تنسى الكتاب تماما بعد فترة قصيرة وكأنه لم يكن بجانبك يوما ما.

 

الآن، فيمَ ستُفكِّر؟ بالضبط، ستظن أنه لا علاقة لك بالقراءة، هؤلاء الذين يستمتعون بالقراءة هم، ربما، فئة خاصة من البشر، ربما هم أكثر ذكاء منّا، هؤلاء الذين يتغزلون في القراءة وكأن ممارستها تشبه أن تشرب عصيرا باردا في نهار صيفي بعد يوم عمل طويل لا بد أنهم يمتلكون سرا ما يُمكِّنهم من ذلك. لكن الواقع يقول إن القراءة، ونقصد هنا بشكل خاص الكتب غير الروائية، هي عملية صعبة ومرهقة، لكن هناك بعض التكتيكات الفعالة التي يمكن أن تساعدك بالفعل على تخطي كتاب صعب، والخروج منه بأكبر فائدة.

 

خرافات القراءة السريعة

القراءة السريعة

لنبدأ بخرافة القراءة السريعة، التي تنال الكثير من الاهتمام بفضل مساقات وكتب التنمية البشرية، وتدعي عموما أنه كلما قرأت أسرع فهمت أكثر، لكن ذلك غير صحيح، والواقع أنه كلما كان موضوع الكتاب معقدا فعليك أن تقرأ بتأنٍّ، بل قد تحتاج إلى التراجع قليلا في بعض منحنيات الكتاب لتحقيق فهم أفضل.

 

سرعتك في القراءة لا تتحسَّن بقدرات تصويرية كما يزعم البعض، ولكنها تتطور فقط في ثلاث حالات: الأولى أن تقرأ في الكتاب نفسه أكثر من مرة، والثانية أن تقرأ في الموضوع نفسه لمرات متتالية، عندها سوف تعتاد مصطلحاته ويكون الكتاب الخامس مثلا في المجال نفسه أسهل كثيرا وبفارق واضح من الكتاب الأول، أما الحالة الثالثة فهي أن تقرأ للكاتب نفسه أكثر من مرة، هنا سوف تعتاد أسلوبه في الكتابة، وفلسفته، والمفاهيم التي غالبا ما يكررها.

 

في الواقع فإن إعادة القراءة هي مهارة لا يهتم بها الكثيرون، حيث يعتقدون أنك لو لم تفهم الكتاب من أول مرة، فإن ذلك يعني أنك لن تفهمه أبدا، لكن القراءات المتكررة للكتاب نفسه تُحسِّن مستواك في فهمه، رينيه ديكارت مثلا كان يقترح أن تقرأ الكتاب نفسه أربع مرات، الأولى قراءة عامة، والثانية تبحث خلالها عن حجج الكاتب، أما الثالثة فتحاول أن تجيب عن أسئلتك مثل: ما الذي لم أفهمه؟ والرابعة لبقية أسئلتك التي لم تُجب عنها في المرة السابقة.

 

ولتحسين فهمك لما تقرأ بشكل أكبر يمكن أن تقوم بحيلة بسيطة، وهي إدخال إحدى حواسك للعملية، يمكن مثلا أن تقرأ بصوت عالٍ، يساعدك ذلك أيضا على إبطاء سرعتك في القراءة، لأن البعض قد يكون معتادا في وقت سابق على القراءة بنمط أسرع ولا يتمكن بسهولة من تهدئة سرعته. إلى جانب القراءة بصوت عالٍ يمكن لك كذلك أن تستخدم أيًّا من تكتيكات "القراءة النشطة" الأخرى، وهي مهارة يستخدمها العديد من طلبة الجامعات لفهم مراجعهم، وتصلح بالطبع في كل أنواع الكتب.

القراءة الفعالة

فمثلا يمكنك أن تُدوِّن ملاحظاتك على جانبَيْ الكتاب، أو حتى في ورقة لاصقة صغيرة تضعها على جانب الصفحة التي تقرأها، يمكن كذلك أن تُدوِّن ملاحظاتك في ورقة خارجية، تُخصَّص لكل فصل مثلا، تتضمن الملاحظات كل شيء، بداية من شعورك عند قراءة فقرة ما، أسئلتك عنها سواء كانت استفهامية أو حتى نقدية (وهي نقطة مهمة سنتحدث عنها بعد قليل)، وكذلك تلخيصات ما فهمت.

 

استخدم أقلاما ملوّنة لتعليم أعلى الجمل أو السطور التي تراها مهمة (وليس كل السطور)، لكن في تلك النقطة قد تسأل: وما المهم أصلا؟ أو مثلا: كيف أستخرج ما هو مهم من الكتاب؟ في كثير من الأحيان، لا يمكن للقراء غربلة التفاصيل الرئيسية داخل فصل ما، هنا نحتاج إلى تحديد ما نبحث عنه داخل الكتاب.

 

خمس عدسات لتفصيص الكتب

عند تلك النقطة، يمكنك أن نتعلم طريقة مهمة يُقدِّمها الثلاثي البارع جيرالد جونز وجيرمي هايوارد ودان كاردينال في مرجعهم المبسط "AQA AS Philosophy" والمقدَّم لطلبة المرحلة الثانوية وامتحانات التقديم للجامعات في المدارس الإنجليزية، تسمى الطريقة بـ "العدسات الخمس"، والفكرة ببساطة هي أن تُستخدم كل عدسة منهم -بالترتيب التالي نفسه- لتفحّص نص الكتاب من أجل تحقيق أفضل فهم له.

 

الأولى، عدسة السياق: مَن الذي كتب هذا النص؟ ولماذا كتبه؟ ومتى كتبه؟ سيساعدك البحث عن السياق الذي كُتب فيه هذا النص في فهم الكثير من دلالاته، وعموما فإن قراءة مقدمة الكتاب وتصفح الفهرس يعطيان فكرة عامة، ومهمة للغاية، عن الكتاب وسياقه وهيكله الرئيسي الذي يُمثِّل الأعمدة الأسمنتية التي بُني عليها جسم الكتاب كله، لكنك قد تكون بحاجة إلى الخروج إلى أجواء الإنترنت للبحث عن تعريف للكاتب.

القراءة

العدسة الثانية هي عدسة الاصطلاحات: ما الكلمات التي تُستخدم بأسلوب اصطلاحي؟ ما الذي تعنيه؟ تفتح تلك الاصطلاحات بابا للانطلاق في بحث أوسع، وتُمثِّل علامات الطريق المرورية في أي كتاب، قف عندها وتأملها قليلا، الاصطلاحات ببساطة هي أهم شيء في كتاب علمي أو فلسفي ما، يشبه الأمر تعلُّم لغة جديدة، كلما تعلمت كلمات جديدة تقدمت. اعتبر الاصطلاحات نقطة توقف ثم انطلق نحو الفضاء الإلكتروني، وحاول التعرُّف إلى ما تعنيه تلك الاصطلاحات، غوغل ويوتيوب دائما هما أفضل صديقين، يوتيوب تحديدا قد يخدم في نقطة الاصطلاحات بفيديوهات قصيرة (يجري الأمر نفسه أيضا على أسماء الشخصيات، فإذا جاءت سيرة كانط مثلا أو نيلز بور أو ماكس فيبر إلخ، هنا ستكون في حاجة إلى التعرف على هذه الشخصية).

 

نصل الآن إلى العدسة الثالثة، وهي عدسة المفاهيم: ما الفكرة الرئيسية التي تتكرر في هذا النص؟ ماذا يقصد كاتبه؟ ما علاقة ذلك بالاصطلاحات؟ الآن، عبر العدستين الأولى والثانية، يمكن أن تكوِّن فكرة عن الموضوع.

 

أما العدسة الرابعة فهي عدسة الحجج: ما الحجة التي يطرحها الموضوع؟ ما الذي يحاول الكاتب أن يُثبته؟ وبأي طريقة؟ ابحث عن الفواصل التي بها كلمات كـ "لهذا السبب" و"نستنتج أن" و"بناء على ما سبق"، إلخ، حاول أن تستخرج الحجة التي يبنيها الموضوع بعلاقات متتالية (بما أن، إذن، من هنا يمكن أن نقول).

 

وأخيرا هناك عدسة البنية: كيف يمكن تقسيم هذا الموضوع أو الفصل أو هذا العنوان داخل الفصل أو محتوى هذه المجموعة من الصفحات إلى مجموعة من المقاطع المكتوبة بطريقتك؟ سيتضمَّن كلٌّ من تلك المقاطع فكرة، رقِّمها بالطريقة البسيطة 1، 2، 3، 4، إلخ، ضع عنوانا قصيرا لكلٍّ منها.

القراءة الفعالة

هنا تكون قد استطعت عمل ملخّص كامل لموضوعك، ويمكن لك أن توسِّع من هذا النوع من التقسيم لتستخدم الخرائط الذهنية، وهي فكرة بسيطة تعني أن تقوم بتنظيم ما كتبت من نقاط في صورة شجيرية، تبدأ من فكرة واحدة، أو ربما اسم أو اصطلاح أو مفهوم، لتتفرع إلى نقاط أخرى تتعلق بتلك الفكرة، وهكذا يستمر التفرع، تصلح تلك الفكرة جدا لوضع صورة عامة للكتاب، ولترتيب الأحداث والشخصيات (شجرات العائلة والعلاقات في الروايات أو الكتب التاريخية). ولترتيب الأحداث زمنيا إن كان الكتاب يحتوي على جانب تاريخي، وهنا يمكن أن تستخدم مخططا بسيطا يشبه محطات المترو، عند كل محطة تاريخ وحدث.

 

طريقة فاينمان

حسنا، دعنا في تلك المرحلة نوضح فكرة مهمة تشغل بال الكثيرين، من الطبيعي أن تنسى المعلومات التي قرأتها في كتاب، في الواقع فإن الهدف من القراءة ليس الحفظ، بل إدراك المعنى الذي يريد الكاتب أن ينقله إليك، الفكرة مثلا ليست أن تحفظ أسماء النجوم والمسافات بينك وبين المجرات، ولكن أنك تدرك شيئا إضافيا عن مدى اتساع هذه الحديقة الكونية البديعة مقارنة بكوكبك الصغير، وهكذا.

 

أما عن حفظ المعلومات والأسماء والتواريخ فلا تقلق، سيحدث ذلك ولكنه سيكون محصلة لقراءات متتالية في الموضوع نفسه، بحيث يبقى اسم أو اصطلاح مثل "نصف قطر شوارتزشيلد" أو "حد شاندراسيخار" أو "الوضعية المنطقية" أو "التجريبية الجديدة" شيئا طبيعيا يجري على لسانك بعد أن تراه في أكثر من مرة وموضوع ومكان أو حينما تتناقش مع أحد، دخولك لقراءات أكثر في الموضوع نفسه يجعل من التذكر أمرا بديهيا.

في النهاية، عليك أن تُدرك أن هناك فارقا بين أن تتذكر شيئا ما وأن تشرحه لأحدهم، وهو الفارق نفسه بين المعلومة والتعلم، الهدف أن تتعلم لا أن تتذكر المعلومات، وفي تلك النقطة نُرشِّح لك ما يسمى "طريقة فاينمان"، ويستخدمها الكثير من القراء حول العالم، وتعني أن تختبر فهمك وتعلُّمك لفصل ما بأن تحاول تلخيصه في صورة يمكن شرحها لنفسك أو لزميلك أو صديقك، بعد ذلك قم بالفعل بشرحها له، هنا ستظهر فجوات في شرحك ونقاط لم تتمكَّن من إيصالها جيدا، ارجع للكتاب وحاول هضم تلك النقاط وسد تلك الفجوات، ثم اشرحها له مرة أخرى، وهكذا.

 

في الواقع، فإن كاتب التقرير في بعض الأحيان يطبق هذه التقنية مباشرة عبر التدوين على منصة فيسبوك، وبالفعل هي تقنية ناجحة، ليس فقط لأنها تُعينك على التذكر أو الفهم، بل وتُحسِّن فهمك للمادة التي تقرأ فيها.

 

الجدية تجاه ما تحب

أضف إلى ذلك نقطة أخرى مهمة، وهي أن البعض بالفعل قد يبدأ بكتاب ثقيل أعلى من مستواه، مثلا قد يحاول البعض أن يبدأ في الكونيات بكتاب "الكون في قشرة جوز" لستيفن هوكينغ، الكتاب بالفعل مبسط ومُقدَّم للعامة، لكن حتى هذا الكتاب قد يكون ثقيلا على مستواك بسبب كثرة الاصطلاحات وتعقُّد بعضها، هنا لا تجد غضاضة في النزول قليلا بمستوى قراءاتك حتى مناهج المرحلة الابتدائية والإعدادية، أو الفيديوهات المبسِّطة على يوتيوب، أو ملف ويكيبيديا بسيط، إلخ.

 

الكتاب يعني معرفة، والمعرفة لها مصادر كثيرة وليست الكتب فقط، في الواقع فإن الكتب ليست إلا نقطة واحدة في شبكة كبيرة لطرق المعرفة، منها المقالات والوثائقيات والمحاضرات والمساقات، وتنويع المصادر سيُفيدك بشكل كبير، بعض المواد تكون أسهل وأفضل في الوثائقيات مثل التاريخ المبسط، يمكنك تأمُّل سلسلة "أبوكاليبس: الحرب العالمية الثانية" مثلا! بعض المواد تُفهم بشكل أفضل في المساقات والمحاضرات، الكيمياء مثلا تكون ممتعة أكثر في المحاضرات خاصة تلك التي تقدم التجارب.

القراءة الفعالة

يساعدك على تسهيل القراءة كذلك أن تتناقش مع أحدهم حول الكتاب الذي تعمل عليه حاليا، ويتحقق ذلك بأن تنضم إلى مجموعات عبر فيسبوك، أو أيٍّ من وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، تضم محبي النطاق نفسه الذي تحبه، هذا النقاشات لا تُحسِّن من فهمك فقط، بل ترفع من حماسك لإتمام الكتاب، وتشعرك بألفة أكبر مع ما تحب أن تقرأ عنه.

 

بعد كل ما سبق، يبقى تكنيك أخير مهم في القراءة هو أن تنتقد الكتاب بحرية، بالتأكيد ستعترض على نقطة أو اثنتين أو أكثر في كل كتاب تمر به، الصواب في تلك الحالة هو أن تتبع خطة بسيطة، ابدأ أولا بإرجاء الحكم على الكتاب كله وانتظر حتى تنتهي منه وتفهم كامل وجهة نظر الكاتب، دوِّن ملاحظاتك عن الاعتراضات كما أسلفنا.

 

في نهاية الكتاب، يجب أن تُفرِّق بين الرأي والمعلومة، يجب كذلك -إذا كنت مختلفا مع الكاتب- أن تبيّن سبب ذلك لنفسك، مثلا: ما المعلومات الخاطئة التي تحدث عنها؟ ما الذي ينقص تحليله؟ ما مظاهر عدم المنطقية فيما يعرضه؟ وإلا فسيكون اعتراضك بالأساس مبنيا على عاطفة لها علاقة فقط بتحيز سابق.

 

وأخيرا، دعنا نوضح أن الجدية هي الدليل على صدق الحب، لا نقصد هنا العلاقات تحديدا، ولكن كونك جديا في تعلُّم الفيزياء هو الدليل على أنك تحب الفيزياء، أما غير ذلك فهو شيء آخر لا يمكن وصفه بالحب، لأن الحب ليس مجرد شعور بالسعادة في رفقة الأشياء والأشخاص، وليس شيئا يعمل وحده بالقصور الذاتي على أساس أن تلك هي طبيعته، كما علَّمتنا نهايات الأفلام القديمة، لكن الحب -ببساطة- هو مشروع يمكن العمل عليه وتطويره دائما، كل يوم.

المصدر : الجزيرة