شعار قسم ميدان

الخوف من الفشل مرض خطير.. أستاذ من هارفارد يساعدك على تجاوزه

كلنا نخشى الفشل، تتخيل تلك اللحظة التي سينعقد فيها لسانك بينما تقدم عرضا أمام العملاء، أو تتخيل نفسك جالسا قبالة ورقة أسئلة لا تفهم منها شيئا في امتحان الكيمياء، أو ربما تود لو أن الأرض انشقت وابتلعتك حينما تتخيل أن فتاة تحبها ترفضك في لحظة اعترافك بما يجيش في صدرك، أو فقط تخشى الانتقال من شركتك إلى شركة أكبر وأفضل لأنك تتصور أنهم سيعاملونك بشكل سيئ هناك، لكن ماذا لو تطور الأمر ليعيقك عن ممارسة حياتك بشكل طبيعي؟ ماذا لو أصبح ألم الخوف من الفشل أكبر بمراحل من الفشل نفسه؟ في هذه الحالة يتدخل "آرثر سي.بروكس"، أستاذ ممارسة الإدارة في كلية هارفارد للأعمال، ليعطيك مقدمة عما يعنيه الخوف من الفشل، فتفهم ذاتك بشكل أعمق، ثم يقدم بعض النصائح المهمة المستمدة من عدة نطاقات في العلاج النفسي، مثل العلاج المعرفي السلوكي أو العلاج بالمحاكاة أو التأمل والتعقّل، وهي تقنيات عادة ما تكون فعالة، إلا أنها تحتاج للتدريب لفترة من الزمن.

 

لسنوات طويلة، طاردني الخوف من الفشل، أمضيت مرحلة البلوغ المبكرة بصفتي عازف بوق فرنسيا محترفا، أعزف في فرق موسيقى الحجرة (التي يؤديها عدد محدود من العازفين بدون مايسترو) والأوركسترات. تُعدّ الموسيقى الكلاسيكية عملا محفوفا بالمخاطر، إذ تعتمد على الدقة المطلقة، كما أن العزف على البوق الفرنسي هو عمل حسّاس في كل حفلة موسيقية، كان ذلك سببا رئيسيا في أن أعيش في حالة من الرعب والفزع، وأصبحت حياتي بائسة، وكذلك عملي.

 

لا تقتصر مشكلة الخوف من الفشل على العازفين الفرنسيين فقط، فالظهور السيئ أمام الآخرين هو أكثر الأشياء التي يواجهها الناس رعبا، وهذا يفسر -على سبيل المثال- لِمَ وجد الباحثون أن التحدث أمام الجمهور يُعدّ أكثر المخاوف التي يواجهها طلاب الجامعات، فقد أكّد بعض العلماء أن الناس يخشون التحدث أمام العامة أكثر من الموت نفسه، كما أن الخوف من الفشل لا يصيب فقط الشباب أو قليلي الخبرة، فوفقا لاستطلاع أجرته شركة الاستثمار الأميركية "نوروست فينتشر بارتنرز (Norwest Venture Partners)" عام 2018، فإن 90% من الرؤساء التنفيذيين "اعترفوا بأن الخوف من الفشل هو ما يبقيهم مستيقظين طوال الليل أكثر من أي مخاوف أخرى".

ويبدو أن هذا النوع الخاص من القلق مستمر في الازدياد، فوفقا للبنك الدولي (World Bank)، فإن النسبة المئوية للبالغين الأميركيين الذين يرون فرصا جيدة لبدء عمل تجاري لكن في اعتقادهم أن الخوف من الفشل سيمنعهم من القيام بذلك قد تزايد خلال العقدين الماضيين. وعلى الرغم من حقيقة اعتزاز الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بأنها أرض رواد الأعمال الجريئين، فإن نسبة من يخافون فيها من مواجهة الفشل تقترب من المتوسط العالمي.

 

لتفسير الزيادة المعاصرة للخوف من الفشل، هناك بعض الاحتمالات، منها دور وسائل التواصل الاجتماعي في تهديد الناس بجعل كل زلة أو خطأ عبارة عن حدث يوشك أن يقضي عليك، سواء على المستوى الاجتماعي أو المهني. وفي الوقت نفسه، قام جيل من الآباء المهووسين بالحماية المفرطة لأطفالهم من جيل الألفية والجيل Z (مواليد بين عامي 1997 و2015) بإبعاد أطفالهم عن مواجهة المخاطر والإخفاقات الصغيرة التي نحتاجها لبناء الثبات العاطفي المطلوب لتحمل الإخفاقات المحتمة، والأكبر بطبيعة الحال، عند مرحلة البلوغ.

 

يؤدي هذا النوع من الخوف بالطبع إلى إيقاف عملنا عن التطور، ومن ثم فإنه سيئ بما يكفي بالنسبة إلى مستقبلنا. يساورني الشك بشأن تأثير الخوف على مشروع بناء حياة سعيدة أكثر مما يساورني بشأن تأثيره على مشاريعنا في العمل، فالخوف من الفشل قد يؤدي إلى عواقب وخيمة تؤثر على سلامتنا النفسية لدرجة مدهشة. بالنسبة إلى البعض، يمكن أن ينتهي بهم المطاف مصابين بالقلق والاكتئاب المدمرين، وهذه الحالة تؤدي إلى مرض يعرف باسم رهاب الإخفاق (Atychiphobia)، لكن قبل بلوغ هذه المرحلة من المرض، يمكن للخوف أن يبعدنا عن مغامرات الحياة المبهجة والمشبعة لرغباتنا، والتي نحقق من خلالها ذواتنا، إذ يثبطنا عن خوض المخاطر وتجربة أشياء جديدة.

للخوف عدة مصادر، لكن ليست كلها واضحة، فقد يبدو الأمر للوهلة الأولى بالنسبة إليك كأنه خوف من بعض النتائج السيئة المعروفة، فربما تقول لنفسك على سبيل المثال: "لعلّني أخشى من تقديم عرض لرئيسي لأنني إن فشلت فلن أحصل على ترقية، ناهيك بتداعيات أخرى واضحة ستظهر على مسيرتي المهنية".

 

يتعلق الخوف من الفشل في الواقع بالنتائج المجهولة، على الأقل بالنسبة إلى أولئك الذين يجتاحهم القلق بشكل أكبر. ففي إحدى الدراسات الحديثة التي أُجريت في كلية لندن الجامعية "UCL"، ابتكر علماء النفس تجربة كان على المشاركين فيها الاختيار بين سلسلة من الرهانات بمكافآت مضمونة، وأخرى يمكن خلالها تحقيق مكاسب أو خسائر أعلى، وأظهرت النتائج أن الأشخاص الذين عانوا من القلق كانوا الأكثر عجزا عن تقدير أفضل مكافأة محتملة، وهو ما يتوافق مع الأبحاث السابقة. بمعنى أوضح، إن كنت قلقا من مواجهة الفشل، فإن الشك في قدراتك سيزعجك أكثر من العواقب الفعلية للفشل.

 

توصل الباحثون أيضا إلى أن الأشخاص الذين يخشون بشدة من الإخفاقات يتمتعون بمزيج من سمتين شخصيتين: أولهما، انخفاض توجه طاقاتهم نحو الإنجاز (أي عدم استمتاعهم كثيرا بالإنجازات وتلبية الأهداف). ثانيهما، قلق الاختبار الشديد (يعني الخوف من عدم الأداء الجيد في لحظة حاسمة، وهو حالة فسيولوجية يُعاني فيها الأشخاص من التوتر الشديد والهلع قبل الاختبارات). بعبارة أخرى، لا يكون الدافع الذي يحرك هؤلاء هو إمكانية الفوز واكتساب شيء ذي قيمة، وإنما القلق من احتمالية حدوث أخطاء، وهذه هي السمات الشخصية نفسها التي تدفع البشر لنَشْد الكمال، ولا تقتصر هذه السمات على المتفوقين فقط، بل تظهر على متدني الأداء على حد سواء.

 

نكتشف في الحقيقة أن ما يربط السعي نحو الكمال بالخوف من الفشل أنهما يسيران جنبا إلى جنب، إذ يدفعانك إلى الاعتقاد بأن النجاح لا يعني الانشغال بتحقيق شيء جيد، بل معناه التركيز على عدم ارتكاب أمر سيئ، فإذا كنت تعاني من الخوف من الفشل فستفهم جيدا ما أعنيه بالضبط، سعيك نحو تحقيق النجاح، الذي يجب أن يتراءى لك بوصفه رحلة مثيرة نحو وجهة مذهلة ورائعة -كما يقول متسلق الجبال الإنجليزي جورج مالوري- يتحول إلى مهمة شاقة ومنهِكة للغاية، مع تركيز كامل طاقتك على عدم الانزلاق من حافة المنحدر.

 

من المثير للدهشة أن الأشخاص الذين يخشون الفشل ليسوا في حاجة لطمس أو إخماد الخوف نفسه ليصبحوا بذلك أكثر سعادة، وإنما عليهم -بدلا من ذلك- اتباع طريقة لترويض الخوف من الفشل بداخلهم، هذه الطريقة هي التحلي بالشجاعة وصقلها، ولإثبات ذلك، أجرى ستانلي راتشمان، عالم النفس وأستاذ جامعي في قسم علم النفس بجامعة كولومبيا البريطانية، بحثا في الثمانينيات استمر لعقود على أشخاص يعملون في مهن خطرة، مثل المظليين (وحدات من الجنود المدربين على استخدام المظلات)، وخبراء المفرقعات.

 

أظهرت نتائج البحث أن هؤلاء الأشخاص كانوا يميلون أيضا إلى الخوف من الفشل، وقد يكون العبث في مثل هذه الحالات أو ارتكاب خطأ هو أمرا خطيرا بالفعل، لكنهم استفادوا من احتياطات الشجاعة للتصرف تحت أي ظرف، فكما يقول عالم النفس راتشمان: "إن انعدام الخوف أمر غير طبيعي، بل وخطير، لأنه يؤدي بالتبعية إلى خوض مخاطر طائشة والتحلي بقيادة سيئة، بينما على الجانب الآخر، يمكن للشجاعة أن تساعدك على تحقيق التوازن بين الحذر وإيجاد حلول، حتى لو كان الشيء الوحيد الذي تعمل على تهدئته هو صراعا نشب في مكتبك".

 

الخبر السار هو أن هذه الدوافع الثلاثة الرئيسية للخوف من الفشل، وهي النفور من الشك والمجهول، والتعلق بمظهر الكمال، والافتقار إلى الشجاعة، جميعها صفات يفضل معظمنا التخلص منها. فمواجهة الخوف من الفشل يذهب إلى أبعد من كونه مجرد تعامل مع مشكلة، وإنما هو فرصة لتنعم بالفضيلة، وذلك بتطبيقك لثلاث ممارسات:

 

  • أولا: التركيز على الحاضر

أجريت ذات مرة محادثة مع طبيب أورام حول ما يعنيه إعطاء المرضى تشخيصا مؤلما لمرحلة سرطان متأخرة، فقال إن بعض مرضاه -الذين لديهم رغبة خاصة في السيطرة بإحكام على جميع أجزاء حياتهم- يعودون على الفور إلى منازلهم ويبدؤون في البحث عن تشخيصهم على الإنترنت، وكان ينصحهم بألا يفعلوا ذلك، لأن البحث سيجعلهم يمرضون من القلق، وبدلا من ذلك عليهم أن يبدؤوا يومهم بهذا الشعار: "لا أدري ما الذي ينتظرني الأسبوع المقبل أو العام المقبل، لكنني أعلم أن لدي هدية أمتلكها الآن، وهي هذا اليوم، ولن أضيّعها".

 

أكمل طبيب الأورام حديثه بأن هذا الشعار لم يقتصر دوره فقط على مساعدة المرضى في تغيير نظرتهم للمرض، بل ساعدهم أيضا على تغيير نهجهم العام في الحياة، لذا أوصي كل شخص يعاني من الخوف من الفشل بأن يتّبع نموذج: "الامتناع عن محاولة السيطرة على كل شيء"، لأنه يمكنك امتلاك المستقبل المجهول في حالة واحدة فقط، وهي امتنانك للحاضر المعروف، واشهد بعد ذلك على سعادتك التي تتزايد وأنت مستمتع بما تمتلكه أمامك.

 

  • ثانيا: تخيل الشجاعة

تذكّر أن أحد أكثر مخاوف الفشل شيوعا هو التحدث أمام الجمهور، حتى مجرد التفكير في إلقاء خطاب أمام العامة يصيب بعض الناس بالذعر والهلع، لكن حل هذه المشكلة بسيط، وهو التعرض لهذا الخوف (الظهور أمام الناس)، وهذا لا يعني أنك بحاجة إلى إلقاء خطاب في ساحة مدينتك كل يوم، ولكن ثبت أن مجرد محاكاة بيئة الخطاب باستخدام الواقع الافتراضي يقلل من مخاوف الناس بشكل كبير (الواقع الافتراضي هو تجربة العيش في واقع غير موجود عبر تقنيات حاسوبية تسمح لك بتجربة عالم ثلاثي الأبعاد أقرب ما يكون للواقع).

 

يمكن لأي شخص استخدام هذه الفكرة، حتى دون جهاز محاكاة الواقع الافتراضي "VR simulator"، فاستخدام الخيال المركّز البسيط سيكون كافيا، وبدلا من تجنب مصدر الخوف حتى في عقلك، اقضِ وقتا كل يوم في تخيل سيناريوهات مخيفة، مع احتمالات واردة للفشل، تخيل نفسك تتصرف بشجاعة رغم الخوف الذي يستبد بك. لقد تدربت على ذلك في وقت مبكر من مسيرتي التعليمية متخيلا احتمالية لكل شيء، بداية من الركاكة والسطحية (كنسيان ملاحظاتي)، إلى العبثية والسخف (كإدراكي بعد محاضرة استمرت لمدة ساعة أن زر بنطالي كان مفكوكا طوال الوقت، وهو موقف حدث لاحقا في الحياة الواقعية)، وسرعان ما اكتشفت في الواقع أنني تحليت حينها بشجاعة أكبر أمام الفصل نتيجة لذلك.

 

  • ثالثا: دعاء التواضع

في "الكوميديا الإلهية" التي تُعد العمل الرئيسي لدانتي، وواحدة من أهم الملحمات الشعرية وأبرزها في الأدب الإيطالي، تجد نظرة خيالية حول الآخرة يصف فيها دانتي الشيطان على أنه ضحية لكبريائه، عبر حبسه من الخصر إلى الأسفل في جليد من صنعه. الخوف من الفشل ونَشْد الكمال يشبهان ذلك البحر الجليدي الذي يجمدك في مكانك بمجرد أن تتخيل كيف يفكر فيك الآخرون، أو كيف ستتراءى لك نفسك إن أخفقت في شيء ما.

 

هناك حل يتبع نفس حساسية (عاطفة) دانتي الكاثوليكية، فقد ألف الكاردينال الإسباني "رافائيل ميري ديل فال" في أوائل القرن العشرين صلاة جميلة تسمى "دعاء التواضع"، لا يطلب المرء في هذا الدعاء أن ينجو من الإذلال أو الاحتقار، ولكن أن يُمنَح نعمة التعامل مع الخوف، فتبدأ صلاة المرء بقوله: "يا إلهي، نجني من الخوف من الاحتقار، ومن التوبيخ، ومن الافتراء، نجني من أن أكون منسيّا، نجني من السخرية".

اصنع نسختك الخاصة من دعاء التواضع، سواء كانت نسخة دينية أو غير دينية، رددها كل ليلة، حتى وإن بدا لك ما تدعو به سخيفا، كأن تقول مثلا: "يارب، نجني من الخوف من أن أُفسِد (أُخفِق في) عرضي التقديمي". والفكرة أنه إذا كنت بحاجة إلى الغوث، فكل ما عليك فعله هو تحديد رغبتك في ذلك، عندها فقط سيتوقف خوفك عن كونه تهديدا أو خطرا وهميا، ليصبح -عوضا عن ذلك- خطرا ملموسا ستتمكن من قهره في هذه اللحظة.

 

إن بدت جميع الإستراتيجيات السابقة مضيعة للوقت، فثمة طريقة أخيرة ومجرَّبة لتنمية الشجاعة في مواجهة الفشل، وهي ببساطة أن تفشل، أن تسمح لنفسك بالفشل، حينها ستنجو حقا مما قد يحمله المجهول المظلم في طياته، بهذه الطريقة استطعت أن أُشفى في النهاية.

 

أخبرتكم في بداية مقالي كيف أصبحتْ مسيرتي الموسيقية بائسة بسبب خوفي من الوقوع في الأخطاء، لكن على الأقل كان فمي مشغولا بالأداة الموسيقية، ولم أكن مضطرا للتحدث علنا، الأمر الذي يصيبني بالفزع حقا. وذات يوم، اجتمع هذان الخوفان (الخوف من الفشل، والتحدث أمام الجمهور) معا في يوم مصيري في حفل موسيقي خاص في قاعة كارنيجي في نيويورك، عُينت حينها لإلقاء خطاب قصير، تتراوح مدته ما بين دقيقتين، حول المقطوعة الموسيقية التي كان على فرقتي عزفها. تقدمتُ إلى المنصة وأنا أرتعد خوفا، وإذ بي فجأة أفقد توازني، وأسقط فعليا بين الجمهور.

مرت عقود على هذا الحدث وما زلتُ قادرا على استرجاعه ورؤيته يحدث من جديد أمام عيني ببطء، أتذكر شهقة الجمهور إثر المفاجأة، وكيف قفزتُ ناهضا، بعدما تضررت بوقي بشدة، ولم تسلم ذراعي من الضرر أيضا، وكيف صرخت بشكل مثير للسخرية ولا يُصدَّق حينها: "إنني بخير يا رفاق!"

 

تمر السنوات، وأعود لألقي نظرة على هذه التجربة، فلا يسعني سوى الضحك. فعلى الرغم من هذا الجانب الفكاهي للقصة، فإن التجربة لم تقتصر فقط عليه، وإنما كانت بالنسبة لي هدية رائعة، فمنذ إحرازي للعلامة النهائية في الذل والإهانة في ذلك اليوم، بتُّ لا أهتم كثيرا إن بدوت مضحكا أو مثيرا للسخرية، أفتح ذراعي للمزيد من المخاطر، وأُظهِر شخصيتي بطرق لم أكن لأفعلها لولا ذلك. نعم، أعتقد في النهاية أن الفشل هو ما يحررنا من تكبيل الخوف الدائم لأرواحنا.

——————————————————————————————–

هذا المقال مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية