شعار قسم ميدان

أكذوبة السعرات الحرارية.. لأن تعامل أجسامنا مع الطعام أعقد مما نتصور

جميعنا يعرف تلك الفكرة التي طالما كرَّرتها أنظمة التغذية، وظلَّت متداولة منذ نُشر أول دليل غذائي معروف عام 1890، وهي ببساطة أن الالتزام بقدر معين من الغذاء مع ممارسة الكثير من الرياضة يؤديان حتما إلى فقدان الوزن. كل ما عليك إذن هو الالتزام بنظام غذائي محسوب السعرات الحرارية من أجل أن تبقى رشيقا، أما إذا لم تفقد وزنك وتصل إلى القوام المثالي فهذا يعني فقط أنك لا تمتلك الإرادة اللازمة لفعل ذلك. وهكذا مضت عقود ونحن نتداول أنظمة غذائية مختلفة، ومع ذلك لا تزال السمنة وباء منتشرا في دول العالم، وسببا لاعتلال مزمن للصحة لدى كثيرين، فهل يفتقد كل هؤلاء للإرادة فقط؟

شطيرة من الخبز الأسمر ترفع السكر

أثناء مناوبته في المستشفى، كان تيم سبيكتور، عالِم الوراثة والأستاذ في كلية كينجز في لندن، يتناول عادة وجبة الغداء ذاتها؛ شطيرة التونة والذرة المصنوعة من خبز القمح الكامل، قضى نحو عشر سنوات من عمره وهو يتبع هذا النظام، وبينما كان يعمل في مشروعه "PREDICT" الذي يقيس الاستجابة الأيضية للأطعمة المختلفة لدى الأشخاص الأصحاء، قاس تأثير وجبته الخفيفة تلك على مستوى الجلوكوز في الدم، ليُفاجأ بالنتيجة. كان هناك ارتفاع حاد في نسبة الجلوكوز والدهون في الدم عقب وجبة الغداء، بدرجة يمكن أن تتسبَّب على المدى الطويل في الإصابة بأمراض السكري والسمنة وحتى الخرف. (1)

دفع ذلك تيم سبيكتور لإجراء بحث مستفيض شمل عددا من التوائم بهدف تتبُّع مدى اختلاف أجسام البشر في قدر الطاقة التي يستخلصونها من غذاء معين، والمفاجأة أن التوائم أظهروا اختلافات في سرعة التمثيل الغذائي للوجبة نفسها، وهو ما يؤكِّد الدور القوي الذي تلعبه الميكروبات في أمعائنا في التحكُّم بصحتنا. (2)

يوضِّح ألفريدو مارتينيز، مدير برنامج التغذية الدقيقة وصحة القلب في معهد مدريد للدراسات المتقدمة، أن ليس هناك نظام غذائي واحد يناسب الجميع، إذ يتفاعل كلٌّ منا مع الطعام تفاعلا مختلفا، وبينما يتفق أغلب خبراء التغذية على ضرورة اتباع نظام غذائي محدد بالسعرات الحرارية لإنقاص الوزن، فإن معظم الناس لا يستجيبون بالطريقة نفسها لتناول المزيد من البروتين مثلا أو القليل من الدهون، كذلك فإن البعض يناسبه تناول كميات أقل من السكر والبعض الآخر يحتاج إلى ممارسة التمارين بمعدل أكبر، ويرجع ذلك كله إلى اختلاف المسارات الأيضية للطاقة في أجسامنا. (3)

أكذوبة السعرات الحرارية.. لا تُصدِّق الأرقام

تُعَدُّ السعرات الحرارية مقياسا للطاقة القابلة للاستخدام، التي يستخلصها الجسم من الطعام، لكن الملصقات التي تزخر بمعلومات دقيقة حول السعرات الحرارية للمنتجات، وتمنحك الأمان وتُشعرك أنك تملك زمام الأمور فقط بمجرد تحديد عدد السعرات الحرارية لما ستتناوله، لا تخبرك بكل شيء في الحقيقة، فحساب السعرات الحرارية غير ممكن، إذ يمكن أن يتغير بنسبة 200% عن الرقم المكتوب في الملصق بحسب عوامل عدة مثل طريقة الطهي مثلا، فضلا عن أن تلك الملصقات غالبا لا تتناول بدقة العناصر الغذائية التي نحصل عليها من الطعام.

بخلاف ذلك، يُخبرنا تيم سبيكتور في كتابه "ملعقة طعام.. لماذا يعتبر كل ما نعرفه عن الطعام خاطئا في الغالب؟" أن كتابة عدد السعرات الحرارية قد يكون سببا للذعر لمَن يعانون من اضطرابات الأكل، وهو يؤكِّد أن العلاقة الإنسانية بالطعام شيء معقد جدا لا يمكن اختزاله في عدد السعرات الحرارية. (4)

كتاب "ملعقة طعام.. لماذا يعتبر كل ما نعرفه عن الطعام خاطئا في الغالب؟"

الأمر ذاته يؤكِّده ديفيد لودفيج، أستاذ التغذية في كلية هارفارد للصحة العامة، مُشيرا إلى أن الفكرة التي طالما أخبرنا بها علماء الصحة حول عدد السعرات الحرارية، وكيف أن زيادة الوزن تحدث ببساطة حين تكون السعرات الحرارية التي تدخل الجسم أعلى من احتياجه، بينما يقل وزننا عند تناول سعرات حرارية أقل مما تحتاج إليه أجسامنا، هي ببساطة فكرة غير دقيقة، إذ ليس بوسعنا تتبُّع كمية السعرات الحرارية اليومية بدقة. إذا كان الأمر بهذه البساطة، فإن علينا اتباع نظام غذائي منخفض الدهون، فهي أكثر العناصر احتواء على السعرات الحرارية بخلاف البروتينات أو الكربوهيدرات، لكن هذا لا يحدث؛ حيث تُعَدُّ حمية البحر المتوسط وحمية باليو (وهي أنظمة منخفضة الكربوهيدرات) أكثر فعالية في فقدان الوزن من تلك الأنظمة قليلة الدسم.

ما يُفسِّر زيادة الوزن أو نقصانه هو أن السعرات الحرارية لا تؤثر بالطريقة نفسها، كما أن الجسم يستجيب بشكل مختلف للسعرات الحرارية حسب مصدرها، وهو يستخدم الطاقة التي يستخرجها من الأطعمة المختلفة بعدة طرق، ناهيك بذلك النظام المُعقَّد من العوامل الوراثية والهرمونية والمدخلات العصبية التي تتداخل مع عملية الأيض، وهو ما يعني في النهاية أن الطعام ليس مجرد مجموعة من السعرات الحرارية الثابتة.

على سبيل المثال، هناك بعض الأطعمة الغنية بالدهون، مثل المكسرات والأفوكادو، تساعد في فقدان الوزن وتقليل مخاطر الإصابة بمرض السكري وأمراض القلب رغم أنها مليئة بالسعرات الحرارية، بينما يكون لأطعمة أخرى مليئة بالكربوهيدرات المكررة مثل الخبز الأبيض والبسكويت دور في زيادة الوزن بصرف النظر عن سعراتها، نظرا لأنها ترفع مستوى الإنسولين في الدم، فيُرسل إشارات إلى جسمك بأنه يحتاج إلى تخزين الدهون، وهكذا تزيد الدهون في الجسم، بينما يساعد تجنُّب الكربوهيدرات المكررة وتناول المزيد من البروتين والدهون الصحية في ضبط تحفيز تخزين الدهون. كذلك تمنح الأطعمةُ المصنَّعة والمطهوة الجسمَ مزيدا من الطاقة أكثر مما يفعل الطعام النيء، فرغم احتوائهما على القدر نفسه من السعرات الحرارية، فإن الجسم لا يتمكَّن من استخلاص الطاقة بالكامل من الطعام غير المطهو مثلما يفعل مع الطعام نفسه بعد الطهي. (5)-(6)

التغذية الشخصية.. اعرف ما تحتاج إليه بدقة

أثبتت تجربة الأنظمة الغذائية المُوحَّدة إذن أنها لا تناسب كل الأجسام، فإلى جانب أنها تتطلَّب كثيرا من التخطيط الدقيق والإرادة القوية، يتفاعل الناس تفاعلا مختلفا مع المواد الغذائية نفسها، بحيث يمكن القول إن الوجبة التي تبدو صحية لشخص ما قد تُصيب شخصا آخر بمرض السكري أو السمنة أو أمراض القلب.

بل إن الوجبة الواحدة قد تكون مناسبة للشخص في وقت ما من اليوم فيحدث الأيض (التمثيل الغذائي) بطريقة مثالية، وغير مناسبة في وقت آخر، وهذا يعتمد على نمط الأكل والنوم والتمارين، إلى جانب ما هو أكثر أهمية، وهو دور الميكروبيوم؛ تلك المستعمرة التي تتضمَّن عشرات التريليونات من الميكروبات التي تعيش في أمعاء الإنسان، وتُحوِّل الطعام إلى مواد مختلفة وفق احتياج الجسم. (7)

هذا بالضبط ما يعتمد عليه مجال التغذية الشخصية، وهو تخصُّص حديث نسبيا يعتمد على تطوير إرشادات غذائية لكل فرد تُراعي اختلاف العوامل الجينية والبيئية ونمط حياته، معتمدا على التنبؤ بكيفية استجابة كل فرد للغذاء وفق هذه العوامل. في هذا النظام، تُطوَّر خوارزميات يمكنها التنبؤ بدقة، بعد جمع تأثيرات الجينات والعمر والنظام الغذائي والجراثيم ومستوى النشاط البدني إلى جانب عوامل بيئية مثل درجة الحرارة ومستوى التلوث. (8)

في الواقع، فإن مجال التغذية الشخصية، التي تتكيَّف مع خصائص كل فرد، كان خبئ المختبرات العلمية حول العالم منذ ما يقرب من عقد من الزمان، ويرى الخبراء بهذا النطاق أنه سيشهد ثورة كبرى قريبا، فعلى مدار العقد الماضي، شهدنا ارتفاعا واضحا في أعداد الشركات التي تُقدِّم نصائح غذائية مخصَّصة للأفراد من خلال الخوارزميات التي تحسب سوائل الجسم ومستويات الجلوكوز والدهون والفيتامينات في الدم والميكروبيوم من خلال التحليل الجيني، كما ازدادت التطبيقات التي تساعد الناس في اتخاذ خيارات طعام جيدة في المطاعم والأسواق. (9)

هل حقا نحتاج جميعا إلى التغذية الشخصية؟

يبدو أن التغذية الشخصية هي غذاء المستقبل، لكنها تتطلَّب كثيرا من البيانات، ولا يزال هناك ثغرات كثيرة في المعرفة العلمية في هذا المجال، فضلا عما تتطلَّبه من ميزانيات كبيرة، فتخصيص النظام الغذائي يتطلَّب إجراء سلسلة من الاختبارات الطبية المُعقَّدة، فضلا عن جهود إقناع الأفراد بهذا التوجُّه، وهي جهود بدأت بالفعل في الدول الأوروبية.

يُقدِّم معهد مدريد للدراسات المتقدمة في الغذاء بإسبانيا تصنيفا للسكان وفق عاداتهم الغذائية، ويمكنه من خلال عشرات الأسئلة حول التاريخ الطبي وتاريخ أمراض الأسرة أن يُحدِّد العمر الأيضي للفرد بحيث يوفر له معلومات تُمكِّنه من إضفاء الطابع الفردي على النظام الغذائي له، وتشهد إنجلترا اليوم أعلى معدل في هذا العلم، إذ يستخدم نحو 70% من البالغين خدمة التغذية الشخصية التي تتوفر مجانا، لكن التكلفة ليست كل شيء. (10)

يقول خوسيه ماريا أوردوفاس، مدير التغذية وعلم الجينوم في مركز أبحاث التغذية البشرية التابع لوزارة الزراعة الأميركية، إن التغذية الشخصية أمر لا يحتاج إليه الجميع في الحقيقة، إذ يستفيد أغلب الناس من النظم الغذائية الشائعة مثل حمية البحر الأبيض المتوسط​​، ولهذا السبب سيكون من الأنفع تركيز الجهود على أولئك الذين لا تناسبهم مثل تلك الأنظمة، والتوصُّل إلى توصيات غذائية تناسبهم. (11)

في مقال نشرته مجلة "نيوتريشتن بولوتين" (Nutrition Bulletin)، قال خابيير جونثاليث، الباحث بقسم الصحة بجامعة باث، إن هناك أقلية محددة فقط من الأفراد يحتاجون بالفعل إلى نهج أكثر تخصيصا للتغذية وفق عدة معايير، منها ملامح الجينوم أو الميكروبيوم، وما تخبرنا به نتائج هذه المعايير من احتمالات الإصابة بالأمراض، بحيث يمكن تجنُّبها من خلال التغذية، والحصول على نتيجة صحية أفضل، وسوى ذلك فليس هناك ما يُبرِّر تعميم التغذية الشخصية لأغلب الناس. (12)

ربما تكون الوراثة إذن هي ما يُفسِّر الفوارق الشاسعة في استجابات البشر للأنظمة الغذائية، لكننا في الغالب لا نزال نجهل بعض الأسباب. لكن كما يُبشِّرنا خوسيه ماريا أوردوفاس، فإن إنشاء أنواع من الأنظمة الغذائية لمجموعات من الأفراد قد يكون أمرا أكثر قابلية للتطبيق، وهو يُشبِّه الأمر بـ "مقاسات الملابس"، وبذلك سوف نتمكَّن في النهاية من وضع إرشادات غذائية مناسبة لكل إنسان على سطح هذا الكوكب. (13)

__________________________________________________

المصادر:

  1. Lo que a ti te sienta bien, a mí me hace engordar
  2. Spoon-Fed by Tim Spector review – food myths buste
  3. Lo que a ti te sienta bien, a mí me hace engordar
  4. Spoon-Fed by Tim Spector review – food myths busted
  5. You Asked: Are All Calories Created Equal?
  6. Why most food labels are wrong about calories
  7. What if everyone’s nutrition was personalised?
  8. Personalised nutrition: What makes you so special?
  9. What if everyone’s nutrition was personalised?
  10. Lo que a ti te sienta bien, a mí me hace engordar
  11. Ordovás: La nutrición de precisión es el futuro, pero hace falta más conocimiento
  12. Personalised nutrition: What makes you so special?
  13. Lo que a ti te sienta bien, a mí me hace engordar
المصدر : الجزيرة