شعار قسم ميدان

الأرباح قبل الصحة.. هكذا تتحكم الشركات في أنظمتنا الغذائية لزيادة عوائدها

تتغير معتقداتنا حول الطعام باستمرار -خاصة في العقود الأخيرة- وتتغير معها أنظمتنا الغذائية؛ من الأطعمة الخالية من الدسم إلى أنظمة الكيتو القائمة على الدهون الصحية، ومن الأنظمة قليلة السعرات إلى الهوس بالبروتينات، وقد عكست أرفف المحلات دائما هذا التغير، لكن أمرا واحدا ظل ثابتا دون تغيير، ألا وهو الأرباح الضخمة التي تحققها شركات الأغذية، فقد كانت تعرف دائما كيف تُفيد من معتقداتنا وتُطوِّعها لتناسب تحقيق الأرباح.

حين انتابنا القلق بشأن الدهون، كانت الشركات جاهزة بمجموعة كبيرة من المنتجات قليلة الدسم حققت لها أرباحا كبيرة، وحين بدأنا في القلق بشأن السكر، كانت أرفف المحلات مليئة بوجبات خفيفة منخفضة السكر، وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل تصنع معتقداتِنا الغذائية أم أنها تستفيد منها فقط لمضاعفة مبيعاتها؟ وكيف تحققت صناعات الأغذية أرباحها؟(1)

السكر البريء

في خمسينيات القرن الماضي، ومع انتشار أمراض القلب التاجية واتجاه الأبحاث العلمية للبحث في ارتباط هذه الأمراض باستهلاك السكر والدهون في الوجبات السريعة، رعت "مؤسسة أبحاث السكر (Sugar Research Foundation)" مشروعا بحثيا حول أسباب أمراض القلب التاجية في عام 1965.

نُشرت نتائج هذا البحث في مجلة "نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين (New England Journal of Medicine)"، وخصّ الدهون والكوليسترول باعتبارهما المسبب الرئيس لهذه الأمراض، لكنه في المقابل قلل من أهمية الأدلة التي تربط بين السكر وهذه الأمراض، ولم يُكشَف عن تمويل ودور صندوق مؤسسة أبحاث السكر في التأثير على النتائج.

رعت صناعة السكر أيضا برنامجا بحثيا في السبعينيات قلل من مخاطر السكروز، وألقى بظلال الشك على الدهون باعتبارها الجاني في أمراض الشرايين التاجية، هكذا صارت الدهون هي المشكلة الوحيدة، وغزت الأسواق المنتجات قليلة الدسم باعتبارها حل المشكلة، لتواصل الشركات تحقيق أرباحها.(2)

هوس البروتين

باكتشاف أهمية البروتين للصحة في الآونة الأخيرة، وزيادة الإقبال عليه باعتباره الغذاء الآمن صاحب الحد الأدنى من الأضرار، جنبا إلى جنب مع تفشي الهوس بالغذاء النباتي، بدأت الشركات الكبرى تتوسع في استخدام التكنولوجيا المتقدمة لإنتاج البروتينات النباتية، فاستحوذت شركة "دانون" على شركة "WhiteWave" لصناعة حليب الصويا الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة، وبحثت شركة "Unilever" مع جامعة "فاخينينجن" بهولندا إنتاج شرائح نباتية تشبه نسيج اللحوم باستخدام تكاثر الخلايا.

كذلك قامت شركة "Impossible Foods" في كاليفورنيا بصنع هامبرغر من النباتات ليكون مشابها في المذاق والقيمة الغذائية لذلك المصنوع من اللحوم، والمتوقع أن يقارب إنتاجه هذا العام نصف مليون كيلوجرام شهريا. وفي المجمل، يُتوقَّع أن تبلغ قيمة سوق بدائل اللحوم 4.9 مليار يورو بحلول العام القادم.(3)

كما كشفت أبحاث السوق في كندا أن مبيعات الزبادي اليوناني تضاعفت خلال العقد الماضي فقط، كما ارتفعت مبيعات زبدة الفول السوداني بنسبة 65% بين عامي 2013 و2018، كما شهدت مبيعات مكملات البروتين زيادة تقدر بأربعة أضعاف خلال الفترة نفسها.

في هذا السياق، وجدت دراسة بعنوان "حمى البروتين"، أجرتها شركة "Mintel" لأبحاث السوق، أن ربع سكان أميركا الشمالية على استعداد لدفع المزيد من المال مقابل الأطعمة الغنية بالبروتين، لقد وصل الأمر بإحدى الشركات في الولايات المتحدة لإنتاج فودكا تحتوي على البروتين، واليوم صار بالإمكان شراء ألواح الطاقة الغنية بالبروتين بعد أن كانت سابقا طعاما خاصا بمتسلقي الجبال ليكون بديلا عن حمل الطعام.(4)

هل تصنع الشركات معتقداتنا؟

كتاب: ملعقة طعام.. لماذا يعتبر كل ما نعرفه عن الطعام خاطئا في الغالب؟ لـ "تيم سبيكتور"

يقودنا ذلك إلى السؤال الأهم: هل تتحكم الشركات حقا بأنظمتنا الغذائية من أجل تعظيم أرباحها؟ للإجابة، يخبرنا "تيم سبيكتور" في كتابه "ملعقة طعام.. لماذا يعتبر كل ما نعرفه عن الطعام خاطئا في الغالب؟" أن شركات الأغذية متعددة الجنسيات أثرت في خبراء التغذية من خلال الهدايا ورعاية الأبحاث، إلى جانب أنها مولت عددا ضخما من أبحاث التغذية؛ ما أثر في مصداقية المعلومات التي نتلقاها.(5)

يتأكد الأمر ذاته في دراسة أجرتها الدكتورة "كاثرين كوليرتون"، خبيرة التغذية في كلية الصحة العامة في جامعة كوينزلاند الأسترالية، أكدت أن الشركات العاملة في صناعة المواد الغذائية تعمل على التأثير في سياسة الغذاء والصحة العامة بما يحقق مصالحها، فتتولى تمويل مجالات معينة من البحث، أحيانا بهدف صرف الانتباه بعيدا عن المنتجات المرتبطة بنتائج صحية سيئة، وقالت إن بعض الباحثين لم يدركوا بعدُ كيف أنهم عرضة لتضارب المصالح أو خطر التحيز اللاواعي الذي يؤثر سلبا على عملهم ويضر بسمعتهم.(7)

حسنا، تؤدي رعاية شركات الأغذية للأبحاث العلمية المتعلقة بالغذاء إلى التحيز، وتثير قلقا مهنيا وإعلاميا، ومع ذلك لا يوجد إجماع دولي حول كيفية منع تضارب المصالح بين الباحثين أو إدارته، وبين الشركات والمؤسسات التي تمول أبحاث التغذية، خاصة في ظل الدعم الحكومي الضعيف لهذه الأبحاث.(6)

أن تبقى معلوماتنا غير مؤكدة.. هذا هو الهدف

وبخلاف تمويل الأبحاث التي تشكك في الحقائق العلمية حول الأطعمة الضارة، تروج شركات الأغذية والمشروبات وغيرها لقناعة مفادها أن كل شخص في النهاية مسؤول وحده عن قراراته الاستهلاكية ما دام أنه قُدمت له المعلومات الكافية. تقدم صناعة التبغ مثالا كلاسيكيا لفلسفة المسؤولية الشخصية هذه، فكل شخص حر في اتخاذ قرار التدخين من عدمه ما دام أنه وعى الأضرار، لكن هذه الفلسفة تتجاهل أن القرار "الفردي" السيئ يكلف الجميع في النهاية، الوالدين والزوجة والأولاد ربما، فضلا عن المجتمع الذي يدفع ثمن تقديم الرعاية للأيتام والأرامل.

لا تقف الأمور عند هذا الحد، حيث يستثمر أباطرة الصناعة نفوذهم وأموالهم لخلق حالة لا يصل فيها المستهلكون إلا إلى معلومات غير كاملة وغير دقيقة. في فيديو نشره الطبيب الأميركي "مايكل هيرشيل جريجر"، يظهر لنا كيف نجحت شركات التبغ لعقود من الزمن في تقويض الأدلة العلمية على مخاطر التدخين، بحيث قللت المخاوف حول الصحة العامة في مقابل تسويق منتجاتها وبيعها، كما يتضح كيف بقيت الإستراتيجية المعتمدة لدوائر صناعة التبغ هي تقويض قدرة المدخنين على فهم الأضرار التي يسببها التدخين بوضوح. وفي النهاية يتساءل جريجر: هل ينطبق الأمر على صناعات الأغذية؟

في الحقيقة، نحن محاطون بكم هائل من المعلومات، لكننا لا نمتلك الأدوات اللازمة لتمييز الصحيح منها من الخاطئ، والواقعي من المبالغ فيه. نحن نشتري عبوات الأغذية دون أن نعرف تماما محتواها الغذائي، حتى حين نحاول ذلك، فقد أنفقت صناعة المواد الغذائية مليار دولار للتأكد من أن "نظام إشارات المرور" سهل الفهم الذي يميز الأغذية المفيدة من الضارة، لن يرى النور أبدا.(8)

يشير "تيم سبيكتور"، في كتابه السابق الإشارة إليه، إلى أن مصنعي المواد الغذائية كانوا يميلون دائما لوضع الملصقات الخاصة بمكونات المنتجات بشكلها الحالي القائم على النسب الغذائية العامة، بحيث تمنحهم مرونة كبيرة وتشتت الانتباه عن الارتفاع المطرد للأطعمة فائقة المعالجة، وإبقاء معلوماتنا قليلة حول ما نتناوله.(9)

هذا ما أكده اختبار أُجري على ما يقرب من 200 معلم في برنامج "Head Start" المسؤول عن توفير التثقيف الغذائي لأكثر من مليون طفل في الولايات المتحدة، وقد أجاب فيه 4 فقط من أصل 181 بشكل صحيح على 4 من 5 أسئلة تتعلق بالمعرفة الغذائية، في حين أن معظمهم لم يتمكنوا من الإجابة عن سؤال حول أكثر المغذيات التي تحتوي على سعرات حرارية، واتفق 54٪ منهم على صعوبة معرفة المعلومات التي يمكن تصديقها حول التغذية.(10)

يقودنا هذا إلى ورقة بحثية نشرتها مجلة "سيكولوجي آند ماركتينج (Psychology & Marketing)" أعدها باحثون من جامعة كوفنتري البريطانية حول تأثير ارتباك المستهلك على المعرفة الخاصة بالتغذية والسلوك الغذائي، حيث كشفت الورقة أن عدم قدرة المستهلكين على التمييز بين المصادر الموثوقة وغير الموثوقة لمعلومات التغذية يصيبهم بالإحباط والتخبط بين المعلومات المتناقضة في كثير من الأحيان، ورغم حرصهم على تناول الطعام الصحي فإن التناقض وعدم الوثوق في المعلومة يدفع بهم للاعتماد على إعلانات الطعام والمصادر التجارية الأخرى للحصول على معلومات واضحة.(11)

ارتباكنا أمر طبيعي

كتاب: سياسة الغذاء: كيف تؤثر صناعة الغذاء على التغذية والصحة. لـ "ماريون نستله".

تقول "ماريون نستله"، الباحثة بقسم التغذية ودراسات الغذاء والصحة العامة بجامعة نيويورك، في كتابها "سياسة الغذاء: كيف تؤثر صناعة الغذاء على التغذية والصحة"؛ إن المنافسة على جذب انتباهنا والحصول على رضا المستهلك لتحقيق الأرباح تؤثر في صحتنا، فمع وفرة الطعام في الولايات المتحدة تبذل صناعات الأغذية جهدها لإقناع الناس بتناول المزيد من الطعام بشكل يزيد عن مقدار السعرات الحرارية التي يحتاج إلى الفرد الواحد بصرف النظر عما يُحدثه ذلك من تأثير سلبي في صحته ورفاهيته.

تشير ماريون إلى تحقيق شركات الأغذية أكثر من 900 مليار دولار في المبيعات في عام 2000، وكيف يدفعها ذلك لممارسة الضغط على المسؤولين لتوسيع المبيعات فتقوم بالتسويق للأطفال، وهي تؤكد أنه عندما يتعلق الأمر بالإنتاج والاستهلاك الضخم للغذاء فإن القرارات الإستراتيجية تكون مدفوعة بالمصالح الاقتصادية، وليس بما يوصي به العلم، لذلك فلا عجب من أن يبقى أغلبنا "مرتبكا تماما" بشأن ما نأكله للبقاء بصحة جيدة.(12)

_________________________________________

المصادر:

  1. Spoon-Fed by Tim Spector review – food myths busted
  2. Sugar Industry and Coronary Heart Disease Research
  3. El gran negocio alimentario de las proteínas
  4. The dangers of our protein diet obsession
  5. Spoon-Fed: Why almost everything we’ve been told about food is wrong
  6. Building consensus on interactions between population health researchers and the food industry: Two-stage, online, international Delphi study and stakeholder survey
  7. Can researchers engage safely with the food industry?
  8. The Food Industry Wants the Public Confused About Nutrition
  9. Spoon-Fed: Why almost everything we’ve been told about food is wrong
  10. The Food Industry Wants the Public Confused About Nutrition
  11. The Impact of Consumer Confusion on Nutrition Literacy and Subsequent Dietary Behavior
  12. Food Politics: How the Food Industry Influences Nutrition and Health: 3
المصدر : الجزيرة