شعار قسم ميدان

جنان دمشق الخفية.. كيف مثل البيت الدمشقي المخيال الإسلامي في فن العمارة؟

ميدان - البيت الدمشقي

"هل تعرفون ما معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة"

(نزار قباني)

    

فتحت دراما البيئة السورية أذهان المشاهدين على عالم بيوت الأعيان الدمشقية العريقة، تماما كما يتكشف العالم السحري أمام أليس في حفرة الأرنب. يسير أبو عصام في ممر ضيق يدلف منه إلى فناء فسيح، تكاد رائحة النارنج والريحان وسائر النباتات العطرية تفوح من المشهد. تلتهب أحداث المسلسل وتصل الحبكة إلى ذروتها مرارا ثم تنفض ويظل البيت الدمشقي مركزا، بل عالما يكاد يكون أهم شخوص المسلسل.

   

بيت أبو عصام في الحقيقة هو بيت دمشقي أثري يُدعى "بيت نظام" نسبة إلى آخر عائلة سكنته، وقد تحول إلى مزار أثري يتبع محافظة دمشق وتصور فيه شركات الإنتاج أعمالها الدرامية، فبخلاف مسلسل "باب الحارة"، كان "بيت نظام" دارا للزعيم سلطان أبو الحسن في مسلسل "أهل الراية"، إضافة إلى ظهوره في عدد كبير من المسلسلات. (1)

   

على غرار "بيت نظام"، تمتلئ دمشق بهذه الدور القديمة التي أضحت في معظمها الآن متاحف أثرية أو مطاعم أو فنادق أو أماكن لتصوير الأعمال التلفزيونية والسينمائية. فهناك "قصر العظم" أشهر هذه الدور ويكاد يكون أثراها وأعظمها فنا وجمالا، والذي حوّلته الدولة السورية بعد ترميمه إلى مزار سياحي، وكان أيضا موقعا لتصوير عدد يكاد لا يحصى من الأعمال التلفزيونية.

   

  

وقد وصف المؤرخ البديري الحلاق عملية بناء القصر قائلا: "في تلك الأيام أخذ أسعد باشا دار معاوية وأخذ ما حولها من الخانات والدور والدكاكين وهدمها وشرع في عمارة داره السرايا المشهورة التي هي قبلي الجامع الأموي، وجدّ واجتهد في عمارتها ليلا ونهارا، وقطع لها من جملة الخشب ألف خشبة، وذلك عدا الذي أرسله له أكابر البلد والأعيان من الأخشاب وغيرها، واشتغل بها غالب معلمي البلد ونجاريها، وكذلك الدهانون، بل قَلّ أن يوجد معلم متقن أو نجار أو دهان كذلك إلا والجميع مشتغلون بها، وجلب لها البلاط من غالب بيوت المدينة. (2)

   

كانت هذه البيوت في العصور السابقة مفخرة أعيان دمشق وكبار عائلاتها، فكانوا يفنون أعمارهم وثرواتهم في بنائها وزخرفتها والعناية بها. وكانت مسرحا لملاحمهم ونضالاتهم الوطنية وكتابا لتاريخهم العميق الممتد، وكأن كل حجر ونقش يحمل في ثناياه واقعة تاريخية أو قولا مأثورا أو تبدلا لسلطة أو سقوط دولة ونهوض أخرى.

  

جولة في بيت دمشقي

أنت الآن تاجر من أعيان دمشق، عدت لتوّك من دار الوالي إلى دارك. تقف برهة أمام الباب المزخرف الكبير، تتأمل نقوشه وزخارفه، ثم تلج المنزل من خوخة الباب، تسير في دهليز ضيق متعرج، يفصلك تماما عن عالم الخارج ولم ينفتح أمامك عالم المنزل الداخلي بعد، وما إن تلج إلى الفناء فإن أول ما يصادفك هو نسيم الهواء البارد المحمل برائحة الليمون والريحان.

   

يخلو المكان من الضجيج إلا خرير الماء في النافورة المنتصبة في منتصف الباحة. أنت هنا في عالمك الخاص، قد خلعت الوالي والسوق والقافلة وغزوات الصليبيين عند المدخل وارتديت سلامك النفسي. يتناول خادمك عمامتك ويسير أمامك إلى الإيوان، وهو غرفة مرتفعة السقف بعلو طابقين، يرتفع مستواها عن مستوى الباحة بدرجة تكون في الناحية الجنوبية من المنزل، مفروشة أرضها بالرخام والأبلق.

    

  

هناك قبالة المحراب المزركش بالموازيك والمقرنصات والمنقوش عليه بخط كوفي جميل آية قرآنية، تجد نديمك جالسا ينتظرك وقد سبقك بدقائق معدودات فأدخله الخادم إلى الإيوان. على الجانب الشرقي من الإيوان تقبع المشكاة المزينة وقبالتها تجلسان على أريكة خشبية مزخرفة بالصدف ومحفور عليها أشكال هندسية متكررة. تجلسان عليها تتوسدان زرابي مفروشة بفرش فارسي، تتسامران حتى ينبئك الخادم بأن طعام العشاء قد جهز في القاعة. القاعدة مقابلة للإيوان وهي موقع جل نشاطات الدار من استقبال للضيوف وإقامة المناسبات وجلسات السمر الطويلة، بها مختلف أنواع الأثاث من الفرش والوسائد والمقاعد.

    

ينفتح على فناء المنزل كذلك المطبخ وبه الكانون ومدخل يقود إلى غرفة المؤن، وبقربه يكون الحمام، والذي لم يكن سائدا في المنازل بسبب انتشار حمام السوق. بينهما يقبع الدرج المؤدي إلى الطابق الأول، مستقر أفراد الأسرة وغرف نومهم. ينتهي الدرج إلى رواق تطل عليه الغرف ويطل بدوره على الفناء المركزي. يتشكّل هذا الرواق من مربع ناقص ضلع، فالجانب الجنوبي محجوز للإيوان الذي يرتفع لطابقين.

   

لا يخلو ركن أو جدار أو مرفق من مرافق المنزل من زخرف ونقش وحفر، حتى الأساس لا يكاد يخلو من هذه الزخرفة، كل موطئ للعين لا تلقى فيه إلا جمالا، وإن أغمضت عينيك تمتعت أذناك وأنفك بخرير الماء وروائح أشجار الفناء العطرية. أنت هنا في رحاب البيت الدمشقي آمن من حر الصيف وبرد الشتاء، محفوظ الخصوصية مرتاح البال، أنت هنا في نعيمك الأرضي.

  

من نسيج البيئة والثقافة والتاريخ

عند النظر في التصميم المعماري للدور الدمشقية لا تغيب عنا تأثيرات المناخ والبيئة والموقع الجغرافي، فدمشق تقع على طرف بادية الشام وتشهد طقسا شديد الحرارة في الصيف يربو على الـ 40 درجة مئوية نهارا وتنخفض درجات الحرارة حتى البرودة الشديدة ليلا، لذا شُيّدت هذه الدور متلاصقة في حارات ضيقة متزاحمة لتقليل الأسطح المعرضة للشمس وزيادة مساحة الظل. ساعد تباين الضغط والحرارة بين الخارج والأفنية الداخلية في توليد تيارات هوائية تقيهم حر الصيف وتحمل روائح أشجارهم العطرية إلى كل أرجاء المنزل وحجراته، وبُنيت الأسقف عالية مرتفعة من مواد عازلة للحرارة كطوب اللبن والخشب للحفاظ على الهواء البارد أكبر فترة ممكنة في النهار. للتعمق أكثر في جذور ونشأة البيت الدمشقي، أجرى "ميدان" حوارا مع "هلا قصقص" الأستاذة المساعدة بكلية الفنون الجميلة بدمشق والباحثة المتخصصة في مدينة دمشق القديمة.

     

  

ميدان: كيف حدثت الطفرة الثقافية أو الحضارية التي أدّت إلى ظهور الدار الدمشقية؟

هلا قصقص: استمد البيت الدمشقي تصميمه من نموذجين أساسيين: الأول فكري مستنبط من المفاهيم المنعكسة من الثقافة العربية الإسلامية والنصوص الدينية، والثاني تقني استمد تصميم الفراغات الداخلية لحديقة الفناء من فكرة الحديقة الرباعية الفارسية والتي تُسمى بنظام (Chahar bagh)، وهي عبارة عن مساحة مربعة الشكل تقريبا تحاط بأسوار من جوانبها الأربعة وتفتح أبوابها في منتصف أضلاعها على محورين متعامدين، يمر بهذين المحورين قنوات الري المتعامدة والتي تلتقي في مركز المربع عند عنصر المياه الرئيسي، ويتبع تصميم الحديقة وأبعادها وتفاصيلها تسلسلا هندسيا مدروسا، وهذا تماما ما نجده في حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي والتي تحوي جميع العناصر التي تدعونا بأن نطلق عليها اسم حديقة.

 

وبذلك نجد أن تصميم البيت الدمشقي كان معتمدا على فكرة الحدائق الرباعية المأخوذة من نموذج بدائي وُجد في بلاد ما بين النهرين، بالاستفادة القصوى من كمية قليلة من الماء، ومن ثم البناء حول فناءات مغلقة، توضع البركة في مركزها، وبالتالي خُلِق فراغ داخلي يُمثّل الفصل بين الفراغ العام والخاص، هذا الفصل يُشكّل جزءا من الحياة الاجتماعية عند المسلمين، حيث تنفتح المنازل نحو الداخل (القلب) بدلا من الخارج (العالم)، فمُثِّلَت الحدائق الداخلية بالقلب أي (الباطن) والتي تعكس الجانب التأملي الروحي للطبيعة البشرية، على عكس المنازل الحديثة التي تحوي حدائق خارجية (الظاهر) والتي تُمثّل الموقف الدنيوي. وتأكيدا لهذا المفهوم فقد حرص مصمم البيت الدمشقي على أن توجد الحدائق داخل أفنية المنازل في منأى عن أعين المتطفلين والغرباء، فهي داخل البناء ولا تقع أمامه للتفاخر بمنظرها بل للحاجة والمنفعة، بحيث أصبح مصطلح "المبنى ذو الفناء الداخلي" يُفهم بمعنى "المبنى ذو الحديقة الداخلية" في العمارة الإسلامية.

 

ميدان: هل هناك قيم أو مبادئ معينة يقوم عليها هذا النمط المعماري؟ وهل تنعكس هذه القيم في عناصر معينة ثابتة في البناء والديكور الداخلي؟

هلا قصقص: وفي البيوت الدمشقية كان لحديقة الفناء دورها في تلطيف جو البيت، وفي تأكيد خصوصية العائلة المسلمة، حيث تطل فتحات الغرف عليه كمحور جذب رئيسي للمسكن، فكان من الضروري أن يتم ترتيب هذه الحديقة لتأدية وظيفتها، فاختيرت لها مواد الأرضيات الجميلة من الحجر والرخام، وصُمّمت نافورات المياه فيه من الرخام والفسيفساء بأشكال هندسية جميلة، كما جعل الماء يتدفق فيه على شكل سلسبيل في بعض الأحيان، مما كان له الأثر الكبير في تخفيض درجات الحرارة بداخله، إن الاهتمام بعنصر النبات في وسط حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي جعلت فناء المنزل مكان الانطلاق نحو السعة والخضرة في حرم آمن بعيدا عن عيون الآخرين. وهكذا وجدت مدينة دمشق في منازلها البديل عن الشوارع الواسعة والميادين العامة والساحات الخضراء والفساقي العامة التي تزينها فيما توفر من أفنية المنازل.

    undefined

  

لقد جاء تصميم فناء البيت الدمشقي متوافقا مع المتطلبات الاجتماعية والدينية، حيث جاء ملائما لاحتياجات الحياة الاجتماعية ومعتقدات الأسرة الدمشقية، وأفكارها وعاداتها وتقاليدها، ووفر الفناء الداخلي للأسرة بشكل عام، وللمرأة بشكل خاص، حديقة داخلية تمتلك كل مقومات الحدائق الخارجية من عناصر وغيرها، فكان استخدامه وظيفيا وجماليا ليتناسب مع حياة الأسرة المسلمة التي تقضي معظم أوقاتها داخله، وخصوصا النساء. وفي إطار مبدأ "لاضرر ولا ضرار" الذي ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي حكم إلى حد بعيد تخطيط البيت السكني الإسلامي، أتى واضحا في نشاط الحياة الاجتماعية والدينية، وقد تعرضت الأحكام الفقهية لتحديد العلاقة بين هذه المباني، لتمنع كشف الحرمات وتحقيق الخصوصية لساكنيها، بما يحفظ الحرمات والعرض، فأخذ هذا الطابع بمرور الزمن سلوكا عاما حرص عليه السكان حرصا شديدا.

  

لقد طُرحت مسألة ارتباط العمران بالقيم في العمارة الإسلامية بشكل أو بآخر، وعلى هذا فإن العمران الإسلامي هو الإفراز المادي على الأرض لمجموعة القيم المتدرجة التي جاء بها الإسلام والتي تبنّتها المجتمعات المسلمة عقيدة وسلوكا باختلاف المكان والزمان اللذين وُجدت فيهما، وانعكست هذه القيم على تشكيل حديقة الفناء الداخلي للبيت الدمشقي بشكل كبير، والتي تُعد صورة مصغرة جميلة للطبيعة، توفر للساكن السكينة والراحة النفسية، قدمها أجدادنا من العرب القدماء الموغلون في الحضارة جوابا فنيا على هذا الواقع المناخي من خلال هذا الفناء، إضافة إلى دوره في اعتباره مركزا للنشاط الاجتماعي للعائلة واستقبال الضيوف وغيره، ويمكن تصنيف القيم التي جاء بها الإسلام والتي أثرت في حديقة الفناء الداخلي إلى ثلاثة أقسام رئيسية، وهي: القيم الإلهية، والقيم الإنسانية، والقيم البيئية. وهذه الشروط الأساسية التي أكدها ابن خلدون في مقدمته واعتبرها الثوابت في إنشاء المسكن، وهي: المناخ، والعقيدة، والعادات، وهذه الشروط حققت للبيت الدمشقي ثلاثة أشياء أساسية هي الراحة، والأمن، والجمال:

 

الراحة: تشمل الراحة الجسدية، كمطلب عضوي لا بد منه بعد تعب اليوم الشاق، والراحة النفسية كمطلب ازداد بعده أثر التقدم المدني عبر التاريخ.

الأمن: ويشمل حماية الإنسان من الاعتداء عليه، أو من أخطار الطبيعة والمناخ من برد وحر، وأخطار الحياة العصرية من التلوث والأوبئة.

الجمال: وهو الهدف المعماري القديم الذي أوجده الإنسان منذ القدم، واستطاع أن يضع أسسا وقواعد جمالية اعتمدت على قواعد وأيديولوجيات الشعوب.

    undefined

  

ميدان: في البيت الدمشقي نرى تكرار عناصر مثل الفناء الداخلي المليء بالأشجار العطرية والأسطح المائية وكذلك الزخرفة الدقيقة والجميلة، بدأت هذه العناصر بالاختفاء في الأبنية الحديثة والمعاصرة، فما السبب في ذلك؟ وهل هناك إمكانية لاستعادتها أم أنها لم تعد صالحة لقيم العصر الحديث وثقافته؟

هلا قصقص: جاء الفناء الداخلي ردا على تحديات المناخ، بحيث أدخل المصمم مناخا مصغرا إلى البيت، وتطلّب هذا الإدخال معالجة هندسية زراعية خاصة، لذلك فقد سيطر المصمم على هذا الفناء بذكاء ومهارة، وفاعله مع صميم حياته، فتكامل داخل المنزل مع الفناء وتفاعلا ليعطيا وحدة عضوية، انصهر فيها الإنسان بحميمية وانسجام، كما كان يعكس هذا الفناء معالجات معمارية ذات مزايا عدة واستجابة صريحة للظروف المناخية في مدينة دمشق.

   

للأسف كل تلك العناصر تلاشت كليا مع ظهور الأنماط المعمارية السكنية الجديدة التي بات وجودها ضرورة حتمية ترافق مع الازدياد الكبير في سكان المدينة والهجرات الكبيرة التي حصلت في أواخر القرن الماضي من الريف والمدن الأخرى إلى دمشق. يؤسفني ويؤلمني أن أقول ذلك، ولكن لا أعتقد أن هناك أي إمكانية لاستعادة ذلك الإرث الحضاري الغني لا من قريب ولا من بعيد.

  

يُروى أن أول بيت دمشقي من هذا الطراز ابتناه معاوية بن أبي سفيان في مهد الدولة الأموية حين صارت دمشق عاصمة الحضارة الإسلامية الوليدة. وهو بذلك يُمثّل بذرة المبادئ والقيم الإسلامية في المعمار، فقد كان للعرب المسلمين أولويات وتصورات معينة للمجالين العام والخاص. يسرد المهندس المعماري زكريا محمد كبريت في كتابه "البيت الدمشقي" بعض هذه المبادئ، يذكر في مقدمتها مبدأ التوجه نحو الداخل، فأفنية المنازل الداخلية تحفظ الخصوصية وترعى الحشمة. أصبحت هذه الأفنية مركزا للدور وتحولت إلى جنان داخلية تبرز البزخ والنعيم دون أن تتخلى عن قيم الخصوصية.

    

كتاب 
كتاب "البيت الدمشقي" للمعماري "زكريا محمد كبريت" (مواقع التواصل)

    

ويلاحظ في هذه البيوت أن المدخل لا ينفتح مباشرة على الفناء أو أي من الغرف، بل على دهليز ضيق يسع فردا واحدا أحيانا، إمعانا في الحفاظ على الخصوصية. ومن ثم أصبحت هذه الدور تعبيرا عن شكل الأسرة العربية الإسلامية الممتدة والمتمركزة حول الأب صاحب الدار ثم من يتفرع عنه من زوجات وأبناء وأحفاد. كأن هذه الديار صارت تكريسا للقبيلة العربية في شكل حضري جديد. تجلت كذلك روح الإسلام التوحيدية ونهيه عن إبراز الصور والمنحوتات في ازدهار فن الزخرفة والنقش وكتابة الآيات والآثار الإسلامية في هذه الدور، ثم توسع وانتشر حتى صار معبرا وممثلا عن الحضارة الإسلامية في كل ربوع الدنيا، حتى صارت دمشق بذلك مهد أمجاد الشرق وعزه.

   

عز الشرق أوله دمشق

لم تجمع دمشق سحر الشرق وأسراره وحكاياته التي تسرق اللب مصادفة، فقد حظيت هذه المدينة دائما بمكانة مميزة في كل الإمبراطوريات التي تعاقبت عليها، بداية بالإمبراطورية الرومانية وصولا إلى الخلافة العثمانية. يورد زكريا محمد كبريت في كتابه أيضا موجزا لتاريخ المدينة يقول فيه إن دمشق عرفت أوج ازدهارها في العهد الأموي، حيث بدأت الثقافة الإسلامية بتشكيل ملامح المدينة لتضمها إلى حضن المدن العربية الإسلامية، انعكست قوة المسلمين حين ذاك على دمشق وبدأت تحظى بمكانة مرموقة وتحولت من مدينة عادية إلى عاصمة دولة قوية تبسط نفوذها شرقا وغربا، ونالت بذلك نصيبا من التقدم الذي حققته الدولة الأموية حضاريا وعمرانيا آنذاك. (3)

   
في ظل الازدهار الذي شهدته الدولة الأموية بُنيت بيوت تحمل خصائص العمارة الأموية بأسوارها العالية والصحون الواسعة والغرف المتناسقة والمتقابلة المنفتحة على الداخل والمنغلقة على المحيط الخارجي مُمَثِّلة بذلك مُثُل الإسلام وملبية حاجة سكانها إلى الخصوصية. لكن توالي الممالك على دمشق أدخلها في عملية تطور لا تهدأ، وكان لبيوتها وعمارتها دائما نصيب من هذا التطور. في العصر العباسي لم تختلف بيوت المدينة كثيرا، إلا أنها زادت في طابعها الإسلامي وشهدت تغيرا طفيفا في مواد البناء المستخدمة فيها. لكن دمشق نفسها شهدت تغيرا عمرانيا حيث زادت حاراتها المتعرجة الضيقة التي تحفها البيوت من مختلف الطبقات في كل جوانبها، ويعد قصر الأخيضر الذي شُيّد في عهد الخليفة المنصور وما يحيط به من بيوت أبرز مثال على تأثير الفترة العباسية.

    

البيوت الدمشقية قديما (مواقع التواصل)
البيوت الدمشقية قديما (مواقع التواصل)

   

ثم تلا ذلك عهد من الحكم الفاطمي للمدينة، وكانت تلك أكثر فتراتها انحدارا، فقد أدّت الخلافات المذهبية والدينية إلى انتشار القلاقل والاضطرابات وهجر المدينة كثير من أهلها. ثم التقطت المدينة أنفاسها قليلا بحلول العصر السلجوقي الذي حمل معه أساليب جديدة في البناء وشهد أول استعمال للمقرنصات التي استعملت لزخرفة الزوايا والقباب، ممهدة الطريق للانتقال من القبب المربعة إلى القباب المستديرة. ثم بدأ استخدام الحجارة المنحوتة في البناء يتسلل إلى دمشق في العصر الأيوبي الذي عرف ازدهارا عمرانيا، لكن التزيين بالحجارة لم يعرف أوجه إلا في العصر المماليكي، حيث أصبح ضرورة لتزيين واجهات المباني، وصار التزين بالأحجار المعشقة واستخدام الحجارة الملونة لبناء مداميك الواجهات سمة لازمة، وبدأت الأبواب ترتدي ثوب الفخامة وتتوج بنصف قبة مقرنصات أعلاها.

  

في العصر المملوكي اكتسبت المدينة حلة بهية من الألوان والزخارف، وتحدث عنها ابن فضل الله العمري في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" قائلا: "وبها الديار الجليلة مذهبة السقوف المفروشة بالرخام، ومنها ما هو مؤزر الحيطان بالرخام المنوع، المفصل بالصدف والذهب، ذات البرك والماء الجاري، يجري الماء في الدار الواحدة في أماكن منها". (4) كما كان للعثمانيين بصمة مميزة على العمارة الدمشقية، وأدخلوا عليها عناصر جديدة كالتيجان المقرنصة والأقواس، وتظافرت الفنون الدمشقية مع الفنون الوافدة من إسطنبول وانتشر استعمال نوع جديد من الفسيفساء يسمى الأبلق، والذي يركب عادة فوق أبواب القاعات أو في داخلها، بالإضافة إلى الفسيفساء الرخامية، وعرف فن القاشاني ازدهارا وتطورا وأصبح حضوره أساسا من أساسيات تزيين الجدران في العمارة العثمانية بدمشق.

المصدر : الجزيرة