شعار قسم ميدان

الحكمة المصرية على جدران التوك توك.. كيف تطور المجتمع المصري؟

"إحساس العمل الفني الجيد ينتقل إلى الآخرين، وإذا انتقل الإحساس إلى الناس الآخرين فإنهم يعيشونه، ولكن لا يعيشونه فحسب، إنما كل واحد منهم يُعايشه وفق طريقته".

(ليو تولستوي – ما هو الفن؟)

تضاعفت منذ النصف الثاني من القرن العشرين أعداد المركبات البُخارية والسيارات في مصر، وبمجرد انتشار السيارات في شوارع القاهرة انتشرت معها ظاهرة الكتابة على الهيكل الخارجي للسيارة بصورة لافتة في المجتمع المصري حينها، مما يُعبِّر عن وعي جمعي عام في المجتمع المصري حينئذ، وهو ما حدا بعالم الاجتماع المصري د. سيد عويس [أ] للقول إن "هذا النوع من الكتابة إنما هو بمنزلة جهاز إعلامي جديد لمواجهة المجهول في حياة المجتمع المصري" [1]، ثم ليرصد هذه الظاهرة في كتابه "هتاف الصامتين".

 سيد عويس - عالم اجتماع مصري (مواقع التواصل)
سيد عويس – عالم اجتماع مصري (مواقع التواصل)

جمع عويس وتتبَّع ما وقعت عليه عينه أو طالته يداه من الجُمل والكلمات المتكررة على مركبات المصريين المتحركة في أواخر الستينيات بإحدى عشرة محافظة مصرية، وتلا الجمع مرحلة أخرى من محاولة الاستقراء لسِمات المجتمع المصري في ذلك الوقت عبر التحليل الخطابي لما سمَّاه عويس "الجهاز الإعلامي الشعبي المتحرك" الذي تضمَّن، بصورة يومية، أحوال المصريين المتقلِّبة بين الحزن والفرح، والحلو والمُرّ، والألم والرضا.

بمرور الوقت، ومع زيادة التهميش السياسي والكبت الاجتماعي، سيتحوَّل الأمر إلى ظاهرة جديدة وهي الكتابة على ظهر "التوك توك"، التي انتشرت في الآونة الأخيرة بفعل انتشار التوك توك في مصر حتى بات لها حضورها وثقافتها وشعبيتها وموسيقاها، وما يمكن أن نُسميه أدبياتها الخاصة.

فمن الكتابة على هياكل السيارات، مرورا بظاهرة الجرافيتي منذ اندلاع الثورات [2]، وحتى البوح بقصص المُهمَّشين على الجدران [3]، جنبا إلى جنب مع الكتابة على ظهر التوك توك، كان كل ذلك تعبيرا عما يصعب البوح به بين يدي المجتمع لا سيما في مشاعر الحب والحرب [ب].

"ظاهرة الكتابة على هياكل السيارات، بوصفها إحدى وسائل التعبير الشعبية أو باعتبارها جهازا إعلاميا وثقافيا شعبيا، في مجتمعنا المعاصر يجب أن تُدْرَس دراسة عميقة بغرض التعرف عليها وعلى آثارها وتأثيرها عند مَن يكتبون على هياكل هذه المركبات ومَن يقرؤون ما يُكتب".

(سيد عويس – هتاف الصامتين)

"آخر جنان"، "اديني من وقتك ساعة"، "حرام عليك البُعد دا"، "كفاية يا عين"، "يا رب رضاك"، " يا رب لطفك بالعباد"، "مدد يا أم هاشم"، "صلِّ على النبي".

نماذج من الكلمات المتنوعة التي خطَّها المصريون على هياكل سياراتهم، فما بين الأدعية والابتهالات الدينية والنصائح والأمثال الشعبية والأغنية المصرية تنوَّعت السطور المخطوطة على المركبات في شوارع مصر، واعتبر د. سيد عويس في دراسته "هتاف الصامتين" أن هذه الظاهرة ما هي إلا محاولة من المجتمع لمواجهة المجهول الذي يخشاه والبوح به أمام الجميع بصورة صامتة، إذ إن "الملاحظ أن هؤلاء الناس يخرجون من بيوتهم كل يوم سعيا وراء الرزق، والرزق أمر ليس مجهولا فحسب، بل قد يحسده عليه الآخرون"، وهو ما جعل الكثرة لعبارات دفع الحسد، والحمد والشكر، والرضا والصبر. وبحسب عويس فإن "هذه الكتابة، وخاصة العبارات التي ترجو الوقاية وتُلِحُّ في تحقيق السلامة، هي أسلوب من أساليب مواجهة المجهول في مجتمعنا" [4].

undefined

جعل عويس هذه الجُمل المبثوثة هي مرجعه الخصب لقراءة المناخ الثقافي والاجتماعي المُكوِّن للمجتمع المصري في هذه الفترة، وهي وإن كانت أفكارا صامتة في الظاهر فإنها تتجلَّى بالصخب والحركة في مواطن أخرى، فيقول عويس: "وإذا اعتبرنا هذه الظاهرة إحدى وسائل التعبير عند الصامتين من أعضاء مجتمعنا المعاصر، فالمُلاحظ أن الصامتين في المجتمع لا يبدون صامتين على الدوام، فإن صوتهم يرتفع في مواطن مثل الصلاة والدعاء والمساجد والمعابد، ويجلجل في مباريات الكرة والملاهي وأثناء الاستماع إلى الموسيقى، وحتى عن طريق الكتابة أو الرسم داخل دورات المياه" [5].

يعترف عويس بأنه لم "يشعر بشيء من الاغتراب من الكلمات التي قرأها، وأيقن أنه واحد من ملايين المصريين الذين يعيشون في مجتمع واحد دون شعور بالاغتراب عن وعي المجتمع الجمعي". وعلى الرغم من أنه لم يكن راضيا كل الرضا عن المكتوب، بل كان نافرا ساخطا في كثير من الأحيان، فإن الرضا والسخط لا يُغيِّران من وعي المصريين الجمعي شيئا، ذلك الوعي الذي يُعبِّرون عنه في كلماتهم البسيطة كالكتابة على هياكل السيارات.

undefined

"النبي تبسم"

"فلسطين عروس مهرها الدم"

"أحب الناس وأكره كلامهم"

"مقدرش على كده وحياة السيدة"

"العيشة منجهة والحياة أُبهة"

"خليها على الله"

"كفاية يا عين"

عبارات وردت في كتاب "هتاف الصامتين"

بحسب دراسة د. عويس التي شملت 1000 كلمة مكتوبة على 500 مركبة، فقد حازت العبارات الشعبية المرتبة العُليا من النتائج بنسبة 38.5%، أما العبارات الدينية فحصدت نسبة 32.3% من النسبة المدروسة، وتَمثَّل الباقي في أسماء لأشخاص وتحيات وأعلام.

تنوَّعت العبارات الشعبية بين أطياف شتى، بين مقتطفات لأغانٍ قديمة لأرباب الغناء في هذه الفترة مثل أم كلثوم وليلى مراد وعبد الحليم ومحمد قنديل وغيرهم، وقد اتخذ أرباب السيارات هذه الجُمل للتعبير عن أنفسهم مثل: "اتمخطري واتمايلي يا خيل"، و"ادلع يا رشيدي على وش المايه"، و"بعيد عنك حياتي عذاب". واتخذ المصريون مع الأغاني كذلك مقولات شعبية مثل: "اديني من وقتك ساعة"، و"حمال الأسية"، و"كيداهم لوحدي"، ولم ينسوا التحذيرات والتنبيهات، فكتبوا عبارات مثل: "أنا خايف من عيون الناس"، و"على مهلك يا جميل"، و"احذر خطأ الغير".

أما فيما يتصل بالأشكال الدينية، فقد تنوَّعت الكلمات بين دعوات وابتهالات مثل: "استرها يا رب"، و"الحمد لله كده رضا"، و"سترك يا رب"، وكان حضور الآيات القرآنية والأحاديث النبوية واضحا، مثل: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، و"ادخلوها بسلام آمنين"، و"إنا فتحنا لك فتحا مبينا"، و"إنما الأعمال بالنيات"، و"إذا سألت فاسأل الله".

لم تقتصر العبارات الدينية على المسلمين، فقد تضمَّنت العبارات كلمات مقتبسة من الكتاب المقدس مثل: "الله محبة"، و"الرب راعي فلا يعوزني شيء".

undefined

"أنا روحت الجيش، وسبت الناس تاكل عيش"

"دلعها في الغيارات.. وريحها في المطبات"

"رميت همومي في البحر طلع السمك يلطم"

"أوعى تجري ورايا .. أختك راكبة معايا"

"حينما انتهيت من صنع سفينتي جفت مياه البحر"

(عبارات من على ظهر التوك توك في مصر)

تتبَّع كمال سالم عوض في كتابه الساخر "مكتوب على ظهر التوك توك" مواصلة ما بدأه عويس -قبل أربعين سنة- من استقراء المجتمع المصري من كلمات المركبات المتحرِّكة في الشارع المصري، لكن هذه المرة كان مع "التوك توك".

ففي مصر، بات لهذه المواصلة الشعبية حضور شعبي وجماهيري كبير، إذ يرى عوض أن التوك توك بات مصدرَ رزقٍ جانبيا لكثير من المصريين، حتى عمل فيه "المدرس والمحامي والمهندس والموظف، وتصدَّى لقيادته الشاب والكهل، فالكل يبحث عن فرصة لإنعاش الدخل، ونزع بعض الشوك من جسد المعيشة الضنك" [5]، وهو ما جعل شرائح متباينة في المستوى المادي والثقافي تدلف إلى عالم التوك توك، بيد أن الغلبة كانت للفقراء والمُهمَّشين، وكان للتوك توك لغته الدعائية وعباراته المميزة التي تعكس حال القائمين عليه.

حاول عوض استئناف مسيرة عويس، فعمد إلى جمع وتحليل محتوى الكلمات المبثوثة على التوك توك ومقابلتها مع دراسة د. عويس بما شاع من كلمات في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ووجد عوض أن دراسة عويس كانت بهدف التعرف على ملامح المجتمع في تعاملهم مع المجهول، وكيف يُعبِّر عن مخاوفه وآماله، فكانت اللغة تنتمي إلى الرُّقي نوعا ما -مقارنة باللغة التي انتشرت فيما بعد-، وقد انعكس ذلك على الأغاني التي ضمَّها بحث عويس التي تنتمي إلى زمن الإبداع الفني في التأليف والتلحين والغناء.

أما في عالم التوك توك، فليس هناك اهتمام بكتابة الأغنيات الهادفة على ظهره، وإنما تشيع المهرجانات الشعبية، وهي ذاتها نمط الغناء المفضل لدى سائقيه. ويواصل عوض رصده موضِّحا أن "د. عويس قد تحدَّث عن الأمثال والنصائح والتحذيرات التي كتبها أصحاب السيارات قديما، بينما تتحدَّث لغة التكاتك بعبارات أُخرى تنتمي إلى المشاجرات والجروح والعصابات والذئاب. ففي الألف عبارة التي جمعها عويس لم يرد للكلب فيها ذكر إلا مرة في مثل شعبي، بينما ما جمعه عوض من سبعمئة عبارة تكتظ فيها الأوصاف بالكلاب النابحة والحيوانات العاوية والذئاب الضالة، وتتحدَّث هذه اللغة عن عصابة المافيا وتعج الألفاظ بعبارات سب وقذف يندى لها الجبين" [7].

undefined

بحسب البعض [8] فإن التعبير على ظهر التوك توك يعتبر لونا من ألوان الأدب الشعبي مثل الكتابة على السيارات التي عرفتها مصر منذ الستينيات، لكن أدب التوك توك مرتبط بالفكاهة والروح المعنوية، كما أنه أكثر تعبيرا عن مجتمع أكثر انحطاطا من المجتمع المصري قديما، لذا يستخدم [1] أصحاب التكاتك كلمات أكثر شعبية وانحطاطا مثل: "تعمل حسابي أقدرك تهزر معايا أعورك"، "الحلوة لما تتدلع تخلي الأسفلت يولع".

كما رصد د. عويس خوف أصحاب السيارات من العين والحسد، فقد وُجِد التحذير منهما في عالم التوك توك، وشاعت العبارات التي تدعو إلى طلب السلامة منه، لكنها بدت بلهجة مستهجنة في عالم التوك توك مثل: "ما تبحلقش كده يا لوح.. دي جت بطلوع الروح"، "ما تبصش كده يا عبيط.. الحلوة دي بالتقسيط"، "طالعة مستورة.. وراجعة مجبورة"، "لا مال ولا غنى.. دا من فضل ربنا"، و"عضة أسد ولا نظرة حسد"، و"يا ناس سيبوني أسدد ديوني وبعدين احسدوني".

وعلى الرغم من أن دراسة الدكتور عويس لم تحمل أي ألفاظ نابية أو تمس المرأة بسوء، فنجد في عالم التوك توك مظاهر من الانحطاط -بحسب تعبير عوض- تسود مجتمع التوك توك، يقول عوض: "فالجُمل على التوك توك في قمة الوقاحة مثل: "الحب زمانه فات والبنات زي المداسات"، و"هي معاك لسه حبيبتي"، و"إوعى تجري ورايا أخوتك مش معايا"، و"الحلوة في مشوار وصاحبها على نار"".

في عالم الستينيات، كان ذكر الأدعية الدينية أكثر حضورا، والانتماء للأمة العربية والمصرية وحضور القضية الفلسطينية أكثر استدعاء، مثل جُملة: "فلسطين عروس مهرها الدم"، أما على ظهر التوك توك فلم يعد هذا حاضرا، والانتماء للأمة المصرية والعربية وذكر فلسطين لم يعد له وجود على ظهر التوك توك، على العكس من زمان عويس، ولم يعد الانشغال بالأمور السياسية والكتابة عنها هي ما يشغل بال السائقين.

undefined

وهو ما يوضِّح الفوارق المجتمعية بين هتاف الصامتين من أصحاب السيارات قديما وأصحاب التوك توك حديثا، إذ إن هذا الهتاف للصامتين -بحسب د. عويس- ما هو إلا تعبير عن حياة المجتمع وهمومه بحلوه ومُرّه، وبمحض إرادة كاتبيها، كونه جهازا إعلاميا شعبيا متنقِّلا بين الناس يعكس شكل المجتمع وحاجته.

—————————————————————————-

الهوامش

أ- سيد عويس: يُلقب بعميد علماء الاجتماع في الوطن العربي، وهو أحد أبرز علماء الاجتماع في مصر في القرن العشرين، وتقوم دراسته على البحث عن الظواهر الاجتماعية والعادات السلوكية والموروثات القديمة التي تتحكم في المجتمعات من خلال رصد الظواهر المبيِّنة للواقع الراهن وردود أفعاله، ومن أعماله: "من ملامح المجتمع المصري – ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي"، و"هتاف الصامتين – ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري"، و"الخلود في حياة المصريين المعاصرين".

ب- وهما المشاعر الأكثر حضورا في راهن الشباب العربي، كما عبَّر تميم برغوثي في قصيدته "ويكثر قول الشعر في الحرب لا الهوى .. لأن الهوى لو قيس بالحرب جارحٌ".

المصدر : الجزيرة