شعار قسم ميدان

"في بلاد الأشياء الأخيرة".. عندما تتحول الحياة إلى محرقة

"لست أتوقع منك أن تفهم. أنت لم ترَ شيئا من هذا، وحتى لو حاولت فإنك لن تتمكّن من تخيله. هذه هي الأشياء الأخيرة. ترى منزلا في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يضمحل، شارعا كنت اجتزته البارحة ما عاد موجودا اليوم، حتى الطقس في تحول متواصل، نهار مشمس يليه نهار ماطر، نهار مثلج يليه نهار ضبابي، حر ثم برودة، ريح ثم سكون، فترة صقيع مرير، وبعدها شتاء حار.. لا شيء يدوم، هل تفهمني، ولا حتى الأفكار في داخلك.. حين يتوارى شيء ما فهذا يعني نهاية الأمر".

يبدو ذوبان الثلج وشيكا الآن، توجّه الجميع للفراش متوقعين أن يغادروا في الصباح، وفي ساعة متقدمة جدا من الليل، بينما الريح تعصف عبر شقوق جدران المنزل، تسحبت "آنا" إلى المطبخ، جلست على الأرض، وأخرجت دفترها القديم وقلما، أشياء أصبحت عتيقة جدا وباهظة الثمن، وخطّت بيدها المرتعشة تلك الكلمات، تفتتح بها رسالتها الطويلة، من هناك، وراء البحر، والجدار العالي، وحشود الجياع، والعصابات والموت المرتقب، من "بلاد الأشياء الأخيرة".

 

رواية الكاتب والمخرج الأميركي "بول أوستر" التي يصف فيها على لسان "آنا بلوم"، الفتاة التي تركت عالمها المدلل ورفاهيتها النزقة وركبت البحر لتبحث عن أخيها الصحفي الذي ذهب للتغطية الصحفية ثم اختفى، بلادا تلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت ببطء، تمتص ساكنيها، تبتلعهم، تنهش لحومهم، وتُفتّت عظامهم، ثم تحطم قلوبهم، فيستسلمون للموت، وحينها تُعيد تدوير أجسادهم كوقود، مثلها مثل معسكرات الموت النازية مع الفارق الشكلي بين معسكر الاعتقال والمدينة، أو هكذا أراد أن يُقنعنا أوستر، قبل أن نكتشف الفخ الذي نصبه لنا في روايته، فلسوء الحظ تُرجمت الرواية للغة العالم الذي يعيش كل تلك اللحظات الأخيرة حقيقة لا خيالا!

بلاد الأشياء الأخيرة (مواقع التواصل الاجتماعي)

عنوان ميدان (الجزيرة)

"الجحيم خالٍ.. والشياطين كلهم هنا"

(شكسبير)

وصلت "آنا بلوم" إلى "بلاد الأشياء الأخيرة"، البلاد التي لم يذكر المؤلف اسمها ولا أين تقع، لا تحمل معها إلا بعض النقود والأغراض وصورة الصحفي الذي لحق بأخيها فاختفى هو الآخر. وصلت بعد عشرة أيام من السفر على متن باخرة. دخلت المدينة ليلا، فأصابها الفزع، تقول: "كان الشاطئ أسود بكليته، لا ضوء في أي مكان، وأحسست أننا ندخل عالما غير مرئي، مكانا لا يعيش فيه غير العميان". توجهت إلى عنوان مكتب أخيها، غير أنها لم تجد هناك مبنى ولا شارعا ولا شيئا على الإطلاق، لا شيء سوى حجارة وقذارة على امتداد عدة فراسخ.

 

عرفت بعدها أن "هذه المنطقة كانت المنطقة السكنية الثالثة، وأنه قبل سنة تقريبا انتشر وباء هنالك، تدخلت حكومة المدينة فسوّت المنطقة وأحرقت كل ما فيها"، هكذا سمعت، لكن في "بلاد الأشياء الأخيرة" إذا تعلّق أي أمر بالماضي، فإن الحقيقة تميل إلى الغموض، تتوارى وتتشوّه، ينفجر جوهرها وينبت لها طلع كرؤوس الشياطين، تُدفن الوقائع تحت جبل من النظريات الغريبة، هكذا أدركت "آنا بلوم" أنها تجاوزت منذ عدة ساعات إحدى بوابات "أرض العدم"، الوصف الذي أطلقته الناشطة السورية "سمر يزبك" عند عودتها لسوريا بعد قيام الثورة السورية ونشوب الحرب.

 

ففي أرض العدم، لا تستطيع أن تطلق لعينيك العنان، النظر شيء خطير جدا، فأي شيء تراه "قادر على أذيتك، على تحجيمك، وكأن مجرد رؤية شيء ما يسلبك جزءا منك… فما الذي سيحصل حين تجد نفسك محدقا في طفل ميت، في فتاة ممدة في الشارع دون ملابس، محطمة الجمجمة ومكسوة بالدماء"، عندما ترى أطفالا مبتورة سيقانهم، عندما تصافح طفلة أُصيبت برصاصة في ظهرها فشُلّت حركتها كليا وإلى الأبد؟

مخيمات سورية مدمرة

"فليس في وسعك أن ترى بتجرد، إذ كل مشهد يُغيّر جزءا من كيانك بمعنى من المعاني، وهو جزء من القصة المترعرعة في أحشائك"، ولكي تستمر في العيش، فعليك أن "تجعل نفسك بمنتهى القسوة إلى درجة ألا يؤثر فيك أي شيء بعدها، ولكنك ستُمسي بعدها وحيدا، مقطوعا نهائيا عن الجميع لتصبح الحياة مستحيلة"، ورويدا رويدا تظهر الوحوش، "بمعنى آخر: كلنا وحوش، ولكن ليس ثمة واحد تقريبا من غير أثر في داخله للحياة كما كانت يوما".

 

هذا هو ملخص وصف الحياة في أرض العدم أو بلاد الأشياء الأخيرة أو كيفما تحب أن تسميها، تقول "آنا": "الحياة كما نعهدها انتهت، ولا أحد قادر على الرغم من ذلك على إدراك ما حل محلها، والذين نشؤوا منا في مكان آخر أو المعمرون بدرجة كافية ربما يتذكرون عالما مختلفا عن هذا، يجدون مشقة عارمة في مجرد الاستمرار من يوم إلى آخر، لست أتحدث فقط عن المشقة. ففي مواجهة أكثر المناسبات ابتذالا، تفقد كليا كيفية التصرف، ولأنه لا يسعك التصرف، فإنك تجد نفسك غير قادر على التفكير، الدماغ وسط تشوش، وحولك في كل الجهات تغيير يلي الآخر، فكل يوم يحدث ثوران جديد، والافتراضات القديمة تؤول إلى هواء وفراغ. هنا المعضلة، فأنت من جهة ترغب في الاستمرار، في التأقلم، في استخلاص أفضل ما في الأمور. ولكن يبدو من الجانب الآخر أن إنجاز ذلك يستلزم القضاء على كل تلك الأشياء التي جعلتك تظن في يوم من الأيام أنك آدمي".

 

يمكن أن نأمل أن كل ذلك سينتهي عاجلا أو آجلا، وأن الإصلاح سيتحقق، وتنعم البلاد بالرفاهية والحرية والديمقراطية، لكن الأمور أبدا لا تسير في طريق تحقق تلك الوعود الرنانة، بل تتداعى الأشياء وتضمحل، "الناس يموتون.. ومع ذلك هنالك دوما أناس جدد ليحلوا محل أولئك الذين اضمحلوا. إنهم يتدفقون من الريف ومن البلدات النائية مجرجرين عربات محملة عاليا بمقتنياتهم، داخلين مفرقعين في سيارات محطمة، كلهم جياع، كلهم مشردون. وإلى أن يتعلموا طرائق المدينة فإن هؤلاء القادمين الجدد يمسون ضحايا سهلة. عدد كبير منهم تُسلب منهم نقودهم بالخداع قبل نهاية يومه الأول، بعضهم يدفع أجرا لشقق لا وجود لها، آخرون يُغوون لدفع سمسرة مقابل وعود بوظائف لا تأتي إطلاقا، كذلك يُقدِّم آخرون مدخراتهم لابتياع طعام يظهر في النهاية أنه مجرد كارتون مطليّ".

الحرب في سوريا

 

ففي ديستوبيا العدم، ينتشر المحتالون والمخادعون، وبما أن الحكومة قد انسحبت من مهام فرض النظام والأمن، واكتفت بالمهام الرئيسية مثل حراسة الموانئ وفض الشغب وإدارة السجون، وتجميع جثث الموتى لإعادة تدويرها كوقود، كان من الطبيعي أن يؤول جزء من السلطة لعصابات قطاع الطرق، وعصابات سرقة الأعضاء وبيع الجثث، بجانب سماسرة المقتنيات والتحف والأشياء القديمة التي يأخذونها من الكناسين وجامعي القمامة ليعيدوا بيعها بأسعار باهظة.

 

وسط كل ذلك يضمحل الأمل تماما، وحين يضمحل الأمل "فإنك تسعى حينئذ لملء الفراغات الشاغرة بالأحلام"، يتحلّق المشردون ويثرثرون بمعاناة عن أحلامهم البسيطة، وبالطبع يأتي الطعام في مقدمة أحلامهم، يصفون بأدق التفاصيل شكله وملمسه ورائحته ومذاقه، حتى يشعرون بالشبع، إلا أن الحلم بـ "الشبع" مجرد حلم طفولي، هناك أحلام أخرى يحلم بها هؤلاء الذين يعلمون أنهم علقوا في مقام غامض بين الحياة والموت، وبما أنهم لن يستطيعوا أبدا إدراك الحياة، لأنهم في الأصل لا يتذكرونها، حيث فقدوا اللغة والكلمات والمعاني التي تصفها، يمكنهم استخدام كلمات مثل "الحياة والموت والأمن والطمأنينة والسعادة"، لكنها كلمات جوفاء بلا مدلول سرعان ما تذوب مع طبقات الثلج وتتبخر تحت أشعة الشمس. ولذلك لا يتبقى لهم إلا الموت، يصبح الموت حلما لدى هؤلاء المشردين الضائعين، الخلاص النهائي والأخير، والأيديولوجية التي يكافحون من أجلها.

 

وتحت مظلة عقيدة الموت، الناس أصناف: هناك "الشجيون الذين يموتون دائما في نومهم، يجولون لشهر أو اثنين وفي وجوههم ابتسامة غريبة، فيما يحلق حولهم وهج آخرية عجيب، كما أنهم قد بدؤوا مذاك يختفون.. وبعض الميتات الأخرى أشد مأساوية، فهناك مثلا العداؤون، وهم فرقة من الناس تركض عبر الشوارع بأسرع ما في وسعها، ضاربة بأذرعها بعيدا حولها، لاكمة الهواء زاعقة بأقصى ما تلفظه الرئتان، هؤلاء يسافرون في معظم الأحايين جماعات، ستة، عشرة، وحتى عشرين، ينقضّون معا على الشارع، ولا يتوقفون لأي شيء يعترض سبيلهم، يركضون ويركضون إلى أن يسقطوا من الإعياء".

الجري (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

والهدف هو الموت بأسرع وقت ممكن، لكن هذه الطريقة ليست بتلك السهولة، فلكي تجهد نفسك بقسوة بالغة إلى درجة لا يتحملها القلب، فتسقط صريعا، عليك أولا أن تكون عدّاءا جيدا، لذلك يكابد العداؤون تحضيرات شاقة لمواجهة قدرهم، ويجب أن يركضوا معا، لذلك، مثل الطوائف الدينية والمذهبية، فإن العدائين أيضا لديهم طقوس وبروتوكولات ومكاتب، ويخضع المنضمون إليهم لاختبارات قاسية، وتدريب منتظم، والتزام بقوانين وشعائر المجموعة، وعندما يصبح العضو جاهزا لأن يركض ركضة موته، يخرج مع رفاقه في صباح يوم محدد، يعدو حتى تتفلّت روحه من جسده، يركض صارخا حتى تطير روحه حرة.

 

وهناك الموتات المتوحدة، وهي مثل الدين الشعبي، أو الشعائر الشعبية. يتسلق الناس أكثر الأمكنة ارتفاعا لا لسبب غير القفز، وتُدعى "الوثبة الأخيرة"، وهي وثبة تتمتع بالشهرة، فجميع الناس يحبون مشاهدتها والتفاعل معها بالصراخ، فهي أمر "يستطيع الجميع تفهّمه، ويتطابق مع شوق الجميع الداخلي: في الموت بلمحة بصر تمحو ذاتك في لحظة واحدة ضئيلة ورائعة".

 

لكن، مثل أي أيديولوجية أو دين، هناك دائما التجار، الذين يتمحور همهم حول الكسب المادي، ولأن الناس ليسوا جميعا لديهم شجاعة العدائين أو جرأة الواثبين، فهناك مَن يُقدِّم "خدمات الموت" بمقابل مادي بالطبع، مثل "عيادات القتل الرحيم"، والأمر متوقف على ميزانية الشخص، فالعرض الأبخس والأرخص سعرا هو "رحلة العودة"، وهي عبارة عن الموت بحقنة لا تستغرق سوى ساعتين، تجعلك تنجرف رويدا نحو نوم هادئ لا تستيقظ منه أبدا. ويليها على قائمة الأسعار "رحلة العجائب"، وتدوم عموما بين يوم وثلاثة أيام، وهي تتألف من سلسلة من الحقن، على فترات منتظمة، الأمر الذي يمنح الزبون شعورا نشطا بالتراخي والحبور. ثم هناك "رحلة الملذات" التي يمكن أن تستمر طويلا ولمدى أسبوعين.

الانتحار بالإبر (مواقع التواصل الاجتماعي)

"يُستضاف الزبائن إلى حياة ثراء، وتُقدَّم إليهم ضروب من الرفاهية تُضاهي أبهى الفنادق القديمة المترفة، ثم تنتهي بالموت وسط كل ذلك الرفاه". لكن لكبر حجم السوق، فليست عيادات القتل هي الأماكن الوحيدة التي تُقدِّم خدمات الموت، فهناك "نوادي الاغتيال"، وهي تجارة جديدة وشعبية تنافس عيادات القتل الرحيم بقوة.

 

يقوم الزبون بالانضمام إلى نادي الاغتيال مقابل رسوم متواضعة نسبيا، ثم يُعيِّن قاتلا لمهمة قتله. ولا يطّلع الزبون على أي شيء بشأن الترتيبات، ويبقى كل ما يتعلق بمقتله سرا ابتداء من الموعد والمكان والأسلوب المستخدم، وحتى هوية القاتل، وبذلك تستمر الحياة كما كانت، لكن يظل الموت في الأفق مؤكدا وغامضا، فبدلا من الأمراض والحوادث والشيخوخة، يتطلع الزبون لموتة سريعة وعنيفة وحاسمة، رصاصة في الدماغ، خنجر في الظهر، يدان قويتان حول العنق في منتصف الليل. بذلك تندفع كل معاني الحياة إلى الحافة، يشعر المرء بكل لحظة يعيشها، لكنه لا يستطيع العودة أبدا إلا بقتل قاتله، ومن ثم يتحول إلى قاتل.

 

تستغرق"آنا" في شرح تلك التفاصيل برسالتها، ربما تصف تلك التفاصيل واقعنا في العالم العربي، بشيء من الاختزال والرمزية، لكنها تظل تفاصيل ضئيلة أمام الكم الهائل من البؤس والمعاناة والألم في واقع "أرض العدم" كما نحياه كل يوم، ورغم ذلك تستمر الأيام في التوالي، تتحمل الأجساد، ربما تنضغط العظام، تفقد بعض الأعضاء الحيوية من جسدك، تفقد نصف عمرك في زنزانة مظلمة، ربما تفقد كل عائلتك إذا استيقظت فوجدت السماء تمطر براميل متفجرة، أو ربما تنحرف حياتك فجأة نحو الجحيم دون سبب لمجرد أنك مررت بحاجز، أو سرت في مظاهرة، أو مزحت مع صديقك بصوت مرتفع، رغم ذلك تستمر الحياة غير عابئة بما جرى لك، لكنك في النهاية تفقد روحك، "فلا شيء ينكسر هنا بسرعة تفوق انكسار القلب".

بيوت مهدمة

 

عنوان ميدان (الجزيرة)

"على المرء أن يتعوّد على الاكتفاء بأقل قدر ممكن، فكلما قلّ ما يُريده رضي بالقليل وقلّت حاجته وأصبح في حال أفضل.

هذا ما تفعله المدينة بك؛ إنها تقلب أفكارك رأسا على عقب، تجعلك ترغب بالحياة، وفي الوقت نفسه تحاول أن تنزع منك الحياة، ولا مفر من هذا. فإما أن تفعل أو لا تفعل. وإذا فعلت، فلن تستطيع أن تتأكد من قدرتك على القيام به في المرة التالية. وإذا لم تفعل، فلن تفعل أبدا".

بعد أن تنتهي "آنا بلوم" في رسالتها الطويلة من سرد الملامح العامة لبلاد الأشياء الأخيرة وفشلها في العثور على أخيها، أو الصحفي الذي تبعه "سام"، تقودها مجموعة مصادفات "هوليودية" سريعة، فخلال تجوُّلها في أحد الشوارع بحثا عن أي شيء ثمين يصلح بيعه، بعد أن قررت أن تعمل "كناسة" أو صائدة أغراض، تشاهد فجأة مجموعة من "العدّائين" على وشك كسح سيدة أخرى من جامعي المقتنيات، فتُسرع بلوم لإنقاذها، ومن ثم تصبحان صديقتين، وتأخذها السيدة "إيزابيل" لبيتها المكوّن من غرفة واحدة، حيث تعيش إيزابيل مع زوجها الذي فقد عمله من مدة وربما فقد جزءا كبيرا من عقله وامتنع عن الخروج من المنزل نهائيا من وقتها. وتمضي الأيام وتحدث المشاجرات بين بلوم وزوج إيزابيل، وذات ليلة يحاول الزوج الاعتداء على "آنا" فتتصدى له وتخرج من البيت، وعند عودتها في الصباح، تكتشف ومعها إيزابيل موت الزوج. ولا يخبرنا المؤلف سبب موته، فربما لم يتحمل يدَيْ بلوم حول عنقه، وربما قتلته زوجته بعد خروج "آنا" من البيت.

 

يُولي المؤلف عناية خاصة بمشهد تحضير "آنا وإيزابيل" لجسد الزوج الميت، فقد قرّرتا أن تسحبا جثته بعد أن تُلبساه بذلته الأنيقة وتمشّطا شعره إلى سطح البيت وتلقيا به، وكأنه أحد الواثبين قد قتل نفسه منتحرا، لكن السيدة ومعها آنا لم تملكا القوة الكافية لتنفيذ الخطة، وبالكاد استطاعتا أن تسحباه لأعلى وتدفعاه نحو الحافة، فسقط الجسد في منتصف الشارع ثم اختفى فجأة مع كل ما كان يرتديه. بعد ذلك، أُصيبت إيزابيل بالمرض، لم تعد تستطيع الكلام، اشترت بلوم كراسة وقلما لتكتب عليها إيزابيل ما تريد قوله، بعد فترة تحولت كتابات إيزابيل إلى رسومات كاريكاتورية، ثم شخبطات، اختفى صوت إيزابيل تماما كما يختفي كل شيء في بلاد الأشياء الأخيرة بلا عودة، وفي النهاية ماتت، وانمحى أثرها كأن لم تكن إلا من ذكراها في عقل آنا، وسرعان ما عرف الجيران بموتها، وبالتالي اقتحموا المسكن وطردوا آنا منه.قوات مكافحة الشغب

لتقودها مصادفة أخرى خلال مرورها بأحد الشوارع الذي احتشد فيه الناس احتجاجا على غياب الطعام، وظهرت قوات مكافحة الشغب لتضرب الناس وتطاردهم، وما إن أدركت بلوم الموقف حتى فرّت راكضة، لتدخل مبنى عتيقا، وتدفع الموظف أرضا، صاعدة الدرجات، لتكتشف أنها في مبنى المكتبة، التي ستجد فيها "سام" بالمصادفة أيضا، وتعيش معه في غرفته، وتتزوجه وتحمل منه، ولسوء الحظ يستدركها أحد ساكني المكتبة مستغلا حاجتها إلى شراء حذاء جديد، فتقع في قبضة عصابة تتاجر في الأجساد البشرية، فتهرب منهم، وتقفز من نافذة المكتب وتسقط. وبالمصادفة أيضا تجدها سيارة "عيادة ووبرن"، وهي عيادة لأحد الأطباء الأثرياء في المدينة حوّل بيته إلى ما يُشبه المؤسسة الخيرية. وبعدما تستفيق بلوم تكتشف أنها فقدت جنينها وأن المكتبة قد احترقت في حادث غامض، فتعيش في "عيادة ووبرن" وتعمل هناك مع طاقمها، حتى يظهر -بالمصادفة أيضا- "سام" زوجها مرة أخرى، لكن العيادة تُفلس، ويُقرّرون الرحيل.

 

ووسط كل تلك المصادفات التي تقود الأحداث في الرواية، لدى المؤلف ثيمة خاصة في التعامل مع المشاهد التي تخص "الجسد البشري"، حيث يُولي المؤلف عناية بالغة بتفاصيل الجسد، كأنه يصور اضمحلال عوالم الشخصيات وعالم "آنا بلوم" خاصة داخل المدينة إلى حدود جسدها فقط، معبرا عن مدى الخطر وانعدام الثقة واليقين في كل ما يقع حول هذا الجسد وكل ما يحيط به، فحضور جسد الأشخاص في الرواية يظهر في الأماكن المغلقة، بينما في الشوارع يصبح عبئا يجب على صاحبه حمله والمحافظة عليه من الأخطار، فكانت بلوم تعتني بتغطية كل جسدها ومفاتنها وانحناءات جسدها قبل الخروج للشارع.

 

كما يظهر ذلك جليا في نصيحة "إيزابيل" التي قالتها لآنا: "لا تفكري قط بأي شيء، انصهري فقط في الشوارع وتظاهري بأن جسمك لم يعد موجودا، لا مزاح، لا حزن، لا ابتهاج، لا شيء سوى الشوارع، فراغ تام في الداخل، ركزي فقط على الخطوة التالية التي توشكين على القيام بها"، كما كرّر زوج إيزابيل النصيحة نفسها بشكل مختلف قائلا: "لا شيء غير الموت في الخارج.. هناك أسماك قرش في تلك المياه، وحيتان في مقدورها ابتلاعك، تمسّكي بالشاطئ.. تعلّقي باليابسة وأرسلي قدر ما تستطيعين من إشارات الدخان".

فتاة في شارع مظلم

أما المدينة نفسها فقد رسمها أوستر في روايته بلا ملامح، مجموعة من الاضطرابات والحشود التي سرعان ما تتفرق بغير وجهة، حيث تصفها بلوم قائلة: "تبدو المدينة وكأنها تستهلك ذاتها ببطء وبثبات، حتى بما تبقى منها، ولا سبيل إلى تفسير هذا. أستطيع فقط تدوين ذلك، ليس بوسعي ادّعاء الفهم. كل يوم تُسمع انفجارات في الشوارع، وكأن عمارة تسقط في مكان ما بعيدا عنك، أو كأن أرضا تنهار. لكنك لا ترى حدوث ذلك البتة.. ولأولئك الذين هم في الحضيض، هناك الشوارع والحدائق العامة ومحطات المترو القديمة. الشوارع هي الأسوأ لأنها مشرعة على كل طارئ أو سوء. الحدائق العامة هي بشكل ما مسألة أكثر هدوءا بعيدا عن مشكلات الازدحام والعبور المتواصل، ولكن إن لم تكن أحد المحظوظين الذين يمتلكون خيمة أو كوخا فلن تنجو أبدا من الطقس. فقط في محطات المترو يمكنك أن تطمئن وتنجو من قسوة الطقس، ولكن ستكون مجبرا هنالك أيضا على جمهرة من الإزعاجات الأخرى، ومنها العفونة، والحشود، والضجيج المتواصل لناس يزعقون وكأنهم مسحورون بأصداء أصواتهم بالذات".

 

وينطبق الوصف الذي وضعه بول أوستر في روايته مع الطرح الذي قدّمه عالم الاجتماع البولندي "زيجمانت باومن" في كتابه "الحداثة السائلة" عن المدينة الحديثة بوصفها "اللا مكان" أو "مكان بلا معالم"، حيث يلتقي اللا مكان في بعض الأوجه مع "الأماكن التي تبدو عامة ولكنها ليست اجتماعية على الإطلاق، فهي لا تشجع على المكوث، وتجعل من سكونها أو المكوث فيها أمرا يكاد أن يكون مستحيلا". وحسب باومان، فاللا مكان "يقبل استقبال الغرباء لفترات طويلة وممتدة، لكن يظل حضورهم جسديا فقط، بحيث لا يختلف حضورهم عن غيابهم إلا في مدى الإزعاج الذي يُسبّبونه، فاللا مكان يُلغي ذاتية المارة، أو يرتقي بها، أو يجعلها هي والعدم سواء، ومهما اختلفت عادات وسلوكيات الغرباء فهم لا يكترثون ببعضهم، يتبعون جميعا آدابا سلوكية مريبة تجعلهم جميعا يشعرون كما لو كانوا في بيوتهم، في حين لا ينبغي لأيٍّ منهم أن يتصرف كما كان فعلا في بيته".

 

"فاللا مكان فضاء يخلو من السمات الرمزية التي تكشف عن الهوية أو العلاقات أو التاريخ، مثل وسائل النقل العام أو الطرق السريعة"، لذلك فأي كشف عن انحياز أو هوية أو تميز رمزي يكون فعلا شديد الخطورة في اللا مكان، وهو في الرواية مكان يمكن للمرء أن يموت فيه، فالناس لم يعودوا يموتون في بيوتهم وعلى أَسِرّتهم، لكن الموت يباغتهم في الشوارع، لأي سبب، ودون سبب.

 

أما "عيادة ووبرن" فقد كانت مثل لوح الخشب وسط الطوفان، مؤسسة خيرية تحاول أن تُقدِّم بعض الملابس والطعام والعناية الصحية لعدد محدود جدا من الناس حسب قدراتهم المالية، لكن ماذا يحدث لقارب النجاة عندما يتشبّث به آلالاف بل ملايين الغرقى المشردين، لا شك أنه يغرق هو أيضا بمَن عليه، وكأن أوستر يريد أن يقول إن حتى العمل الخيري في تلك البلاد بلا جدوى.

 

عنوان ميدان (الجزيرة)

حاخام يهودي 3 (مواقع التواصل الاجتماعي)

"أنا يهودية أيضا وأُدعى آنا بلوم، ولقد قدمت إلى هنا من مكان قصي. لقد مضى على وجودي في المدينة سنة إلى الآن. إني أبحث عن شقيقي".

وسط المصادفات العمياء التي قادت أحداث الرواية، هناك مصادفة عجيبة في قلب الرواية، فعندما هربت بلوم من حادثة الشغب ودخلت مبنى المكتبة العامة، قابلت مجموعة من اليهود يترأسهم حاخام، وسألتهم عن أخيها. وبينما خلت الرواية من أي وصف عِرقي أو قومي، فلم يخبرنا المؤلف ما جنسية آنا بلوم ولا من أين جاءت، ولم يخبرنا حتى عن شكلها وعِرقها، لكنه فجأة يكسر كل القواعد التي وضعها ويكشف ديانة بطلته "اليهودية"، عندما تقابل مجموعة من الحاخامات اليهود في المكتبة، والغريب أن المشهد برمته ليس له أي علاقة بالسرد غير إلقاء الضوء على الديانة اليهودية والدور الذي يلعبه حاخامات اليهود وسط كل ذلك الخراب، تقول بلوم: "غريب ما حل بي في حضور هذا الرجل، ولكن كلما نوغل في الحديث كان ما أقوله يشبه كلام طفل. ربما ذكّرني بالمفهوم الماضي للأمور الذي وعيته وأنا شابة، في الماضي في العصور المظلمة حين كنت لا أزال أؤمن بما كان يقوله لي الآباء والمعلمون".

 

وعندما عادت "بلوم" للغرفة نفسها التي كان يجلس فيها الحاخام اليهودي ومجموعته في المكتبة، وجدت مكانهم شخصا آخر يعمل كعالم إثنوغرافيا أخبرها عن رحيل الجماعات اليهودية، وعندما سألته بلوم عن المكان الذي ذهب إليه الحاخام، رد بسخرية: "في طريقه إلى الأرض الموعودة بدون أدنى شك". ربما يلمّح "أوستر" عبر صورة الحاخام وحديثه العميق الشائق مع بلوم، ثم رحيلهم المفاجئ، إلى رحيل الدين عن العالم، لكن لماذا اختار أوستر الديانة اليهودية بالخصوص ومنحها هذه الصورة المُشرقة؟

 

لا يبدو الأمر غريبا عندما نعلم أن الروائي والمخرج الأميركي بول أوستر والداه يهوديان من أصول بولندية، وهذا يُفسِّر الثيمة الشعورية الأساسية التي يُقدِّمها أوستر في روايته، ثيمة الشعور بانهيار كل شيء، حتى الطبيعة نفسها تصبح مضطربة، وتتحوّل المدن إلى سجن كبير تُحيطه الجدران من كل اتجاه، ويطارد الخوف ساكنيه فلا يستطيعون التفكير إلا في النجاة من الموت، وهذا الشعور متجذّر في الثقافة اليهودية الحالية خاصة، كما يؤكد زيجمونت باومان ذو الأصول اليهودية البولندية، حيث يقول في كتابه "الحداثة والهولوكوست": "فاليهود يعيشون في عالم تطارده فكرة إمكانية وقوع محرقة جديدة، ومن بينهم في المقام الأول مَن يشعرون مرة أخرى بالخوف والذعر، وبالنسبة لكثيرين يبدو العالم مخيفا للغاية، ولا يوجد حدث محايد، فكل حدث يحمل في طياته الشر، ويحوي رسالة منذرة بالشر وموجهة نحو اليهود على نحو خاص".

الروائي والمخرج الأميركي بول أوستر
الروائي والمخرج الأميركي بول أوستر

هذه المشاعر يبدو أن أوستر قد تلقّفها من والديه، ثم أعاد بثها في أدبه، خاصة في تلك الرواية "في بلاد الأشياء الأخيرة" حيث تبدو مشاعر الخوف وفقدان السيطرة جلية في جميع أجزاء الرسالة التي كتبتها الشخصية اليهودية آنا بلوم، رغم أنها قد ذكرت للحاخام أنها لم تعد تؤمن بالله. وبالتالي عندما يسيطر الخوف واليأس على الإنسان فإنه يفقد إيمانه بالعالم وما خلفه، يكفر بكل القيم والمعايير الأخلاقية ويتمسّك فقط بحبل نجاته، مثلما يقول إميل سيوران:

"الخوف يعني أن تُفكِّر في نفسك باستمرار وأن تكون عاجزا عن تصوُّر مسار موضوعي للأحداث. الشعور بالرعب، الشعور بأن كل ما يحدث ضدك، تفترض عالما دون مخاطر محايدة. الإنسان المذعور -ضحية الذاتية المتضخمة- يرى نفسه، أكثر من أي أحد آخر، هدف المصائب العدائية.. لقد حقق أقصى درجة من درجات الوعي والاهتمام بالذات، فكل شيء يتآمر ضده".

من ثم تسيطر على ذلك الإنسان غريزة الدفاع عن الذات، وأن البقاء على قيد الحياة هو أهم شيء والقيمة العليا التي تُقلِّل من قيمة كل القيم الأخرى، بالتالي تنكمش ذاكرة ذلك الإنسان وتنحصر ذكرياته في مفهوم البقاء: "الحياة هي البقاء، والنجاح في الحياة هو البقاء فترة أطول من الآخرين. مَن يبقى يَفُز".

 

هذه الرؤية يهودية الجذور منتشرة في عدد كبير من الأعمال الأدبية والسينمائية، فعلى سبيل المثال في فيلم شبيلبرج "قائمة شندلر" (Schindler’s List) يقول باومان إن الفيلم قد حصر ذكرى مأساة الهولوكوست في وجه واحد وهو "البقاء على قيد الحياة، بينما جاءت القيمة الإنسانية وأهميتها الأخلاقية في المرتبة الثانية على أحسن تقدير، بل لم يكن لها أهمية على الإطلاق. فلم يُسمح أبدا للقيمة الأخلاقية بأن تتدخل في الأحداث المحورية. واعتنى هدف البقاء على قيد الحياة بالمخاوف الأخلاقية، وقام بتمزيقها، ودفعها بعيدا عن الأنظار حتى أصبح أهم شيء هو البقاء على قيد الحياة لمدة أطول من الآخرين، حتى وإن كان الهرب من الموت يتطلب الانضمام إلى قائمة منفصلة وفريدة وتضم أصحاب الامتيازات".

كذلك يتشابه فيلم "قائمة شندلر" بشكل كبير مع رواية "في بلاد الأشياء الأخيرة"، فالفيلم والرواية قد نحّيا أي أهمية للمعايير الأخلاقية ولقيمة النفس البشرية في مقابل تمجيد قيمة "النجاة"، وكلتا الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم والرواية يهودية تحمل عقدة "ذنب الناجين"، العقدة النفسية التي تظهر لدى هؤلاء الذين استطاعوا النجاة بعد الكوارث والحروب بينما مات أصدقاؤهم ورفقاؤهم. كما أن البطل في كلٍّ من الفيلم والرواية ينتمي إلى فئة الطبقة الأرستقراطية والأثرياء، الذين ركّز الفيلم والرواية على معاناتهم، بينما أضفى الشرور واستحقاق الموت والمعاناة على باقي الفئات التي تفضَّل عليهم هؤلاء النخبة وحاولوا مساعدتهم للنجاة فلم يستطيعوا إنقاذ إلا القليل.

 

ربما لا يقصد بول أوستر أن يُشبِّه بلاد الأشياء الأخيرة في روايته بالهولوكوست، لكن رائحة الخوف والانحياز تتضح في تحيُّز ذكريات "آنا بلوم" بشكل فج، فقد ركّزت رسالتها على ذكريات النجاة من الموت، وتبرير جميع أفعالها مع استبعاد أي معايير أخلاقية، تحت مبرر "النجاة من الموت" والهرب من "التهديد المحتمل". ولأنها فتاة مدللة لا تستحق المعاناة فقد قادتها المصادفات إلى أن تكون عضوة في مجموعة "عيادة ووبرن" الناجية بينما يقبع ملايين البؤساء في قاع المحرقة، في بلاد الأشياء الأخيرة.

المصادر

  1. في بلاد الأشياء الأخيرة، بول أوستر، ترجمة: شارل شهوان.
  2. بوابات أرض العدم، سمر يزبك.
  3. الحداثة السائلة، زيجمانت باومان، ترجمة حجاج أبو جبر.
  4. الحداثة والهولوكوست، زيجمانت باومان، ترجمة حجاج أبو جبر.