شعار قسم ميدان

أحمد خالد توفيق.. ملأ العقول بضجيج أفكاره ورحل بصمت!

midan - ahman khalid

"سوف أكتب عنك مقالا رائعا يوم يتوفاك الله.. سيكون مقالا مؤثرا يبكي كل من يقرؤه، وفي الوقت نفسه سيشعر الناس أنني حساس ومرهف"

    

هكذا خاطب أحمد خالد توفيق صديق طفولته أبهج، حينما كانا يسيران معا في يوم ممطر، فقد طالبه أحمد خالد توفيق -ساخرا- أن يموت؛ لأنه لا معنى لهذا المقال الذي ود كتابته إن ظل صديقه حيا[1].

         

رثاء أحمد خالد توفيق لأي شخص سيصبح رثاء مؤثرا، كثيف المعنى، خفيف الوطأة على النفس، كما اعتاد أن يكتب دائما، ورائعا كما تمنى توفيق في كتاباته أن يكون. ولكن، أن يُرثى أحمد خالد توفيق ذاته، فالحال ليس يسيرا، إنه في حقيقة الأمر رثاء لكاتب ملأ ذاكرة أجيال عدة بحكاياته، وأعاد تشكيل وجدانهم بسحر أبطال رواياته المليئة بعوالم من الخيال والآمال التي فتحت نوافذ وعبّدت طرقا حببت القارئ بالنظر إليها والعيش مع تفاصيلها، ولتشكل رشاقته الأدبية محفزا لجيل بأكمله نحو السير لعوالم القراءة، فكان المنطلق، وظل وقودا دافعا، ومرتكزا صلبا في وجدان قارئيه.
     

كان خبر وفاة الكاتب والروائي المصري أحمد خالد توفيق عن عمر يناهز الخامسة والخمسين عاما خبرا صادما لقرائه ومتابعيه، فقد خيم الحزن الصامت في نفوسهم، هذا الحزن الذي يعلن أن شخصا جميلا قد رحل، وأبقى خلفه شعورا بالوهن، فقد تمدد الحزن في المدينة -على حد تعبير صلاح عبد الصبور- حقيقة لا مجازا بفقدان أحمد خالد توفيق. ولكن هذا الحزن لم يسبِ الكنوز، فما زالت شخوص أبطال رواياته الخيالية كنوزا حيّة، لأن أبطال أحمد خالد توفيق مختلفون جدا؛ إنهم أبطال عاديون جدا، بل "كينونة" كما اعتاد تسميتهم، لتتولد تلك الكينونات في أجيال قرأت وتأثرت بأدب توفيق الذي أحاط واحتضن هذه الأجيال بكلماته وقصصه الشيقة.

        

     
أبطال أحمد خالد توفيق.. العاديون جدا

كانت صور أبطال أحمد خالد توفيق متناقضة تماما مع صورة البطل الخارق، القادم من عالم آخر، والذي لا يُهزم أبدا. فعلى النقيض من أبطال الكاتب نبيل فاروق في سلسلة "رجل المستحيل"، والذي صورهم كأبطال خارقين، وسيمين، ذوي شعور ناعمة، وعضلات كبيرة، يقدم لنا أحمد خالد توفيق بطلا يكسر هذا النمط(2)؛ ليجعل أبطاله عاديين جدا، لا يمتلكون أي ملمح من ملامح البطولة؛ فرفعت إسماعيل بطل سلسلة ما وراء الطبيعة، أستاذ أمراض الدم السابق، يقدمه كهلا عجوزا، ضعيف البنية، مُصابا بكل الأمراض، والذي يحاول برغم كل شيء أن يحتفظ بجسده قطعة كاملة، ليس لديه مزية سوى حيازته لعقل يفكر بشكل منطقي، ويتمكن من هزيمة الأشباح بقدر ما يمتلك من ثقافة، وبعض الحظ أحيانا(3).

   

وكذلك الحال مع عبير عبد الرحمن، بطلة سلسلة فانتازيا، فإنها تتميز بأنها لا تتميز بشيء، ولكنها تتمتع بخيال خصب. ليرينا أحمد خالد توفيق مواطنَ أخرى لجمال النفوس بمعايير وزوايا نظر مختلفة، كخفة الروح، وسعة الخيال (4)، في عالم أصبح الجمال فيه مظهرا، وجسدا، تحدده المعايير العالمية الباهتة.

   

أما علاء عبد العظيم بطل سلسلة سفاري، فقد كان استثناء، حيث هو البطل الأوحد من أبطال روايات أحمد خالد توفيق، ويقترب من صورة البطل التقليدي، فهو شاب مفعم بالطاقة والحيوية مقارنة برفعت إسماعيل، ولكن أحمد خالد توفيق لم يتركه دون أن يضفي عليه رؤيته الخاصة، فقد جعله ضعيف البصر وسيئ الحظ(5).

          

undefined

       

نقل توفيق بذلك عقل جيلي الثمانينيات والتسعينيات من بطولات الجاسوسية والأدب البوليسي إلى أدب الرعب المسكون بأفكار جديدة تفتح نوافذ على ثقافات مختلفة من العالم. وبينما خَفُت بريق البطولة في نفوس قرّاء روايات نبيل فاروق، ظل أبطال أحمد خالد توفيق أحياء في نفوس قرائه، لأنه لم يكن مسليا فحسب، ولم يكتفِ بتقديم مأدبة روايات رعب شهية ممتزجة بالحس الساخر، والمعلومات العلمية الدقيقة الشيقة، والمعرفة الواسعة التي تدفع المتلقي إلى الرغبة في الاستزادة دوما(6).

   

ولكن لأن أحمد خالد توفيق صاحب شخصية متواضعة للغاية فلم يقدم نفسه أكثر من شخص عادي جدا، وليس مثقفا منعزلا ومحلقا بعيدا عن قرائه في برج عاجي، ولا هو أديب يذهب إلى مجالس الأدباء منفصلا عن عوالم قرائه، ولكنه مثل قرائه يشاركهم تفاصيل حياته اليومية التي قد تشبه كثيرين حولنا، ولكنه كان مؤمنا بالشباب حقا ولم يخذلهم أبدا، وهذا ما لم يشبهه فيه كثيرون.

   

فحين كذّب الناس الشباب وخذلوهم، وقف هو بجانبهم يشجعهم، وآمن بهم حين كفر بهم الجميع، وكان لهم بمنزلة أب حنون حين نبذهم الجميع، وسجل بإنسانيته مواقف تفوق كثيرا من أقرانه في عالم الأدب.     

  

      

العبقري في كونه عاديا

"كنا نراه من خلال مقالاته وكتاباته وممارساته اليومية يبتاع الخضار قبل الرجوع لمنزله، ويذاكر لأبنائه الدروس، ويركب التاكسي المتهالك، يصادق عم حسين بواب بنايته، ويتحدث عن ميزانية البيت التي لا تكفي. يصحبنا معه في آلة الزمن ونرجع لأكثر من عشر سنوات مضت من خلال مفكرته التي سجل فيها مصاريف بيته بشكل يومي لكي يجيب عن السؤال الذي يتردد في كل شهر: كيف ذهب الراتب في داهية؟ ويشاركنا معه أمنيته الخاصة في ذلك الوقت أن ينال 800 جنيه شهريا، رغم ما كان يسجله في أعلى مفكرته: "أن 700 جنيه شهريا مبلغ كاف للنفقات"[7].

      

يحدثنا توفيق عن طفولته ومجلات سمير وميكي وسوبرمان والوطواط و"تان تان" تلك المجلة الفاتنة التي كانت دار الأهرام تترجمها، ولكنه وإن كان يشبه قراءه من الشباب في الاطلاع على هذه المجلات التي ساهمت في تكوين عقليته وعقليتهم، كان هو نفسه منذ بدأ مسيرة الكتابة والنشر منذ أوائل التسعينيات مساهما رئيسا في تشكيل عقلية الشباب في مصر ممن يهوون القراءة، أو من تلمسوا طريقها من خلال أعماله.

      

"كنا نعيش معه حكايات أصدقائه وخلافتهم الطفولية الساذجة، وشاركنا فترات مراهقته التي تقاطعت مع كثير منا: الشعور بالملل من المذاكرة، والهرب للكتب والتدثر بالحكايات، نقل لنا شغفه بكتابات تشيخوف ومكسيم غوركي ويوسف إدريس وغيرهم[8]، ونهمه الطاغي للقراءة الذي كان دافعه للكتابة ليخفف عنه ما يغتلي بداخله حتى لا ينفجر.
   

تصفح مدوناته، يعرض جانبا من مشاعره والمواقف المختلفة التي عايشها حينما وصل إلى سن الخامسة والأربعين، منها قوله الساخر: "إن أشنع اللحظات هي حين ترى فتاة حسناء تروق لك، فتتودد لها ليكون أول لقب تناديك به هو "يا عمو". هذه أقرب لصفعة على وجهي بلا شك".

        

     

كما رأيناه الأب الذي عانى من أزمة قلبية، وخشي على مصير أبنائه محمد ومريم وزوجته طبيبة أمراض الصدر بطب طنطا السيدة "منال". وحديثه الهادئ عن الموت الذي واجهه في إحدى أزمتيه القلبيتين التي تعرض لهما خلال عامي 2011 و2015 قبل أن يستجيب للقائه النهائي يوم الاثنين 2-4-2018 قائلا:

     

كان هذا هو الموت.. بدا لي بسيطا مختصرا وسريعا.. بهذه البساطة.. أنت هنا.. أنت لم تعد هنا.. والأغرب أنني لم أرَ أي شيء من تجربة الدنو من الموت "NDE" التي كتبت عنها مرارا.. تذكرت مقولة ساخرة قديمة هي إن عزاءك الوحيد إذا مت بعد الخامسة والأربعين هو أنك لم تمت شابا![9]

   

ظل أحمد خالد توفيق مقيما في طنطا، وفي أحد اللقاءات معه أشار إلى كراهيته للعيش في القاهرة بصخبها وزحامها، واصفا إياها بأنها مدينة الأضواء والأشباح، فقد كان بعيدا عن المركز سواء كمكان إقامة أو كعلاقته بدوائر السلطة والنفوذ، ويفخر بأنه هو من أتى بالقاهرة إليه، لا العكس[10].

    

فكان يرى أن بعده عن القاهرة والأضواء ملائم لطبيعته التي ترى البطولة في الظل، فهو -بحسب تعبيره- "يهوى دور المخرج لا الممثل، والملحن لا المغني"، فمنذ كتب شخصية رفعت إسماعيل تعمد عدم الظهور، وهذه الطباع وإن جنبته ضوضاء قد تفسد عليه مخيلته في الكتابة، أفقدته بعض الفرص لأن تخرج مؤلفاته ذات الصيت في أوساط الشباب كأعمال سينمائية[10].

        

كان الفشل هو بداية مشوار أحمد خالد توفيق في أولى خطواته نحو النشر، ولكنه أكد على أن أكثر خيباته في الطب لا الأدب، فقد كان الأدب هو متنفسه للخروج من الضغوط المعيشية
كان الفشل هو بداية مشوار أحمد خالد توفيق في أولى خطواته نحو النشر، ولكنه أكد على أن أكثر خيباته في الطب لا الأدب، فقد كان الأدب هو متنفسه للخروج من الضغوط المعيشية
  

وقد تأثرت كتاباته بعمله المهني كطبيب، فقد تخرج أحمد خالد توفيق في كلية طب طنطا عام 1985، وتخصص في طب المناطق الحارة عام 1997، فنلحظ أن أبطال رواياته مثل رفعت إسماعيل عمل طبيبا، وعلاء عبد العظيم بطل سافاري طبيب مصري يعمل في الكاميرون، ونتعرف من خلال السلسلة -التي بلغت أعدادها 160- على كثير من الأمراض الموجودة في المناطق الحارة وتاريخها وسبل علاجها.

  

أما مقالاته المنشورة في المواقع الإلكترونية المختلفة، كموقع "بص وطل" وموقع "إضاءات" وغيرهما، وعلى صفحات الجرائد كالدستور والتحرير، فقد حفلت هذه المقالات بأحاديث طبيب مصري مهموم لسوء النظام الطبي في مصر، وأزمات العلاج ومشاكل الأطباء وحقوق المرضى المهدرة.

  

وقد ذكر الدكتور توفيق أنه عمل فترة في مجال غير الطب وهو البرمجة حينما كان في السعودية كشاب مصري يبحث عن مورد رزق أكثر سعة، ويذكر أن مشروعه في مجال البرمجة الذي أقامه مع أصدقائه مر بتقلبات نجاح وفشل، لقد كانت أحاديث الإخفاق والفشل في مقالاته لا تشعرك بخيبة أو مرارة، وإنما تبصرك أنه لا بأس من المواصلة(10).

    

البداية مع أدب الخيال العلمي والرعب

كان الفشل هو بداية مشوار أحمد خالد توفيق في أولى خطواته نحو النشر، ولكنه أكد على أن أكثر خيباته في الطب لا الأدب، فقد كان الأدب هو متنفسه للخروج من الضغوط المعيشية، فلم يواجه في مشواره الأدبي بخيبات كبيرة إلا في البداية حينما تقدم إلى المؤسسة العربية الحديثة للنشر في عام 1992 بأول أعماله وهو "أسطورة مصاص الدماء"

     

undefined

  

ولكن المؤسسة العربية رفضت هذا العمل حينئذ؛ فقد رأت لجنة التحكيم أنه عمل مفكك وركيك وغامض، ونصحته اللجنة أن يتجه نحو الأدب البوليسي، ويترك أدب الرعب لأنه لم يكن معتادا وقتها، ولكن حمدي مصطفى مدير المؤسسة العربية الحديثة (التي ظلت تنشر أعماله لسنوات طويلة) ساعَده فيما بعد بأن عرض عمله على لجنة تحكيم أخرى تضمنت نبيل فاروق الذي رأى أن أسلوبه شيق وعمله جيد، لذا يرى أحمد خالد توفيق أن نبيل فاروق هو من قدمه للجمهور[11].

      

"الخطأ الثاني هو أنني انعزلت، وقرأت أكثر من اللازم، بينما كان زملائي يمارسون الحياة ولا يقرأون عنها".

(أحمد خالد توفيق)

     

لم يستجب توفيق لترك أدب الرعب، فقد تمثل سبب لجوئه إلى كتابة أدب الرعب هو عدم وجود ما يكفيه ذاتيا ويشبع خياله من هذا النوع من الأدب الفقير عربيا(12). بجانب ذلك يذكر أحمد خالد توفيق سببا آخر جعله يتجه إلى أدب الرعب وهو أنه كان طفلا انطوائيا لديه كثير من المخاوف والخيال، فكانت الكتابة على الورق هي وسيلته للتخلص من مخاوفه، والاغتسال منها، فقد كان أدب الرعب بمثابة الدائرة السحرية التي يحتمي خلفها هو وأسرته، "فمن يخيف الناس لا يخاف عادة".

    

   

الكتابة لعلاج الاضطرابات النفسية

أكّد أحمد خالد توفيق في آخر حواراته مع الكاتب عمر طاهر أن الكاتب الناجح لا يكتب من أجل الجماهيرية والشعبية، وإلا ستتحول مؤلفاته إلى ما يطلبه المستمعون، وذكر أن محرك الكتابة هو علاج الاضطرابات النفسية، أو لأجل المتعة والتسلية، أو لتضييع الوقت أحيانا[13].

   

وكان يرفض لقب "العراب" الذي أُطلق عليه قائلا: "العراب كلمة بتجنني، بتخليني بمكانة مش بتاعتي، الروب واسع عليا والعرش عالي عليا"، فقد كان يرى أن ما يكتبه شيء لا يستحق "الدوشة"، وأن الرواج لكتاباته في أوساط الشباب لا يعني عظمة المنتج ولا ينفي إبداعه، ويصف نفسه قائلا: أنا شخص يحاول أن يسلّيهم بأقل التنازلات.

   

ورغم أن توفيق رفض لقب "عراب" فإن قراءه استمروا في إطلاقه، حيث رأوا أن أدب توفيق لا يعبر عن مسارات حياتهم الحالية والمستقبلية فقط، بل يرسم شكل الحياة الحالية لجيلهم ويبرز الأجزاء الخفية من الوحدة والغربة والحنين الذي طالما شعروا به، وكانت قصص توفيق تسليتهم الوحيدة حينئذ.

     

     

أحمد خالد توفيق بظلال أخرى

كتب أحمد خالد توفيق ألوانا متعددة من الأدب، فبجانب العوالم الغرائبية، والتشويق، والفانتازيا التي أجاد كتابتها، التي قاربت أعدادها 236 عددا، قدّم الترجمة العربية الوحيدة لرواية نادي القتال للروائي الأميركي تشاك بولانيك، وله بعض التجارب الشعرية.

   

كما كتب في سنواته الأخيرة أدبا واقعيا سوداويا كرواية "يوتوبيا"، التي تدور حول الهواجس والمخاوف المستقبلية من الانقسام الطبقي الشنيع في مصر ما بين طبقة تعيش في مدينة منعزلة عن بقية الشعب في حراسة مشددة، وطبقة تُعامل كالحيوانات[14]. وروايته "السنجة" التي مزجت بين الفانتازيا والواقعية، وتدور أحداثها حول عصام الشرقاوي الكاتب المغمور الذي يذهب للعيش في دحديرة الشناوي كي يحاول أن يكتب شيئا واقعيا ناجحا، ويحاول أن يتعرف على أهل المنطقة الذين يكرهونه، ويحاول تفسير كلمة كتبتها فتاة على جدار بالبخاخ قبل انتحارها أمام قطار[15].

  

كما أصدر أحمد خالد توفيق مجموعات قصصية قصيرة مثل قوس قزح (التي كتبها باشتراك مع تامر إبراهيم)، والآن نفتح الصندوق، وعقل بلا جسد، وولد قليل الأدب، ثم ممر الفئران، وغيرها قصص كثيرة متناثرة في مواقع شبابية عديدة.

   

ومن ملامح إبداع أحمد خالد توفيق هي نجاحه في أن يجعل كل قرائه كأنهم عائلة واحدة كبيرة، فأنت كشاب تنتمي إلى جيل الثمانينيات أو التسعينيات إما مولع بأحمد خالد توفيق جدا أو تجهله تماما، هؤلاء المولعون به كانت تربطهم مواقف أبطاله الساخرة وعباراتهم الرشيقة التي كونت معجما متداولا بين مجتمع قرائه حتى اليوم، منها: خذ عندك مثلا، وسوف أحكي لك القصة يا سيدي، وأبرزها حديث رفعت إسماعيل لحبيبته ماجي الدائم قائلا:

– أحبك

– للأبد

– للأبد وحتى تحترق النجوم وتفنى العوالم وحتى…

وهكذا سيستمر جيل الشباب يتذكر أحمد خالد توفيق حتى تحترق النجوم وتفنى العوالم وحتى…

  

وانتصر للشباب!

ثمة إجماع من كثيرين على أن أجيال الشباب أجيال "عايزة الحرق"، ولكن أحمد خالد توفيق رأى في الشباب أملا خصبا. لم يكن يراهم مجموعة من الملائكة، أو حفنة من الشياطين، ولكنه كان يرى أنه وجيله ملّاحون فاشلون سلبوا الشباب أحلامه، واحتلوا المناصب، وحرموه أبسط الحقوق التي يمارسها أي قط في زقاق: الملجأ والزواج، وأعطوه سفينة غارقة نخرة امتلأت بالثقوب نُهب كل لوح خشب وكل مسمار فيها، وقالوا له إن عليه أن يتولى الإبحار بها بعدنا، وعلينا أن نترك قطعة خشب واحدة طافية ليتمسك بها من يأتون بعدنا[16].

 

أما أحمد خالد توفيق فقد اقترب من الشباب وعالمهم، كان يستشعر بالمسؤولية تجاههم، آمن بهم، توجه لهم خصيصا في أعماله، كبرت معه أجيال وكبُر معها، تطورت كتاباته ونضجت، يقول في أحد لقاءاته إنه لديه أصدقاء من الشباب من كافة الطبقات، ويحتفظ قلبه المجهد وحده بأسرار ألف شاب، لم يكن أحد منهم يحكي لوالده ما استودعه قلب الأستاذ.

    

    

وحينما تخاذل الجميع عن قول كلمة حق، فانتكست إنسانيتهم أمام أنهار الدماء التي سالت في مصر بعد الانقلاب العسكري، احتفظ توفيق لنفسه بموقف أخلاقي وإنساني رفيع، وعبر عنه بطريقته المعتادة البسيطة والتي لا تحمل أي موقف أيدولوجي، فقط موقف أخلاقي وإنساني، عندما اعتذر عن كتابة مقاله الدوري في ذكرى مذبحة رابعة العدوية.

    

وفي كتاباته الإلكترونية الرشيقة يعبر توفيق عن ما يمر به المجتمع المصري من تدنٍّ أخلاقي وفساد سياسي ومجتمعي تقف على رأسه منظمة الشرطة والحكم العسكري، فكتب:

رفعت إسماعيل.. إن حديث الشيوخ ممتع فعلا!

    

"أنا من النوع المكتئب جدا، وأجد أن الأمور بلغت قدرا رائعا من السواد.. لهذا أحلم.. كل شخصياتي هربت من واقعها.. إلى عالم الأشباح.. إلى فانتازيا.. إلى أحراش أفريقيا.. لم تبق شخصية واحدة هنا"

(أحمد خالد توفيق)

   

كانت كتابات توفيق مؤنسة في حالات الوحدة والاغتراب التي عايشها كثير من أبناء جيلي الثمانينيات والـتسعينيات، فقد وجدوا في رفعت إسماعيل الذي عاش سبعين عاما، يرتدي المعطف الكحلي، ويدخن السجائر، ويسعل دائما، وعرف العديد من القصص الغريبة، ملاذا آمنا لهم وشخصا يشبههم.

    

كانوا يتحلقون حول حكاياته وقد اتسعت عيونهم شوقا إلى القصة التالية، تنتهي القصة فتتضارب الآراء، البعض يصرخ، بعضهم يقول سخيفة.. هراء!، ويراه البعض الآخر مغامرا لا يشق له غبار، لكنهم جميعا يفتحون أفواههم "هلم، احك قصة أخرى، ولكن مرعبة هذه المرة، هل تسمعنا أيها العجوز؟

     

لا رثاء يمكن أن يليق بأحمد خالد توفيق، لا يوجد أمامنا سوى كلماته في رثاء رفعت إسماعيل، قد تبدو الأكثر ملاءمة لأن كليهما الغريب الذي لم نلقه أبدا والمألوف الذي أحببناه دوما
لا رثاء يمكن أن يليق بأحمد خالد توفيق، لا يوجد أمامنا سوى كلماته في رثاء رفعت إسماعيل، قد تبدو الأكثر ملاءمة لأن كليهما الغريب الذي لم نلقه أبدا والمألوف الذي أحببناه دوما
   

فيحكّ رفعت إسماعيل صلعته قائلا قصة جديدة". لنعرف من خلال رفعت أن حديث الشيوخ قد يكون حديثا ممتعا فعلا. كان أغلب قرائه من هؤلاء الأطفال والمراهقين الذين لا ينامون الليل إلا وهم متدثرون بحكايات الرعب، هذا النوع الذي يراه رفعت لا يمكن إفزاعه على كل حال؛ لأنه مرعب بما يكفي.

     

شخصية رفعت إسماعيل هي الأقرب إلى شخص أحمد خالد توفيق، ليس في المهنة فحسب، وإنما في تفاصيل عدة، كالتدخين بشراهة، والتوتر الداخلي، إلا أن أحمد خالد توفيق لم يكن يحب الوحدة، فقد عبر أحمد خالد توفيق عن حزنه لوفاة رفعت وحيدا.

 

كان اختيار أحمد خالد توفيق أن ينهي سلسلة ما وراء الطبيعة بعددها الـثمانين "أسطورة الأساطير" بموت رفعت إسماعيل، خشية أن تصبح مملة سخيفة، فقضى عليه استباقا لهذه اللحظة. ليتشابها معا رفعت وأحمد خالد؛ فقد تمنى أحمد خالد توفيق في إحدى مقالاته أن تقبض روحه قبل أن يتحدث عن الأيام الحالية باعتبارها كانت أيام ترف وعز لما هو قادم[17]. فتعجل الموت استباقا لهذه اللحظة كما استبق هو موت رفعت قبل أن يصبح مملا، مما أثار غضب كثير من قرائه الشباب.

   

لا رثاء يمكن أن يليق بأحمد خالد توفيق، لا يوجد أمامنا سوى كلماته في رثاء رفعت إسماعيل، قد تبدو الأكثر ملاءمة لأن كليهما الغريب الذي لم نلقه أبدا والمألوف الذي أحببناه دوما.

  

لقد أخذ أحمد خالد توفيق بأيدينا وحملنا على مهل، ليرينا عوالم جديدة نكتشفها معه للمرة الأولى، كان يطلعنا على عالمنا الخاص الذي لا نُحسن التعبير عنه، ويجعلنا نضحك من أنفسنا، ونطمئن لكفٍّ آمن في العالم يجوب بنا القارات والبلدان ويملؤنا بالحكايات، ويخفف عنا ثقل الممل ووطأة الانكسار.

     

  

 وداعًا أيها الغريب ..

كانت إقامتك قصيرة، لكنها كانت رائعة.

عسى أن تجد جنتك التي فتشت عنها كثيرًا.

وداعا أيها الغريب ..

كانت زيارتك رقصة من رقصات الظل..

قطرة من قطرات الندى قبل شروق الشمس..

لحنًا سمعناه لثوان من الدغل

ثم هززنا رؤوسنا وقلنا أننا توهمناه.

وداعًا أيها الغريب ..

لكن كل شيء ينتهي!

أيها الغريب.. لروحك السلام