شعار قسم ميدان

رضي الدين الرّحبي.. ماذا تعرف عن الطبيب الذي أفنى مئة عام في خدمة المرضى والسلاطين؟

ميدان - رضي الدين الرحبي

 

اضغط للاستماع

   

"إن جميع مَن قرأ عليّ ولازمني سُعدوا وانتفع الناس بهم… قد تميزوا واشتهروا في صناعة الطب، منهم مَن قد مات، ومنهم مَن كان بعدُ في الحياة".

(رضي الدين الرحبي واصفا تلاميذه)

   

في تاريخ الحضارة الإسلامية أسماء لامعة نالت قدرا عاليا من الشهرة والانتشار والذيوع حتى يومنا هذا، فلا تسمع الرازي إلا ويأتي في الأذهان نبوغه الطبي وذكاؤه في اختيار مواضع المستشفيات في عصره، وابن خلدون ونبوغه التاريخي والاجتماعي، والشافعي بنبوغه الأصولي والفقهي، والزهراوي بنبوغه في علم الجراحة واختراع أدواتها، ومئات بل آلاف غيرهم ساروا على الدرب ذاته، إلا أن هناك آخرين تواروا في بطون المؤلفات والكتب والتاريخ، وكانوا على القدر ذاته من الشهرة والمكانة، وبذلوا أعمارهم في خدمة الحضارة والعمران والإنسان.

  

وهؤلاء تستحق سيرهم أن يُنقِّب عنها المنقبون، وأن يُفردوها بالحديث والتوضيح والبيان، وأن يُكشف عن أسرارها لجماهير الناس، لا سيما من أبناء الحضارة الإسلامية حتى يعرفوا إلى أي مدى بلغ أجدادهم مكانا مرموقا آنذاك، ولعل من هؤلاء النابغين الذين أوتوا عمرا طويلا رجلا كان سليل أسرة علمية وطبية استمر عطاؤها الطبي على المستويين العملي والنظري طوال قرنين كاملين، ذلك هو الشيخ الطبيب رضي الدين الرحبي، طبيب الملوك والسلاطين، فأين عاش وتعلّم؟ وما أبرز ما قدّمه للطب وعلومه في عصره؟ ولماذا حرص السلطان صلاح الدين الأيوبي وأخوه العادل الأيوبي على الاستفادة من علومه وخدماته؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.

    undefined

    

تلمذة وترحال وعشق لدمشق

في منطقة جزيرة ابن عُمر شمال الموصل، التي تقع ضمن الحدود الجنوبية لتركيا اليوم، وُلد رضي الدين أبو الحجاج يوسف بن حيدرة بن الحسين الرحبي، في شهور عام 534هـ/1140م لأب تعود أصوله إلى مدينة الرحبة التي تقع قلعتها على الضفة الشرقية من نهر الفرات شمال مدينة دير الزور السورية اليوم، نشأ محبا ومتخصصا في علم الكحالة (طب العيون والرمد)، ونال شهرة لا بأس بها في عصره، وعلى يد والده تعلّم رضي الدين يوسف مبادئ صنعة الطب واستهوته، وحرص على النبوغ فيها، وتعلّمها على أيدي كبار علمائها في أي الأقطار والبلدان كانوا.

  

ولهذا الغرض، سافر الرحبي إلى نصّيبين (جنوب تركيا) فتعلّم على شيوخها، ثم إلى بغداد التي بجوار تعلُّم الطب على كبار علمائها وشيوخها فقد بدأ في ممارسة هذه المهنة ومهر فيها، وتميّز بحاسة نقدية عالية، وقدرة على تمييز الصحيح من الضعيف الذي لا يتوافق مع البحث العلمي، فقد اجتمع يوما بأحد علماء بغداد وهو أمين الدين بن التلميذ، فأخبره ابن التلميذ أن "في السماء من الجانب الجنوبي مثقبا تطلعُ فيه الأدخنة، وتنزل منه الأرواح، وبدت منه أشياء كثيرة من هذا القبيل"، الأمر الذي جعل الرحبي يصفه بأنه "ليس عنده شيء من تحقيق العلم ولا له فطرة سليمة"[1].

  

انتقل الرحبي من بغداد إلى القاهرة التي مكث بها بعض الوقت متعلِّما على كبار أطبائها، ومنها انتقل إلى دمشق التي حطّ رحاله فيها مع والده في عام 555هـ/1160م وكان السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي يحكمها مع معظم بلاد الشام حينذاك، هنالك أحب الرحبي دمشق، وقرّر المكوث فيها، وقد صادف أن السلطان نور الدين قد شرع في بناء سلسلة المستشفيات "البيمارستانات" النورية المنسوبة إليه في كل من دمشق وحلب وغيرها، فعمل الرحبي في بيمارستان دمشق، واستغل شهرة العديد من أطبائها الذين تعلّم على أيديهم، وعلى رأسهم الطبيب الشهير آنذاك مهذب الدين بن النقاش الذي "لازمه فنوّه بذكره وقدّمه" إلى عِلية القوم والأمراء كما يذكر ابن أبي أُصيبعة في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء". 

   

 undefined

  

وفي دمشق وبجوار التعلم وامتهان الطب، عكف الرحبي على قراءة كل ما وصلت إليه يداه من علوم الطب، ونسخها بيده في وقت لم يعرف الناس فيه الطباعة، وسرعان ما اشتهر الرحبي كأحد ألمع أطباء دمشق، ويبدو أنه عالج نور الدين محمود في بعض المرات، حتى استُدعي في مرض وفاته؛ إذ توفي بداء "الخوانيق"، وهو مرض يمتنع معه نفوذ النفس إلى الرئة والقلب، وكان الرحبي من الشاهدين على وفاة السلطان نور الدين محمود حيث يقول: "اسْتُدْعينا، فدخلنا عليه ونحن جماعةٌ من الأطباء وهو في قلعة دمشق في بيت صغير كان يتعبَّد فيه، وقد استحكم منه المرض، واستولى الخوانيق على حلقِه فما كان يُسمع منه صوت، فشرعنا في مداواته، فلم ينجع فيه الدَّواء مع حضور أجله"[2].

  

وبسبب هذه الشهرة والمكانة الطبية العالية فقد زكّاه شيخه وأستاذه مهذب الدين بن النقاش لدى السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي الذي "حسُن موقعه عنده، وأطلق له في كل شهر ثلاثين دينارا (من 5 إلى 6 آلاف دولار أميركي) ويكون ملازما للقلعة والبيمارستان"[3]. وبهذا صار رضي الدين الرحبي أحد أكبر وأجلّ أطباء دمشق، عاملا في مكانين إستراتيجيين؛ في قلعة الحكم في المدينة، وفي المستشفى النوري، وهو أكبر مستشفياتها وأعظمها على الإطلاق آنذاك.

    

ولقد استهوت دمشق رضي الدين للغاية حتى ولِهَ بها وأحبّها، وطلب منه السلطان صلاح الدين الأيوبي أن يكون طبيبه الخاص في بعض أسفاره فلم يرضَ، وحين توفي صلاح الدين وارتقى أخوه العادل أبو بكر بن أيوب إلى سلطنة الدولة الأيوبية، أبقاه على مكانته ووظيفته كبيرا للأطباء في قلعة دمشق والبيمارستان النوري، بل إنه أراده أن يكون طبيبه الخاص في أسفاره ورحلاته، الأمر الذي رفضه الرحبي، وطلب أن يبقى في دمشق على عادته، فاحترم السلطان العادل رغبته وتركه كما أراد[4].

    

شيخ الأطباء لنصف قرن!

undefined

  

ويوما وراء آخر، ومع موت كثير من شيوخه وتسلُّمه زمام الراية الطبية، صار الرحبي منذ النصف الثاني من القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي "شيخ الطب بالشام، له القدم والاشتهارُ عند الخاصّ والعام، ولم يزل مُبجّلا عند الملوك، وكان كبير النفس، عالي الهمّة، كثير التحقيق، حسن السيرة، محبّا للخير، عديم الأذية"[5]، كما يقول العلامة الذهبي في كتابه "تاريخ الإسلام".

    

ولدينا بعض الأخبار والنتف القليلة عن ذكائه وحدسه الطبي، وقدرته اللافتة على التشخيص الصحيح للمرضى، فقد اشتكى إليه الوزير الأيوبي صفي الدين بن شُكر وزير الملك العادل الأيوبي (ت 615هـ/1213م) أن لونه شاحب طوال الوقت، وكان الأطباء يصفون له كثيرا من الأدوية وغيرها فلم تنفع معه، فاستمع منه عن عادته الغذائية، فلما فحصها ودققها جيدا وعرف أنه لا يأكل إلا الدجاج ولا يعدل عن غيره من اللحوم، قال له: "الزم لحمَ الضأن وقد ظهر لونُك، ألا ترى إلى لون هذا اللحم (الضأن) ولون هذا اللحم (الدجاج)؟، قال: فلزمه فصلَح لونُه واعتدلَ مزاجُه؛ لأن لحم الضأن يتولّد منه دمٌ متين بخلاف الدجاج"[6].

    

بقي الرحبي شيخ الأطباء في دمشق، وظل كبير أطباء المستشفى النوري في زمن المعظّم عيسى بن العادل الأيوبي ملك الشام (ت 624هـ/1227م) الذي قرّر تخفيض راتبه إلى النصف ليصبح 15 دينارا ( ألفين دولار تقريبا)، ورغم ذلك بقي الرحبي يؤدّي مهامه في التدريس والتعليم والتشخيص ومعالجة المرضى دون كلل.

   

      undefined

    

وكانت دروسه الطبية تقوم على قسمين، النظري والعملي، وقد أخبرنا تلميذه الشهير أبو العباس بن أبي أُصيبعة (ت 668هـ/1270م) صاحب الموسوعة التاريخية "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" أن شيخه الرحبي كان يُدرّس الجانب العملي من عدة مؤلفات طبية أشهرها من مقالات ومؤلفات طبيب الحضارة الشهير أبي بكر محمـد بن زكريا الرازي (ت 313هـ/925م)، ويؤكد ابن أبي أُصيبعة أنه انتفع بهذه الدراسة والخبرة على يد الشيخ الذي كان قد بلغ التسعين من عمره آنذاك سنة 623هـ.

  

وقد انتفع الرحبي بمعارفه الطبية، والتزم بها التزاما لافتا على نفسه، وكان لا يأكل الطعام قبل أوانه، ويوصي الطبّاخات الماهرات باستخدام أجودها وأنفعها لبدنه وصحته، فإذا حضر أحد الضيوف إلى منزله واستأذنته الطباخة لإحضار الطعام كان يقول لها: "أخّريه فإن الشهوة لم تصدق بعدُ، فتؤخره إلى أن يستدعيه ويقول أعجلي، فتأتيه ويتناول منه. فقال له بعض أصحابه يوما، ما المراد بهذا؟ فقال: الأكل مع الشهوة (الجوع) هو المندوب إليه لحفظ الصحة، فإن الأعضاء إذا احتاجت إلى تعويض ما تحلل منها استدعت ذلك من المعدة، فتستدعيه المعدة من خارج، فقال له وما ثمرة ذلك (نتائجه)؟، قال له: أن يعيش الإنسان العمر الطبيعي. فقال له: إنك قد بلغت من السن ما لم يبقَ بينك وبين العمر الطبيعي إلا القليل، فأيّ الحاجة إلى هذا التكلّف؟ فقال: لأُبقي ذلك القليل فوق الأرض، أستنشق الهواء وأجرع الماء، ولا أكون تحتها بسوء التدبير"[7].

  

وهذا النهج الصحي كان الرحبي يُوصي به تلاميذه ويُلزمهم به، وينتقد الآراء الطبية التي سبقته والتي تقول عكس ذلك، فابن أبي أصيبعة يقول إنه كان يقرأ على أستاذه الرحبي قول الرازي في ترتيب تناول الأغذية، وقد ذكر أن الإنسان يجب أن يأكل في اليوم مرتين أو مرة واحدة فقط، "فقال لي: لا تسمع هذا، والذي ينبغي أن تعتمد عليه أنك تأكل وقت تكون الشهوة للأكل صادقة في أي وقت كان، سواء أكان مرتين في النهار أو مرة أو ليل أو نهار، فالأكل عند الشهوة الصادقة للأكل هو الذي ينفع، وإذا لم يكن كذلك فإنه مضرّة البدن. وصدق في قوله"[8].

  

undefined         

ويبدو أن الرحبي كان يتبع أسلوب الوقاية والراحة والأكل الصحي بديلا عن العلاج والأدوية، منظما لمواعيده ويومه، لديه القدرة على الفصل التام بين أيام العمل وأيام العطلات والراحة، فكان يوم الجمعة هو اليوم الذي يُخصِّصه لزياة الأصدقاء والكبراء والأعيان، ويوم السبت للخروج إلى بستانه خارج دمشق للاستجمام وطلب الهدوء، وكان يحضُّ على عدم إهلاك البدن في المجهود الزائد الذي يصفه بـ "منشار العمر" مثل كثرة صعود السلالم!

  

نهاية على أعتاب المائة!

ولأن الرحبي ظلّ متربعا على عرش مشيخة الطب والأستاذية فيه طوال عقود طويلة، متمتعا بعمر مديد قارب القرن من الزمان، فقد تتلمذ على يديه كثير من الأطباء الذين صاروا ملء السمع والبصر فيما بعد، بلغوا المراتب العالية علميا وطبيا وجماهيريا في حياة شيخهم الرحبي الذي يقول بلسانه: "إن جميع مَن قرأ عليّ ولازمني فإنهم سعدوا وانتفع الناس بهم… قد تميزوا واشتهروا في صناعة الطب، منهم مَن قد مات، ومنهم مَن كان بعدُ في الحياة"، وقد صدّق الطبيب والمؤرخ ابن أبي أصيبعة على مقالة شيخه الرحبي قائلا: "ولا شكّ أن من المشايخ مَن يكون للاشتغال عليه بركة وسعد كما يوجد ذلك في بعض الكُتب المصنفة دون غيرها"[9].

    

عاش الرحبي سبعا وتسعين سنة، وقد توفي يوم عاشوراء المحرم سنة 634هـ/سبتمبر/أيلول 1236م، بعد مرض سريع استمر به شهرا، لكن لم يؤثر ذلك على سمعه وبصره، وظل حتى أواخر أيامه على ذاكرة قوية، مع نسيان للأحداث القريبة، وخلّف ولدين شرف الدين علي الرحبي وجمال الدين عثمان الرحبي، وكلاهما كان طبيبا من كبار ومشاهير الأطباء في عصرهم، حيث أكملوا مسيرة الأسرة الرحبية في ميدان الطب بأقسامه المختلفة، تلك الأسرة التي استمر باعها ما يقرب من القرنين من الزمان!

المصدر : الجزيرة