شعار قسم ميدان

المسترشد العبّاسي.. قتيل "استقلال" الخلافة!

ميدان - معركة
عانت الدولة العباسية (132 – 656هـ/749 – 1258م) منذ القرن الثالث الهجري من سيطرة الأوصياء من الأمراء العسكريين على مقاليد الأمور بها، وأدى ذلك إلى تدهور أفضى إلى سرعة انقضاض بعض القوى الخارجية على مقاليد الأمور، وقد بدأ ذلك على يد البويهيين القادمين من شمال فارس، ثم السلاجقة الذين التجأ إليهم العباسيون لتخليصهم من نير الاستبداد البويهيّ، وهو ما تم بالفعل؛ لكن سرعان ما أسس السلاجقة لأنفسهم زعامة جديدة، أعادوا من خلالها الوصاية على الخلافة والخليفة، فصار الخليفة تابعًا من جديد للسلطان!

 

وأمام تلك التطورات سعى بعض الخلفاء للاستقلال من تلك الهيمنة التي تطاولت لعقود من الزمن، كان أكثر ما يستطيع الخليفة فعله هو السيطرة على دور الخلافة وقصورها، مع إبقاء السلاطين البويهيين والسلاجقة على بعض البروتوكولات الشكلية التي تحفظ شكل الخلافة فقط، ولا شأن له بمقاليد السياسة وشؤون الجيش وهي لب الحكم، وقانون السيطرة، ومن جملة هؤلاء الخلفاء الذين حاولوا الظهور بمظهر الاستقلال، والانفكاك -من عقدة السيطرة السلجوقية على مقاليد الأمور- الخليفة العباسي المسترشد بالله.

 

من هو المسترشد؟

هو أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم عبد الله بن القادر العباسي، ولد المسترشد في بغداد في خلافة جدّه المقتدي سنة (486هـ/1093م)، وخُطب له بولاية العهد وهو لا يزال صغيرًا.

 undefined

نشأ المسترشد بالله في كنف والده المستظهر بالله، وكان أحب أولاده إليه؛ لذا نال حظًا وافرًا من العلم على يد مؤدّبه الخاصّ الشيخ أبو البركات أحمد بن عبد الوهاب السّيبي، وكان السيبي من كبار رجال الحديث في عصره[1]. حفظ المسترشد القرآن وتعلم الحديث وحفظ بعض متونه، فضلا عن الكثير من أشعار العرب وآدابهم؛ حتى كان له "خط بديع، ونثر صنيع، ونظم جيد"[2]، وقد "كان يتنسّك في أول زمنه، ويلبسُ الصوف، ويتعبد، وختم القرآن، وتفقّه، لم يكن في الخلفاء من كتبَ أحسن منه، وكان يستدرك على كُتّابه، ويصلح أغاليط في كتبهم"[3]. لذا نشأ المسترشد في بيئة شرعية، مع نباهة ذكر، وذكاء واضح.

 

ومن ثم فإننا نفهم من هذه التنشئة رجاحة عقله وشجاعته، وهذه الصفات العلمية والخلقية كان لها شأنها فيما بعد حين حاول السيطرة على العراق، والاستقلال من عقدة السلاجقة.

 

وفي ربيع الآخر من عام (512هـ/1118م) توفي والده الخليفة المستظهر بأمر الله، وكان قد عهد بالخلافة من بعده لابنه الفضل الملقَّب بالمسترشد بالله، ولقد بايعه بالخلافة جل إخوته وأعمامه وأقاربه وكبار رجال دولته[4].

 

الخليفة يستغل الخلاف السلجوقي

كان سلطان السلاجقة في عهد الخليفة المسترشد بالله هو محمود بن محمد بن ملِكْشَاه، وكان هذا السلطان قد ارتقى السلطنة على غير رضًا من عمه سنجر بن ملكشاه -الذي كان سلطان خراسان وبلاد المشرق فيما وراء النهرين وكبير الأسرة السلجوقية- ذلك أن محمود لم يقبل بسلطنة أخيه الأصغر؛ بل إنه توجّه لقتاله في العراق، وتمكن بالفعل من انتزاع الملك منه في منتصف عام 513هـ، لكن السلطان الأكبر سنجر رفض هذا الخروج من محمود، فتقابل بجيشه معه في معركة فاصلة في منطقة الري بإيران، وبالفعل انتصر سنجر، إلا أنه تصالح مع ابن أخيه على شروط بينهما. هذا الخلاف السلجوقي السلجوقي، كان في الحقيقة البداية المبكرة لتفتت الدولة السلجوقية إلى دويلات، ومناطق متناحرة[5]، ففي العام نفسه تمرد الأمير مسعود بن محمد أخو السلطان محمود، وكان أميرا للموصل وأذربيجان وديار بكر، وقد واجهه مسعود، وسرعان ما هزمه فاضطر إلى الإذعان لطاعة السلطان محمود[6].
 

تمادى الخليفة المسترشد في تحدّيه لقوة السلاجقة حين خرج بنفسه لمواجهة أحد المتمردين من العُربان في العراق  في مرتين متواليتين، وكان هذا المتمرد متحالفًا مع السلاجقة، مطيعا لهم
تمادى الخليفة المسترشد في تحدّيه لقوة السلاجقة حين خرج بنفسه لمواجهة أحد المتمردين من العُربان في العراق  في مرتين متواليتين، وكان هذا المتمرد متحالفًا مع السلاجقة، مطيعا لهم
 

حاول الخليفة العباسي الجديد المسترشد بالله أن يستغل هذا الصراع السلجوقي الداخلي لصالحه، ففي غفلة من هؤلاء المتصارعين بدأ المسترشد بتكوين جيش قادر على الدفاع عن مصالح العباسيين، ولم يكونوا يملكون مثل هذا الجيش منذ سيطرة البويهيين ومن بعدهم السلاجقة الذين تولوا زمام هذا الأمر[7].

 

بيد أن هذه القوة العسكرية الجديدة للعباسيين دفعت السلاجقة إلى الحذر من تحركات الخليفة وأهدافه المعلنة الساعية إلى الاستقلال، وقد تمادى الخليفة المسترشد في تحدّيه لقوة السلاجقة حين خرج بنفسه لمواجهة أحد المتمردين من العُربان في العراق وهو دُبيس بن صدقة في مرتين متواليتين، وكان دبُيس هذا متحالفًا مع السلاجقة، مطيعا لهم، لكن الخليفة المسترشد تمكن من هزيمته في المواجهتين، الأمر الذي استغله الوشاة في إفساد العلاقة مع السلاجقة، وكان من جملة هؤلاء الوشاة رئيس شرطة بغداد "الشحنة" سعد الدولة يرنقش الزكوي، ذلك الرجل الذي كان تابعا للسلاجقة، وقد خرج على عجل من بغداد إلى السلطان محمود السلجوقي في همدان، فاجتمع به، وحذّره من مغبة تحركات الخليفة العباسي، وأهدافه الخطرة، "وإن لم يُدبّر الأمر في حسم ذلك، واتسع الخرق، وصعب الأمر" فإن الخطورة ستكون أفدح؛ لأن الخليفة المسترشد "قد كاتبَ أمراء الأطراف وجميع العرب والأكراد؛ فحصل في نفس السلطان من ذلك ما دعاه إلى دخول بغداد"[8].

 

عزم السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه على دخول بغداد بالقوة، والبقاء بها فترة لإرغام الخليفة على التبعية له من جديد، وتأديبه على هذه التحركات المناوئة للسلاجقة في العراق، على أن الخليفة حاول مواجهة السلطان ببعض الإجراءات القاصرة، فقد حسب المسترشد أنه بانتصاريه السابقين على متمرد صغير في العراق قادر على مواجهة السلطان السلجوقي الذي يملك المال والعتاد والجيش الأقوى في غرب آسيا، ومع ما قام به الخليفة من إجراءات أمنية في العاصمة بغداد، وتحصينها بالحواجز والمتاريس والخنادق، وإعلانه التعبئة العامة من الجنود، وكان ذلك بالتزامن مع عيد الأضحى لعام 520هـ؛ فإن ذلك اضطر السلطان إلى الإسراع إلى بغداد قبل استفحال أمر الخليفة!

 

لقد كان ثمة ما دفع السلطان السلجوقي إلى التحرك، حين أرسل المسترشد بعض جيشه العباسي إلى جنوب بغداد للاستيلاء على مدينة واسط التي كانت تخضع للسلاجقة، إلا أن أمير الموصل عماد الدين زنكي الذي كان مواليًا للسلاجقة آنذاك تمكن من صد الجيش العباسي، والانتصار عليه في المعركة التي دارت بين الطرفين عند مشارف واسط. وفي العشرين من ذي الحجة من عام (520هـ/1127م) وصل السلطان السلجوقي إلى بغداد وأرسل إلى الخليفة طالبا منه الإذعان، وهو الأمر الذي قابله المسترشد بالرفض القاطع[9].

 

والمتأمل في شخصية المسترشد بالله يجده خليفة مغامرًا متسرعًا في بعض الأوقات، لقد نسي الرجل حجمه الحقيقي أمام القوة السلجوقية التي كانت أعظم قوة في مشرق العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن السادس الهجري؛ لكن المسترشد حاول جاهدًا تخطي الحاجز النفسي، تلك الخطوط الحمراء التي فُرضت على العباسيين منذ ثلاثة قرون، ففي خطبة العيد في تلك السنة يقف المسترشد على المنبر معرّضًا بالسلطان محمود السلجوقي، بخطبة جاء فيها: "هيهاتَ هيهات كم اخترمت المنية قبلَكم، وساقت إلى الأرماس (الموت) من كان أشدّ منكم ومثلكم"[10]!
 

يوم عاشوراء من عام (521هـ/1128م) هدأت المعركة بين الطرفين، وتُوسط في الصلح بين الخليفة والسلطان محمود، وقَبل السلطانُ هذا الصلح، وارتضى كل ما اقترحه عليه الخليفة
يوم عاشوراء من عام (521هـ/1128م) هدأت المعركة بين الطرفين، وتُوسط في الصلح بين الخليفة والسلطان محمود، وقَبل السلطانُ هذا الصلح، وارتضى كل ما اقترحه عليه الخليفة

في المقابل أسرع السلطان السلجوقي بدخول بغداد الشرقية، وتلطف مع الخليفة وحاول أن يرجعه ويثنيه عن عزمه، وقد تخلل ذلك رمي بالسهام بين عامة بغداد الموالين للخليفة وبعض جنودها وبين عساكر السلاجقة[11].

 

وقد حميت المعركة بين الجانبين، واستمرت عدة أيام حتى جاء يوم عاشوراء من عام (521هـ/1128م)، وقد هدأت حدتها، وتُوسط في الصلح بين الخليفة والسلطان، وقَبل السلطانُ هذا الصلح، وارتضى كل ما اقترحه عليه الخليفة، حتى إن ابن الجوزي يتعجب من ضعف السلطان محمود يومئذ بقوله "فما رُئي سلطان قد حاصر بلدًا فكان هو المحاصَر إلا هذا"[12]!

 

لكن في حقيقة الأمر الذي أذعن للصلح هو الخليفة؛ لأنه برغم الهزيمة المباغتة التي تلقاها الجيش السلجوقي، فإنه طلب المدد العسكري من البصرة بمعاونة الأمير عماد الدين زنكي الذي غير من مجريات المواجهة وقد "اعتزم السلطان على قتال بغداد وأذعن المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا وأقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين ومرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان"[13].

 

في عام (525هـ/1131م) توفي السلطان محمود مخلفًا وراءه ابنه الصغير داود، مما جعل العراق مطمعًا للقوى السلجوقية الأخرى مثل سنجر بن ملكشاه كبير السلاجقة وآخر عظمائها، وإخوة محمود وفي مقدمتهم طغرل ومسعود وسُلجوقشاه، لقد رأى هؤلاء أن الإسراع في السيطرة على بغداد، ومبايعة الخليفة لهم، إنما تعني السيطرة على كامل العراق؛ بل كامل دولة السلاجقة في إيران، ولربما تكون سببًا في عودة المجد السلجوقي أيام جدودهم ألب أرسلان وملكشاه، تحت زعامة جديدة موحّدة.

لذا وأمام هذا التحدي الجديد، والخطر الداهم رأى الخليفة العباسي الاستعانة بفريق ضد الآخر، وقد وقع اختياره على الأمير مسعود خوفًا من قوة السلطان سنجر، وبالرغم من ذلك فقد انهزم تحالف الخليفة مع مسعود أمام سنجر، الذي دعمه في تلك المواجهة أقوى اللاعبين العسكريين في العراق: عماد الدين زنكي ودُبيس بن صدقة، وقد حاول الرجلان بالنيابة عن سنجر التوجه صوب بغداد بعد هزيمة الخليفة والسيطرة عليها؛ لكن المسترشد أبدى شجاعة فائقة، وثباتًا كبيرا في المواجهة والمدافعة، وهو ما تكلل بانتصاره عليهما، وهزيمتهما هزيمة ساحقة[14].
 

حين دخل
حين دخل "مسعود إلى بغداد وصادف من الخليفة المسترشد فساد الرأي في السلطان طغرل، فعقد له السلطنة وشهدت الشهودُ عليهما، وأنزله الخليفة في دار السلطنة وخطب له في آخر جمعة من المحرّم" (مواقع التواصل)


كان من الطبيعي في ظل موازين القوى هذه، وتقاطع المصالح السياسية والعسكرية بين الأطراف المختلفة أن يميل الخليفة إلى مسعود بن محمد بن ملكشاه على حساب أخيه السلطان طغرل الذي كان مواليًا لعمه القوي السلطان سنجر، ولأن علاقته بطغرل كانت سيئة يملؤها الشك؛ ذلك أن طغرل حاول دخول بغداد والسيطرة على دار المملكة السلجوقية بها، تلك الدار التي كانت رمز الوصاية السلجوقية على العباسيين، وفي همذان سنة (526هـ/1132م) جاءته سفارة من الخليفة العباسي المسترشد تشترط عليه عدة شروط، لم يوافق عليها طغرل الأمر الذي رأى فيه المسترشد أن مصلحته ستكون مع أخيه مسعود
[15].

 

وحين دخل "مسعود إلى بغداد وصادف من الخليفة المسترشد فساد الرأي في السلطان طغرل، فعقد له السلطنة وشهدت الشهودُ عليهما، وأنزله الخليفة في دار السلطنة وخطب له في آخر جمعة من المحرّم"[16] من عام (527هـ/1133م). ويبدو أن فورة الحماسة التي بات عليها المسترشد جعلته مندفعًا متحمسًا لمواجهة كل من يثير غضبه وحنقه، ففي أواخر عام 526هـ، أعلن الخليفة عداءه للسلطان سنجر؛ بل إنه طرد ابنته التي كانت زوجة أبيه المستظهر من بغداد دون أن يرى ردة فعل من سنجر[17]!

 

أصبح المسترشد أقوى من الوالي السلجوقي في العراق لأول مرة بعد دخول السلاجقة واستيلائهم على العراق منذ القرن تقريبًا، وهي قوة لا شك أنها هددت من نفوذ السلطان مسعود السلجوقي سلطان السلاجقة الجديد

ولقد أصرَّ الخليفة على المسير باتجاه الموصل سنة 527هـ لتأديب أميرها عماد الدين زنكي الموالي للسلطان سنجر وانتزاع الموصل منه، وقد تمكن من حصارها بالفعل؛ لكنه فشل في انتزاعها، وفي نهاية المطاف عقد مصالحة مع زنكي في مقابل دفع الأخير إتاوة سنوية للخليفة[18].

 

كل تلك الأحداث التي كانت في صالح المسترشد، دفعته إلى مزيد من الصدام والمواجهة مع الرموز السلجوقية في العراق، ففي السنة التالية (528هـ/ 1134م) طلب الخليفة صراحة من مجاهد الدين بهروز الوالي السلجوقي المعيّن من قِبل السلطان مسعود على العراق ورئيس الأمن، بها أن يرسل إليه مالاً لينفقه على الجيش العباسي، قائلاً له "أنت مقيم ومعك الأموال فينبغي أن تعطينا منها شيئا نفرّقه على العسكر"[19] لكن الموظف السلجوقي رفض هذا الطلب المفاجئ!

 

لم يقف المسترشد أمام هذا الرفض موقف المتفرج، فقد أرسل ثانيا لهذا الوالي السلجوقي، لكنه أرفق مع طلبه هذه المرة قوة عسكرية عباسية، الأمر الذي اضطر معه الوالي إلى إرسال المال المطلوب إلى الخليفة[20]. وهكذا أصبح المسترشد أقوى من الوالي السلجوقي في العراق لأول مرة بعد دخول السلاجقة واستيلائهم على العراق منذ القرن تقريبًا، وهي قوة لا شك أنها هددت من نفوذ السلطان مسعود السلجوقي سلطان السلاجقة الجديد؛ لتجعله يسعى جاهدًا للتخلص من هذا الخليفة أو تحجيم قوته على الأقل ورده لما كان عليه أسلافه العباسيون من قبل!

 

لم يقف الخليفة عند هذا الحد، فقد أمر بمناسبة عيد الفطر سنة 528هـ باستعراض الجيش العباسي، فاجتمع أهل بغداد في نادرة من النوادر إلى الاحتفال بهذا الجيش الذي بدا قويًا أنيقًا، وقد روى المؤرخون أن الخليفة وعلية القوم في الدولة خرجوا "في زيّ لم يُر مثله من الخيل المجفجفة[21]، والعسكر اللابس، والعدة الحسنة، وكلُّ أمير يُقبلُ في أصحابه بخلعة (هدية) الخليفة، فكان العسكر خمسة عشر ألف فارس سوى من كان غائبا عن البلد ولم يُر عيد خرج فيه أرباب المناصب إلا هذا"[22].
 

مقتل المسترشد بالله

كان الصراع السلجوقي السلجوقي لا يزال على أشده في إيران، صحيح أن الخليفة العباسي كان ضعيفا أمام القوة السلجوقية؛ لكنه برغم ذلك الضعف كان قد أسبغ ظلالاً من الشرعية على مسعود السلجوقي، وقد استغل مسعود هذا الأمر في القضاء على قوة أخيه طغرل في إيران، وبالفعل تمكن من السيطرة على معاقله في كل من همذان والري والجبال وأذربيجان، واستطاع وأد الثورات، واستئصال المتمردين، وأمام هذه القوة الجديدة التي بات عليها مسعود، فقد أعلن أمام الملأ من جنوده أنه عازم على تأديب الخليفة المسترشد، وانتزاع بغداد وإخراجه منها، الأمر الذي قابله الخليفة بقطع الخطبة له على المنابر، والدعوة إلى النفير العام لمواجهة هذا السلطان، الذي تفضل عليه حين أعلنه سلطانا على السلاجقة!
 

لم تتمكن القوات العباسية من الوقوف والصمود أمام القوة السلجوقية؛ بل سرعان ما قُبض على الخليفة المسترشد نفسه، الأمر الذي أحدث هزّة في العراق والمشرق
لم تتمكن القوات العباسية من الوقوف والصمود أمام القوة السلجوقية؛ بل سرعان ما قُبض على الخليفة المسترشد نفسه، الأمر الذي أحدث هزّة في العراق والمشرق


في المقابل، انضم بعض الأمراء السلاجقة المنشقين على مسعود إلى الخليفة المسترشد، وذكر بعضهم للخليفة ضعف مسعود في غير حقيقة من الأمر؛ لذا اطمأن المسترشد إلى قوته، وإلى هؤلاء الأمراء المنشقين، وكانوا أصحاب مكانة ونفوذ، لقد حلم المسترشد في تلك اللحظة باسترداد العراق كاملة ولربما إيران، إلى عودة المجد العباسي، مجد الرشيد والمأمون والمعتصم؛ لذا لم ير بدّا من الخروج إلى معركة فاصلة أمام السلطان السلجوقي في إيران
[23].

 

لم تتمكن القوات العباسية من الوقوف والصمود أمام القوة السلجوقية؛ بل سرعان ما قُبض على الخليفة المسترشد نفسه، الأمر الذي أحدث هزّة في العراق والمشرق، ويذكر ابن كثير أنه حين بلغ الخبر إلى بغداد باعتقال الخليفة وهزيمته "انزعجَ الناس لذلك، وزلزلوا زلزالا شديدا، صورة ومعنى، وجاءت العامة إلى المنابر فكسروها وامتنعوا من حضور الجماعات"[24]. وكان لرد فعل الرأي العام تأثيره في الأوساط السياسية؛ نظرًا لمكانة الخليفة العباسي في النفوس، وهي مكانة روحية راسخة، حتى ولو كان ضعيفًا على المستوى العسكري. لذا نصح السلطان الخبير سنجر ابن أخيه مسعود بإعادة الخليفة إلى بغداد معزّزا مكرّمًا، واستحثّه "على الإحسان إلى الخليفة، وأن يبادر إلى سُرعة ردّه إلى وطنه، وأرسل مع الرسل جيشًا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد"[25].

 

هكذا نرى النهاية المأساوية للخليفة العباسي الذي حاول مقاومة التسلط السلجوقي على الخلافة العباسية منذ عقود، وهي محاولة برغم فشلها فإنها أعادت الأمل إلى جيل العباسيين التالي الذي تمكن بالفعل من الاستقلال

جاءت الرسالة من السلطان سنجر إلى ابن أخيه مسعود فيها "الله الله تتلافى أمرك، وتعيد أمير المؤمنين إلى مقرّ عزه، وتحمل الغاشية (رمز الخلافة) بين يديه كما جَرَت عادتنا وعادة آبائنا"[26]. وهي رسالة فيها من الوعيد، وتكشف أثر صدى الرأي العام في العراق وإيران والمشرق على السياسيين والعسكريين آنذاك، وأمام هذا الضغط العام لم يجد السلطان مسعود بدًّا سوى الرضوخ وإعادة الخليفة إلى بغداد.

 

لكن هذا الصلح كان مقابل شروط قاسية على الخليفة، وهي "أن يحمل مالاً للسلطان، ولا يجمع العساكر لحرب ولا فتنة، ولا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما"[27]. وفي ظل انشغال الجميع بوصول تجهيزات إعادة الخليفة إلى بغداد بعد هذه الهزيمة القاسية، انطلق بصورة مفاجئة إلى سرادق الخليفة أربعة وعشرون رجلا من الباطنية الحشّاشية الإسماعيلية، "فقتلوه وجرحوه ما يزيد على عشرين جراحة ومثّلوا به"[28]!

 

تلك الفاجعة المفاجئة جعلت بعض المؤرخين يشيرون بأصابع الاتهام إلى السلطان مسعود في هذه الجريمة النكراء، وفي هذه القضية يقول المؤرخ ابن الطقطقي "اختلف الناس عند قتل المسترشد في سبب قتله؛ فقال قوم: إن مسعوداً لم يعلم بذلك ولا رضي به. وقال قوم: بل مسعود هو الذي واطأ الباطنية على قتله وأمرهم بذلك، لأنه خافه حيث قويت نفسه على جمع الجموع وجرّ الجيوش، ولم يمكنه قتله ظاهراً ففعل ما فعل من الإحسان إليه ظاهراً ثم قتله باطناً، ثم إنه أخرج جماعة من أهل الجرائم فقتلهم وأوهم الناس أنه قد قتل قتلته، ثم أطلقهم سراً"[29].

 

وهكذا نرى النهاية المأساوية للخليفة العباسي الذي حاول مقاومة التسلط السلجوقي على الخلافة العباسية منذ عقود، وهي محاولة برغم فشلها فإنها أعادت الأمل إلى جيل العباسيين التالي الذي تمكن بالفعل من الاستقلال، والخروج من التبعية السلجوقية.

المصدر : الجزيرة