شعار قسم ميدان

أبو دلامة.. ماذا تعرف عن المهرّج الذي داهن الخلفاء وأخذ أموالهم؟

ميدان - مهرج

يكثر في التاريخ العربي نماذج من الظرفاء والحمقاء، كانت أخبارهم انعكاسًا لنوع طريف من الحوادث والسِّيَر، وسواء أصحّت هذه المرويات عنهم أم كان أغلبها مختلقًا منحولا؛ فإن الظاهرة كانت راسخة ومعروفة بالفعل، حتى إن عالمًا بحّاثة في الأصول والحديث كالإمام ابن الجوزي ألف كتاباً عن "أخبار الظِّراف والمتماجنين"، وهو من هو في مصنفات الحديث والتاريخ والرقائق وغيرها.

هؤلاء المتفكهون غير الآبهين لصرامة الحياة وقسوتها نوع من الناس ينضح بالبراءة والسذاجة في آن، وتعكس لنا أخبارهم قدرًا من عالم المهمشين في التاريخ العربي، وفي عالم الشعر والشعراء وفي حضرة الخلفاء والقصور نجد أمثلة لهؤلاء المتحامقين، تصورهم بمثابة "مُضحك السلطان" الذي يخرجه من عالم الرتابة والجمود والجدية وصراع القصور والمعارك، وحرب الدبلوماسية والسياسة والأعصاب المتوترة إلى البهجة والسرور والفكاهة والضحك، فالنفس لا تحب البقاء على حالة واحدة جامدة.

كان أبو دلامة زند بن الجون الأسدي الكوفي العبد المولّد الحبشي من ذلك الصنف؛ إذ كان جيد الفصاحة والبلاغة يحب الفكاهة والظرافة، روي أنه كان مولى لبني أسد وقال بعضهم إنه كان أعرابياً أو عبداً لرجل من أهل الرّقة شرقي سوريا الآن على الفرات من بني أسد فأعتقه.

وأيًا تكن نسبة أبي دُلامة فقد شَهِد الرجل ردحًا من عصر الدولة الأموية التي لم يكن له فيها نباهة ذكر؛ حيث لم يكن للموالي مكانة عند الأمويين، فلمّا جاءت الدولة العباسية انضمّ إليها وصار من "صحابو المنصور"، وكان اللقب المتداول على حاشية الخليفة أبي جعفر المنصور، على أنه في موطنه بالكوفة عُرف في ذلك المجتمع المحلي بالطرائف والظرائف، ويبدو أن صيته بدأ في الانتشار بالتزامن مع صعود أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني الذي اتخذه من ضمن حاشيته فعلا شأنُ أبي دُلامة، وأصبح الرجل بين عشية وضحاها ممن يُشار إليهم بالبنان حتى ولو كان "بهلوان" الخليفة!

undefined

مشاكساتُ أبي دُلامة

إن مشاكسات وطرائف أبي دُلامة كثيرة لافتة، لقد دعاه أمير الكوفة روح بن حاتم المهلّبي ذات مرة إلى النزول في حلبة القتال أمام أحد الفرسان، فرفض أبو دُلامة لأنه لم يكن يدري ما القتال وما الطعان ولا الضراب وخاف وارتعد، لكن الأمير أصرّ فلما رأى أبو دُلامة إصرار الأمير قال "إني جائعٌ فأطعمني؛ فدفع إليه خبزاً ولحماً؛ وتقدّم فهمّ به الرجّل، فقال له أبو دلامة اصبر يا هذا أيّ محاربٍ تراني؟، ثمّ قال أتعرفني؟ قال الفارس لا؛ ققال أبو دلامة فهل أعرفك؟ قال لا، فقال فما في الدنيا أحمق منّا ودعاه للغداء، فتغدّيا جميعاً وافترقا فسأل روحٌ عمّا فعل، فحدّث وضحِك ودعا له فسأله عن القصة فقال:

إنّي أعوذ بروحٍ أن يقدّمني *** إلى القتال فتُخزى بي بنو أسد

آل المهلّب حبُّ الموت ورثكم *** إذ لا أورث حبَّ الموتِ عن أحد[1]


مكانة أبي دُلامة في حاشية الخليفة المنصور كانت تفرض عليه الخروج في الغزوات والحروب، وهذا الرجل شأنه شأن أبناء جيله وعصره، كان يملك مهارة القتال والضراب؛ لكنه مع ذلك كان جبانًا يخشى على نفسه مجرد الخدش

"مُهرّجٌ" في حضرة الخلفاء!

كان أبو دُلامة يستغل أوقات صفاء الخلفاء العباسيين لطلب حاجته، وكان يتخير الوقت بعناية فائقة، واللافت أن السفاح -الخليفة الأول- كان يسمع لأبي دُلامة، وقيل إنه -أي أبا دلامة- كان واقفاً بين يدي السفاح في بعض الأيام فقال له الخليفة سلني حاجتك فقال له أبو دلامة "أريد كلب صيد" فقال الخليفة أعطوه إياه، فقال أبو دلامة وأريد دابة أتصيّد عليها، فقال الخليفة أعطوه إياها، فقال أبو دلامة وغلاماً يقود الكلب ويصيد به، فقال الخليفة أعطوه غلاماً، قال وجارية تُصلح الصيد وتطعمنا منه، أمر الخليفة له بجارية.
 

فقال أبو دلامة هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك، فلا بدّ لهم من دار يسكنونها فقال الخليفة أعطوه داراً تجمعهم، فقال أبو دلامة وإن لم يكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون، فقال الخليفة قد أقطعتك عشر ضياع عامرة[2]، وهكذا استغل أبو دُلامة الموقف لصالحه أفضل استغلال كأنه قنّاص الفرص!.

أما الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور فقد كان ينسى حشمته وهيبته أمام الناس إذا فاجأه أبو دلامة بإحدى نوادره، حتى في أشد المواقف حساسية مثل موت زوجته، فقد ماتت زوجته حمّادة بنت عيسى وكانت ابنة عمه، وتظاهر المنصور عليها بالحزن والألم أمام أقاربها من بني عمومته، ولقد وقَفَ المنصور والناس معه ينتظرون مجيء الجنازة، وكان معه أبو دلامة، وأراد أبو جعفر المنصور أن يرتدي زيّ الواعظ لأبى دلامة فسأله على رؤوس الأشهاد يا أبا دلامة ما أعددت لهذه الحفرة؟ وأشار للقبر، فما كان من أبي دلامة إلا أن قال "أعددتُ لها بنت عم أمير المؤمنين حمّادة بنت عيسى، فضحك المنصورُ وضحك الناس، وقال له المنصور ويحك فضحتنا بين الناس".[3]

undefined

 

وحدث مرة أن الخليفة علم أن أبت دُلامة خرج من عنده وشرب وسكر، فأرسل الخليفةُ من اعتقله وهو سكران، وأمر السجّان بأن يضعه في حظيرة الدجاج في السجن، فلما أفاقَ وعرف بالخبر كتب للخليفة شعراً يقول:

أميرُ المؤمنين فَدَتك نفسي  ***    ففيمَ حبستني وخرقتَ ساجي

أُقاد إلى السجونِ بغير ذنبٍ ***  كأني بعضُ عُمّال الخراجِ

فلو معهم حُبِسْتُ لهان وجدي ***  ولكنى حُبستُ مع الدجاجِ!

فضحك الخليفة وأطلق سراحه[4].

كان المهدي أحياناً يسأم من كثرة سؤال أبى دلامة له، ولكن إلحاح أبي دلامة في المسألة كان يجعله يكسب في النهاية

وكان المنصور مع بخله وتقتيره يضطر لإعطاء أبي دلامة جوائز مالية خصوصاً وأن الرجل كان لا ينفكّ يطالب بالعطاء والهدايا في كل مناسبة، وقد دخل على المنصور وأخبره بأن زوجته قد ولدت له ابنة، فقال له الخليفة وما تريد؟ قال أريد أن يُعينني عليها أمير المؤمنين، وأنشده:

لو كان يقعدُ فوق الشمس من كرمٍ  ***  قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس

ثم ارتفعوا في شعاع الشمس كلكم       إلى السماء وأنتم أقرب الناس
 

فقال له الخليفة: فهل قلتَ في ابنتك شيئاً؟ قال نعم قلتُ:

فما ولدتك مريم أم عيسى ***  ولم يكْفُلْكِ لقمان الحكيم

ولكن قد تضُمُّك أمُّ سوءٍ *** إلى لبَّاتها وأبٌ لئيم

فضحك الخليفة فأخرج له أبو دلامة كيساً من قماش فأمر الخليفة بأن يملأها له دراهم، فاتسعت لألفي درهم ثمناً لشتم أبي دلامة نفسه ولمدحه الخليفة[5].

إن مكانة أبي دُلامة في حاشية الخليفة المنصور كانت تفرض عليه الخروج في الغزوات والحروب، وهذا الرجل شأنه شأن أبناء جيله وعصره، كان يملك مهارة القتال والضراب؛ لكنه مع ذلك كان جبانًا يخشى على نفسه مجرد الخدش، يريد أن ينال المال مقابل تلك الحركات والتصرفات البهلوانية التي يأتي على رأسها إضحاك الخليفة وتسليته، وقد حدث ذات مرة عداء بين الخليفة المنصور وعمه عبد الله بن علي أحد مؤسسي الدولة العباسية الأكابر، ومن كان له فضل ضم مصر والشام إلى العباسيين؛ بل هو الذي تمكن من القضاء على الأمويين.
 

لقد شعر الرجل بمكانته الطاغية في الدولة العباسية، ورأى أن مكانه اللائق به أن يكون في منصب الخلافة، الأمر الذي اضطر معه المنصور إلى مواجهته بحسم وقوة، وقد أمر المنصور أبا دلامة أن يخرج في ذلك الجيش، لكن أبا دلامة الجبان الخائر قال معتذراً "نشدتُك الله يا أمير المؤمنين أن لا تحضرني شيئاً من معاركك، فإني شهدتُ تسعة عشر عسكرًا انهزمت كلها وأخاف أن يكون عسكرك العشرين، فضحك المنصور وأعفاه"[6]. 

undefined

لقد فطن أبو دلامة حين عرف مبكرًا أن ولي العهد محمد المهديّ بن أبي جعفر المنصور سيتولى الخلافة قريبًا، وأن هذا الرجل يختلفُ عن أبيه في الكرم والعطاء، فقد كان كريما معطاء ولذلك وثّق أبو دلامة علاقته بالمهدي منذ كان أميراً في خلافة والده، فكان يخرج معه في أسفاره، ويسهر معه في لياليه يريد أن يضمن لنفسه مكانة أعلى في المستقبل في ظل الخليفة الآتي[7].

كان المهدي أحياناً يسأم من كثرة سؤال أبى دلامة له، ولكن إلحاح أبي دلامة في المسألة كان يجعله يكسب في النهاية، فلما قدم المهدي من الري إلى بغداد دخل عليه أبو دلامة للسلام والتهنئة بالقدوم، وقال له يا أمير المؤمنين:

إني حلفتُ لئن رأيتك سالماً  ***  بقرى العراق وأنتَ ذو وفر

لتُصلّين على النبي محمد  ***  ولتملأن دراهم حجري

 

أبو دلامة نموذج الصعلوك المتسلق الذي يتقرب من حاشية الخلفاء والرؤساء كي ينتفع من ورائهم، وإن وصل به الأمر إلى شتم نفسه وذمّها، وهي حالة لا ريب متكررة في كل زمان ومكان!

فقال المهدي "أما الأولى فنعم وأما الثانية فلا"، فقال أبو دلامة "جَعَلني الله فداك إنهما كلمتان لا يفرق بينهما"، فأمرَ الخليفةُ بأن يملأ حجر أبو دلامة بالدراهم حتى خاف أن يتخرّق قميصه من كثرة الدراهم!

لم يكن أبو دلامة يتحرج من ذم نفسه إذا وقع في مأزق يضطره إلى ذلك، فقد دخل مرة على الخليفة المهدي وعنده أكابر رجال الدولة والأسرة العباسية، مثل إسماعيل بن عليّ وعيسى بن موسى وغيرهم من بني هاشم، فقال له المهدي "أنا أعطي الله عهدا لئن لم تهجُ واحدا ممّن في البيت لأقطعنّ لسانك، فنظر إليه القوم وغمزه كلُّ واحد منهم بأنّ عليّ رضاك، قال أبو دلامة فعلمتُ أنّي قد وقعتُ، وأنها عزمة من عزماته لا بدّ منها، فلم أرَ أحدًا أحقّ بالهجاء مني، ولا أدعى إلى السلامة من هجائي نفسي، فقلتُ:
 

ألا أبلِغْ لديك أبا دُلامه *** فلستَ من الكِرامِ ولا كرامه

جمعتَ دمامةً وجمعتَ لؤمًا *** كذاك اللؤمُ تتبعه الدمامة

فإن تكُ قد أصبتَ نعيم دنيا *** فلا تفرح فقد دَنَتِ القيامة!

فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلّا أجازه[8].

وهكذا نرى في التاريخ نموذج الصعلوك المتسلق الذي يتقرب من حاشية الخلفاء والرؤساء كي ينتفع من ورائهم، وإن وصل به الأمر إلى شتم نفسه وذمّها، وهي حالة لا ريب متكررة في كل زمان ومكان!

المصدر : الجزيرة