شعار قسم ميدان

موسيقى الجاز.. قصة لحن صاغته السياسة والنضال

ميدان - موسيقى الجاز

"الجاز هو الأخ الأكبر للثورة"
(مايلز دافيس)
 

من منا في الآونة الأخيرة لم يشاهد أو حتى يسمع عن فيلم "لا لا لاند"؟ فيه، يلعب رايان جوسلينج دور "سيباستيان"، عازف بيانو ناقم على الموسيقي الحديثة، مغرم بالجاز، يحلم بامتلاك ناديه الخاص في يوم من الأيام. ربما تساءل البعض حينها عن موسيقى الجاز، ما هي وكيف نشأت؟ وربما عرف البعض إجابات هذه الأسئلة. لكن، ما قد لا يعرفه الكثيرون، أن الشهرة الواسعة التي حظي بها الجاز في القرن العشرين لم تكن فقط مجرد انتشار لنوع موسيقي أمام أنواع أخرى، لكنها كانت أيضاً الهمهمات التي سبقت ورافقت الصرخات المدوية التي ارتفع بها صوت الأمريكيين السود في ثورتهم للمطالبة بحقوقهم المدنية.

 

البداية

في عام 1794، اخترع إيلي ويتني محجل القطن. زاد ذلك من إنتاج أمريكا للقطن أضعافاً مضاعفة، ومعه، ازداد الاعتماد علي العبيد للعمل بالمزارع(1). بدأت القصة بميناء نيو أورلينز. هناك، كانت المحطة الأخيرة في الرحلة الطويلة التي كانت تقطعها السفن بشكل معتاد، من إفريقيا وعبر الأطلنطي، لجلب العبيد لأميركا.
 
عانى العبيد تحت وطأة استغلال ساداتهم الذين فرضوا عليهم حياة بشعة القساوة. كل شيء مباح- الضرب، الجلد، بتر الأعضاء، الحبس، وحتى الاعتداء الجنسي-طالما ساهم هذا في زيادة المحصول(2). بعد عناء أيام طويلة، لم يجد العبيد المقهورين ما يسرى عنهم سوى الموسيقى. تأتي مواسم الحصاد فيحتفلون بها بالأنغام. في "ساحة الكونغو"، كان اجتماعهم، يدقون الطبول، يغنون، ويرقصون. حملت أنغامهم الأسيرة تلك بثناياها البذور الأولى لموسيقى الجاز (3).

لوحة
لوحة "رقص في ساحة الكونغو"
 

ومع هذا، فلم يكن الجاز ابن لتقليد موسيقي واحد، فقد امتزجت أكثر من ثقافة لتكوينه.  بالإضافة للطبول القادمة من موطنهم إفريقيا، فقد تأثر العبيد بترانيم الكنائس التي كانوا يستمعون إليها في الآحاد، والفرق النحاسية المتجولة التي كانت تجوب الشوارع في الاحتفالات والجنائز. من تلك الأخيرة، اتخذ الجاز آلاته الأساسية بجانب الطبل: البوق والكلارينت. 
 

الجاز ينطلق

أوائل القرن العشرين، تكونت أول فرق موسيقي الجاز. لكن العشرينيات كانت هي العقد الذي شهد بحق سطوع نجم هذا النوع الموسيقي، فلم يكن هنالك جانب من جوانب الحياة العامة إلا وقد تغلغل فيها وأثر بها، حتى درج المؤرخون والعامة سواء بسواء على تسميته "عصر الجاز"( The Age of Jazz).
 

 مع نهايات الحرب العالمية الأولى وموت أعداد كبيرة من الرجال بها، انضمت النساء للقوى العاملة. قصصن شعورهن الطويلة التي لا تتناسب وآلات المصانع وخلعن عنهن "كورسيهات" العصر الفيكتوري الخانقة. في أغسطس من عام 1920 حصلن للمرة الأولى على حقهن في التصويت. ليلاً، ارتدن نفس النوادي مع الرجال ورقصن على موسيقى الجاز. لم تتناسب الفساتين الطويلة مع إيقاع الجاز الخاطف، فبدأن لأول مرة في ارتداء التنانير القصيرة. مثلت موسيقى الجاز أيضاً بطابعها المتحرر القائم على الارتجال فأحدث ذلك ثورة على قوالب الموسيقى الكلاسيكية، مما أدى لانتشارها الواسع بين الشباب الثائر علي التقاليد القديمة(4).  قدمت العشرينيات أيضاً لعالم الجاز أهم فنانيه ورواده، لوي أرمسترونغ، بادي بولدن وديوك إلنجتون.
 


كان انتشار الجاز في حد ذاته بمثابة ثورة على العنصرية. فبينما عامل معظم البيض السود باحتقار في الشوارع والأماكن العامة، فقد تجمعوا في المسارح والمقاهي وحول المذياع يستمعون لهم ويصفقون حين انتهاء الأغنية. كما شكلت صناعة الجاز الموسيقية مناخ خاص بعيد عن أجواء الفصل العنصري، فلإنتاج موسيقي جميلة، كان كل المهم أن تعرف كيف تعزف، بغض النظر عن لون جلدك(5).

 

في خطاب أرسله لوي أرمسترونغ عام 1941 لناقد الجاز لينارد فيذر، كتب "أود أن أذكر إحدى أكثر لحظاتي إلهاماً. كنت ألعب بحفلة في مسرح ميامي، وهنالك رأيت شيئاً لم تقع عيني عليه قط. رأيت آلاف الناس، ملونين وبيض، في القاعة. لم يكونوا مفصولين في صف للبيض وآخر للزنوج، لكن، وبكل طبيعية، معاً. شعرت وكأنما هنالك خطباً ما بي. عندما ترى أشياء كهذا، تعلم أن الوضع يتجه للأمام ‘(6)" هكذا شكلت موسيقى الجاز المسمار الأول في نعش التفريق العنصري.

 

الموسيقى تواجه العنف
 شنق توماس شيب و إبرام سميث الحادثة التي ألهمت
 شنق توماس شيب و إبرام سميث الحادثة التي ألهمت "الفاكهة الغريبة"
 

عام 1939، وقفت مغنية الجاز بيلي هوليداي على خشبة مسرح ( Café Society)، أول نوادي الجاز المختلطة بأمريكا، والخوف يسيطر عليها. ما كانت على وشك غناؤه، لم يكن أحدا قد غنى في مثل قوته من قبل. عندما انتهت، انتابها ندم لحظي، فلم يصفق أح. بعدها، انطلقت صفقة واحدة على استحياء، ثم فجأة، ضجت القاعة بالتصفيق. ليلتها، غنت بيلي هوليداي "الفاكهة الغريبة"، الأغنية التي وصفها ناقد الجاز لينارد فيذر بـ"أول احتجاج عبر الموسيقى والكلمات، أول صرخة غير مكتومة ضد العنصرية"(7).
 

تصف الأغنية منظر جثة سوداء متدلية من شجرة، في إشارة لحوادث الشنق البشعة التي ارتكبتها جماعات الـ"كلو-كلوكس-كلان" الإرهابية ضد السود. كانوا يقومون بربط إحدى طرفي حبل برأس ضحيتهم، والطرف الآخر في فرع شجرة يعلقونه بها، ثم يتركوه هكذا حتى يبتلعه الموت. من 1882 وحتى 1968، مات حوالي ثلاثة آلاف بتلك الطريقة.
 

في كل مرة تغني هوليداي الفاكهة الغريبة، تنفتح عيون الناس المغمضة أبداً، فتري جسد ميت، قتلته العنصرية، دماؤه منتشرة على أيدي كل مؤيد لها. شيء فشيء، أيقظ صوتها الغاضب الحزين بقلوب الناس شرارة الثورة.
    

    
وفي عام 1964، جلست المغنية وعازفة البيانو نينا سيمون بقاعة كارينجي الشهيرة بنيويورك أمام جمهور معظمه أبيض، وبدأت في غناء ما أطلقت عليه "أغنية لبرنامج لم يكتب بعد". ليلتها، أدت سيمون ما سيصبح نشيد لحركة الحقوق المدنية (Mississippi Goddamn).
 
مثلت الأغنية نقطة الغليان لسيمون ولكثير من الأمريكيين السود. ففي سبتمبر من عام 1963، قام أربعة من "الكلو-كلوكس-كلان" بزراعة خمسة عشر عود ديناميت بمدخل كنيسة السود المعمدانية بألاباما، الأمر الذي أسفر عن مقتل أربع فتيات صغيرات وإصابة خامسة بالعمي الجزئي. وفي يوليو من نفس العام، اغتال أحد العنصريين بولاية مسيسيبي الناشط في مجال الحقوق المدنية "ميدجار إفرس".
 
ككل الأغاني الثورية، قوبلت (Mississippi Goddamn) بالرفض من الكثيرين، حيث تم منعها تماماً من ولايات الجنوب العنصرية كما رفضت كثير من محطات الراديو إذاعتها. أما في صفوف نشطاء حركة الحقوق المدنية، فقد كان للأغنية مكانها المحفوظ بالاحتجاجات(8). أدت نينا سيمون الأغنية عام 1965 أمام عشرة آلاف من المتظاهرين في مسيرات مونتجمري التاريخية الهادفة لإعطاء السود حقهم في التصويت.
   
سقوط العنصرية
أول يوم اختلاط بمدرسة
أول يوم اختلاط بمدرسة "فورت ماير" الابتدائية
 

شيئاً فشيء، بدأ النظام العنصري يتهاوى. في عام 1951، رفع سبعة عشر من الآباء والأمهات قضية ضد هيئة ولاية كنساس التعليمية- التي صارت تعرف بـ قضية "براون ضد الهيئة التعليمية" الشهيرة. كانت ولاية كنساس تبيح إنشاء مدارس منفصلة لكل من البيض والسود، مما شجع على انتشار الفصل العنصري في المؤسسات التعليمية. في عام 1954 حكمت المحكمة العليا للولايات المتحدة حكم تاريخي في صالح الآباء(9).
 

وفي إبريل من عام 1967، رفع ريتشارد لوفنج، رجل أبيض، وميلدرد لوفنج، امرأة سوداء، قضية ضد ولاية فيرجينيا لحكمها عليهم بالسجن لمدة عام، فبزواجهم، كانا قد ارتكبا ما كان يعرف بـ"جريمة الاختلاط العرقي". حتى ذلك الوقت، وللحفاظ على "النقاء العرقي"، لم يكن من القانوني زواج شخص أبيض بآخر أسود. في يونيو من نفس العام، حكمت المحكمة في صالحهما وتم إلغاء التجريم(10).
 

 على نفس المنوال، منذ عام 1954 وحتى عام 1968، أجريت تعديلات كثيرة بالدستور الأمريكي أخذت أكثر وأكثر تتجه نحو إعطاء السود حقوقهم المسلوبة كاملة. وفي 2008، تم انتخاب باراك أوباما كأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية من أصل إفريقي.
 

لم يكن الطريق الذي قطعه الأميركيون من أصل إفريقي من العبودية والتعذيب إلى الحصول على حقوق متساوية لا بالسهل ولا بالقصير. وقد مثلت موسيقى الجاز أول مسمار يدق في نعش الفكر العنصري. وبسببها، استطاع البيض أن يخلعوا عن ناظريهم تصوراتهم لأصحاب العرق الأسود كمجرد همج أدنى منهم منزلة، ويروا أمامهم بدلاً عن هذا عباقرة صنعوا موسيقى لا يملكون هم أنفسهم سوى أن يطربوا لها.

المصدر : الجزيرة