شعار قسم ميدان

"عشان تبقي تقولي لأ".. كيف لأغنية أن تحدث انقساما؟

ميدان - "عشان تبقي تقولي لأ".. البحث عن معنى الأغنية المفقود
اضغط للاستماع

     

مع مطلع العام الميلادي الجديد، أطلّت علينا أغنية "سالمونيلا" لمخرج الإعلانات تميم يونس، والتي أثارت جدلا واسعا لم يهدأ حتى الآن. في ذلك الفيديو، يظهر تميم كشاب معجب بفتاة، ويحاول استمالتها بشتى الطرق، لكن عندما ترفضه الفتاة، يتحوّل مباشرة من الرومانسية إلى العنف، ومن السعي لاستمالتها إلى اتجاه الرغبة في عقابها على الرفض.

 

تعدَّدت الطرق التي تلقّى بها الجمهور هذه الأغنية، واختلفت بالتالي فيما بينها اختلافا شاسعا، فبينما رأى البعض في الأغنية انتقادا واضحا لنموذج ذلك الشاب، فسّر آخرون الأغنية على أنها احتفاء به، فقد أوَّلَ الفريق الأول الأغنية باعتبارها "نكتة" يودّ خلالها تميم تسليط الضوء بشكل ساخر على هذا النوع من الشباب، بينما أوَّلَها الفريق الآخر على أنها تمثيل حرفيّ لهذا النمط، وأن الفيديو يخلو من أي سخرية حقيقية أو بارزة. وبذلك، فإننا نجد أنفسنا أمام عمل فنيّ واحد بتأويلات مختلفة تقف على طرفَيْ النقيض من بعضها.

 

في حوارنا مع الكاتب الصحفي والروائي شادي لويس بطرس حول الأغنية قال لـ "ميدان": "أي عمل فني قابل للتأويل، والتأويل يتم بشكل فردي وانتقائي وشخصي ويستند إلى مرجعيات الجموع الثقافية. مشكلة الفنون الكبيرة أن المباشر بها يختلف عن غير المباشر، وما يُقال بشكل ضمني يختلف عمّا يُقال بشكل صريح، وهو ما يؤدي إلى كون عملية التأويل شخصية للغاية وتتسبّب في أحيان كثيرة في نشوء خلافات كبيرة حول المعنى المقصود من العمل الفني، مثلما رأينا في أغنية "سالمونيلا"".

   

  

ويكمل: "على المستوى الشخصي لا أرى أن الأغنية تُحرِّض على العنف ضد المرأة، بل على العكس، أراها تنتقد خطاب العنف، هذه كانت قراءتي الشخصية للأغنية، لكن يوجد كثيرون قرؤوها بشكل مختلف. هذه الفكرة تأخذنا مرة أخرى باتجاه المعضلة الأساسية: مَن له الحق في التأويل؟ مَن يستطيع أن يقول بشكل جازم المعنى المقصود من الأغنية؟ المشكلة في رأيي ليست في الصوابية السياسية كما رأى البعض، بل في التأويل، فمَن له الحق في أن يقول إذا ما كانت الأغنية صائبة سياسيا أم لا؟".

 

انطلاقا من هذا الجدل، وفي محاولة منه لحسم الجدل حول أغنيته، نشر تميم فيديو يسعى من خلاله توضيح المعنى الذي قصده بشكل شخصي عندما كتبَ وغنّى "سالمونيلا"، وذلك حينما أكّد سخريته من نموذج الشاب الذي لا يقبل الرفض. ورغم تدخّل تميم لحسم النقاش، فإن الأمر لم يهدأ، والتأويلات لم تتوقف عن التشعّب، ما يجعلنا نعود إلى سؤال لويس مرة أخرى: مَن له الحق الحصري في التأويل؟

        

المعنى لم يعُد في بطن الشاعر

بحسب نظرية الناقد الثقافي الفرنسي رولان بارت عن موت المؤلف[1]، فإنه "لا يوجد معنى واحد أو تأويل واحد للأغنية"، وانطلاقا من هذه المقولة، فإن الفيديو الذي صدَرَ عن تميم، والذي حاول فيه إيضاح نيته الأصلية من وراء "سالمونيلا"، لا قيمة حقيقية له. نظرية بارت جاءت في مناخ ثقافي كان الفنان فيه هو مركز العمل الفني بشكل دائم ومستمر، إذ كان النقاد يرون في مقصد الفنان الشخصي الذي انطلق منه هو التفسير الأساسي والمعنى الوحيد الصحيح للعمل، ومن هنا، فقد تلخّصت مهمة الناقد في التفتيش عن ذلك المقصد وإجلائه للمتلقي.

     

   

في مقاله "موت المؤلف" -الذي اتّخذت نظريته الشهيرة اسمها منه- حاول بارت أن يُحطِّم تلك المركزية، فطبقا له، من اللحظة التي ينتهي فيها الفنان من عمله الفني، لا يُعَدُّ ذلك العمل مِلكا له، ولا تأويله حكرا عليه. ومن هنا، لا يعود هناك أي قيمة للتأويلات النقدية التي تتخذ من الفنان نقطة انطلاق لها، فالعمل الفني كما يرى بارت هو كيان قائم بذاته، لا بد أن يصير هو نقطة الانطلاق لأي تأويل. لكن يبقى السؤال: بعد أن أزاح بارت الفنان من مركز الحوار حول عمله الفني، وبعد أن سلبه الحق في أن يكون المُؤوِّل الأساسي والوحيد لما صنع، مَن صار يشغل المركز؟ مَن صار له الحق في التأويل؟

  

عوضا عن صانع العمل، انحاز بارت للمتلقي. فالمعنى لم يَعُد يتكوّن وفقا له في بطن الشاعر، بل في وعي المتلقي. ومن هنا، تصير عملية التلقي في حد ذاتها عملية إبداعية يُعيد فيها كل فرد من الجمهور تفكيك العمل الفني وتركيبه وتشكيل فهم خاص به. ومن هنا، حطَّم بارت صنم "المعنى الأوحد"، فصار للعمل الفني معانٍ وتأويلات بقدر ما له من متلقين. وإجابة سؤال لويس وفقا لنظرية بارت ستكون: لا يوجد مَن يمتلك الحق الحصري في التأويل، لأنه ببساطة لا يوجد معنى وحيد للعمل الفني.

  

لكل تلك الأسباب، لا يوجد وزن حقيقي للفيديو القصير الذي صوّره تميم يونس وحاول فيه تبيان مقصده الأساسي من أغنيته. وبالمثل، فما حاول البعض من الجمهور والنقاد فعله من صياغة تأويل خاص بهم للأغنية ووصم باقي التأويلات بكونها "غبية" ولم "تفهم المقصد الأساسي من الأغنية" لا تستند إلى أساس حقيقي، فكما أوضح بارت، لا يوجد "معنى واحد صحيح" يجعل التأويلات التي تحيد عنه "خاطئة". فنحن هنا نتحرك في مجال بعيد عن معايير الصواب والخطأ وما تتسم به من حدية، فكل التأويلات تقف معا على قدم المُساواة.[2]

   

   

لكن بما أن الأعمال الفنية لا توجد في فراغ، بل تولد داخل سياقات ثقافية واجتماعية، نجد أن تلك السياقات نفسها هي مَن تعود لتُحدِّد بشكل عام الكيفية التي ستُفسِّر بها شرائح واسعة من الجمهور العمل الفني. لذا، فعملية التلقي ليست عملية عشوائية ولا بسيطة، ففيها يتفاعل العمل الفني -في تلك الحالة أغنية "سالمونيلا"- مع ثقافة المتلقي وتجاربه السابقة ليُنتجا معا فهما خاصا به للأغنية. ولهذا سنجد أن تعدُّد تفسيرات الأغنية يعود بشكل أساسي لتعدُّد الخلفيات الثقافية والبيئات الاجتماعية والتجارب الحياتية التي كوّنها المتلقون حول موضوعها. للثقافة والمناخ الاجتماعي والتجارب الحياتية دور ليس بالصغير إذن في عملية التلقي، لهذا، دعونا نُلقي نظرة على كل تلك العناصر فيما يخص موضوع الأغنية: الذَّكَر الذي لا يُحبّ أن يسمع كلمة "لا".

   

اللاتي قلن "لا"

يوجد في الثقافة العربية موروث ثقافي طويل يحط من رأي المرأة ولا يعتد به. بعضها مغلوط دينيا، والآخر يستند على العادات أبوية قبَلية. وغالبيتها يستتند على موروث ثقافي يعتبر النساء كائنات لا رأي حقيقي لها، بينما يعطي الرجل الحق في تفسير صمت المرأة على أنه قبول به.

 

في ظل ذلك الموروث الطويل، ترى نسبة ليست بسيطة من الرجال، أنه من الطبيعي والمتوقع أيضا أن مجرد تودده للمرأة، سيقابله قبول فوري، بل وأنها ستقع في غرامه ساعتها. وإن حدث وتجرأت فتاة ما على رفضه، سيشعر أن رجولته مجروحة ومُهانة، وأن تلك الفتاة أذلّته، ومن ثم يصير عليه أن يردّ الصاع صاعين، ويُوقع عليها العقاب.

  undefined

  

تقول عن هذا الناشطة النسوية غدير أحمد في مقالها عن الأغنية: "ترتبط علاقة الرجل بنفسه بمدى هيمنته وسيطرته على النساء من حوله، وبمدى قدرته على الوصول لنساء لا يوجدن عادة في محيطه الاجتماعي. يتغذى تخيله عن رجولته على علاقته بالنساء في العموم. عندما يستشعر الرجال الرفض أو يسمعون كلمة "لا" يحدث خلل في علاقتهم بأنفسهم، وبرجولتهم التي يعتقدون أنها تتمثّل في "الحصول" على النساء. في عالم الرجال، يُوصم الشخص الذي لا يحصل على مراده أنه "ليس رجلا حقيقيا"، أي إنه فقد ركنا أساسيا من أركان رجولته حينما نقول "لا"، يرتبك الرجال ويشعرون أن هناك شيئا خاطئا. يصبّون غضبهم على النساء بالعنف".[3]

   

بالانتقال من المناخ الثقافي والاجتماعي إلى محيط التجربة الشخصية، لم يحتج الأمر من كاتبة التقرير إلا إلى طرح سؤال عابر على مجموعة من الفتيات: "احكي لنا عن موقف رفضتِ فيه رجلا ولم يتقبل الأمر"، لتنهمر القصص. من بعض ما وصل لنا في "ميدان"، قول إحدى الفتيات: "حدثني أحد الشباب ذات مرة عن طريق الإنترنت وطلب رقم والدي ليتقدم لخطبتي. كنت في 19 من عمري وأبواي يرفضان تزويج بناتهن قبل إتمام الدراسة. اعتذرت له عن طلبه بلباقة، لأجده يرد عليّ بشتائم خادشة للحياء تبعها بصورة لعضوه الذكري. أخذت أبكي ولم أجرؤ أن أحكي ما حدث لأحد". وحكت أخرى لـ "ميدان": "حاول أحد الشباب أن يتودّد إليّ، وعندما رفضته، وصل لأهلي وأخبرهم إنني تزوجته سرا، وأخذ بضع صور عادية لي وركبها على جسد فتاة أخرى وكتب عليها شتائم وإهانات في حقي ورفعه على يوتيوب. وبعد أن ارتبطت بشاب آخر، أخذ يحاول أن يُفسد علاقتي به، ولم يتوانَ عن تهديدي أنه مهما فعلت، فإنه سيجد طريقة ويتزوجني رغما عني".

   

ويحتفظ محرك البحث غوغل بقصص تجاوز فيها عنف بعض الرجال الذين تعرّضوا للرفض حدّ التحرش والتهديد، ليصل إلى الاغتصاب والتشويه. في إحدى القصص، يُلقي طليق إحدى النساء عليها بالأسيد ويشوّه وجهها بعد أن تنامى إليه خبر خطبتها بآخر، كان آخر ما سمعته منه والأسيد يكوي وجهها هو: "لو مش هتكوني ليا مش هتكوني لحد تاني"، ما يمكننا أن نعدّه تنويعا أكثر عنفا على "عشان تبقي تقولي لأ"، واغتصب آخر فتاة بعد أن رفضت الزواج منه، وفتح الثالث النيران وقتل فتاة وعائلتها بعد أن أقدمت على فسخ خطبتهما.

    

في ظل ذلك المناخ، يصبح من الطبيعي بل والمتوقَّع أن تُصيب كلمات أغنية "سالمونيلا" بعض متلقيها من النساء ذوات التجارب الأليمة مع الرفض -وهن لسن بالقليلات- بالصدمة والخوف من أن تُشجِّع الأغنية مزيدا من الرجال على التمادي في عنفهم ضد المرأة. ومن الطبيعي أيضا أنهن لن يرين أي شيء "مضحك" في الأغنية، ولن يفهمن كلماتها على أنها سخرية من ذلك النوع من الرجال على قدر ما هي تمثيل لهم. وهنا، علينا أن نتساءل: هل ذلك الخوف مبالغ فيه فعلا وغير مبرر؟

     

     

الذين غنوا: "عشان تبقي تقولي لأ" 

من السذاجة أن نتخيَّل أن أحدهم سيستمع إلى أغنية "سالمونيلا" ثم ينطلق في ترويع النساء والتحرش بهن، فالمتلقي ليس بأبله، ولن يُحرِّكه عمل فني ويدفعه للإتيان بفعل ما مخالف لطبيعته. لكن ماذا عن أولئك الذين يرون في التحرش وممارسة العنف ضد المرأة أشياء عادية ومبررة؟ بالتأكيد ستختلف الطريقة التي يتلقّون بها الأغنية.

   

على مواقع التواصل الاجتماعي، حوّل آلاف الشباب الأغنية إلى "ميمز" وأخذوا يشاركون من خلالها صورا بها عنف صريح ضد المرأة ويضعونها في إطار ساخر. فشارك أحدهم مشاهد شهيرة من فيلم "هي فوضى" لأمين الشرطة حاتم -الذي أدّى دوره الراحل خالد صالح- يغتصب الفتاة نور -التي لعبت دورها منة شلبي- بعد أن رفضت الزواج منه.

  undefined

  

وشارك آخر صورة لخبر تفجير شاب لفتاة في السابعة عشرة من عمرها بقنبلة يدوية بعد رفضها الارتباط به، وفوق كل تلك الصور جاءت عبارة "عشان تبقي تقولي لأ" بجانبها وجه ضاحك، بينما كتب آخر يقول: "للأسف كنت عايز أشارككم الترند ده بس مفيش واحدة تقدر تقولي لأ".

  

     undefined

    

undefined

   

في كل تلك النماذج مثال صريح للشاب الذي جاء في أغنية "سالمونيلا" الذي حاول تميم يونس -كما قال في الفيديو المنشور على صفحته- السخرية منه. لكن من الواضح بجلاء أن كل أولئك الشباب لم يفهموا ما جاء في الأغنية على أنه سخرية من ذلك النموذج، بل على أنه احتفاء به. لِمَ لا؟ فما يقوله تميم يونس على لسان ذلك النموذج في الأغنية لا يختلف أسلوبه كثيرا عن الأسلوب الذي يتبعه هؤلاء، من الكلام المعسول والوعود الوردية لاستمالة الفتاة، إلى الهجوم الشرس عليها كعقاب لها على نطقها بـ "لا". فقد رأوا في تميم هنا انعكاسا مُحبَّبا لهم، ويبدو أن شريحة عريضة من هؤلاء لم يصل لهم مقصد تميم -كما عبَّر عنه بعدها- في السخرية من ذلك النمط. ولأن مقصد تميم كمؤلف للأغنية لا وزن حقيقي له وفقا لنظرية موت المؤلف، فلا يبقى أمامنا هنا سوى الأغنية لتتحدّث عن نفسها، لكن يبدو أن ما قالته الأغنية في ذلك الصدد كان له تأثير عكسي على عدد ليس بقليل من الشباب.

  

في أحد الحوارات، قال منتج الأغنية بجاد عمران مدافعا عنها: "لا يوجد أى هجوم أو إساءة تجاه المرأة، على العكس، نحن نسخر من الرجال، وليس النساء، ومَن سيرى الأغنية سيفهم ذلك قطعا". يبدو من ردود فعل بعض الشباب التي أدرجناها أن ما افترضه عمران من قطعية فهم كل المتلقين للأغنية بالشكل الذي وصف هو افتراض خاطئ ببساطة. فقد صوّر تميم يونس في أغنيته المتحرش بشكل في أحيان كثيرة جذّاب، فهو فتى خفيف الظل ورومانسي، ذو مظهر أنيق، وينتمي لطبقة اجتماعية يبدو عليها الرفاه، ولا يظهر وجهه "الآخر" سوى كرد فعل لرفض الفتاة، ما قد يجعلها في نظر البعض هي المسؤولة بشكل أساسي عن تحوّله. وما زاد الطين بلّة هو عدم وجود امرأة في الفيديو لتُمثِّل وجهة نظرها فيما حدث، وتعطينا منظورا آخر يوازن القصة، وهو ما عبّرت عنه الناشطة النسوية روزانا إيزيس ناجح في حوارها معنا. وحتى التحوُّل الذي أصاب الشاب في الأغنية حينما رفضته الفتاة وانقلب معه من الوداعة إلى العنف لن يحطّ في نظر الكثيرين من شأنه، بل على العكس، فقد يزيد من إعجباهم به، ففي ثقافة شعبية تتغنّى بقيم الفحولة ولا تستوعب رفض المرأة، سيصير رد فعل الفتى في الأغنية طبيعيا للغاية.

   

ومن هنا، لم يجد عدد ليس بالقليل من الشباب في نموذج الفتى بـ "سالمونيلا" مثالا مُنفِّرا يسخرون منه، بل صورة جذابة يتماهون معها. كيف لا، وتلك الصورة تتفق ومعايير الكثير منهم الخاصة عن الرجولة. ففي ظل عدم وجود سيطرة حقيقية من الفنان على الطريقة التي سيُؤوِّل بها الجمهور فنه، وفي ظل استناد ذلك الجمهور إلى مرجعيات ثقافية واجتماعية معينة يُؤوِّل خلالها ما يشاهده، تصبح تلك المرجعيات هي المتحكّمة بشكل رئيسي في المعنى النهائي الذي سيصل إلى الجمهور.

    

فهمت النخب بحكم الأرضية المشتركة ما أراد تميم أن يقوله، لكنّ أعدادا ليست بالقليلة ذهبت إلى عكس المعنى الذي وصفه تميم تماما
فهمت النخب بحكم الأرضية المشتركة ما أراد تميم أن يقوله، لكنّ أعدادا ليست بالقليلة ذهبت إلى عكس المعنى الذي وصفه تميم تماما
    

وفي سياقات المجتمع المصري، حيث الموروث الثقافي الطويل الذي يحط من شأن رأي المرأة ولا يضع رفضها أو موافقتها محل الاعتبار، والواقع الاجتماعي الذي يسيطر فيه العنف ضدها بشتى الأشكال -من التحرش الإلكتروني وحتى الاغتصاب والتشويه والقتل- على المشهد، يصبح من الطبيعي بل من المتوقَّع أن عددا ليس بالقليل من المتلقين لن يرى في الأغنية سخرية من المتحرش، بل احتفاء به، وذلك بصفة خاصة في غياب ما يُنفِّر منه بشكل واضح في الصورة التي يرسمها تميم له بالأغنية.

  

لكل تلك الأسباب، فإن "نكتة" تميم هنا، كما وصفها البعض، غير مُوفَّقة، فالنكات تفترض من كاتبها وقوفه على أرضية مشتركة مع الجمهور، بحيث يقترب المعنى الساخر الذي أراد كاتبها وصوله من المعنى الذي يصل بالفعل إلى المتلقي. لكن هنا نجد أن تميم يقف فوق أرضية أخرى تماما، أرضية النخب الثقافية والاجتماعية التي تتميز بثقافة مغايرة عن الجموع وتفهم بالفعل أن المرأة كائن كامل له آراء ومواقف يجب احترامها، ويتحدّث من فوق تلك الأرضية إلى جموع تستند إلى موروث ثقافي مغاير لا يحترم المرأة ويرى في العنف ضدها بشتى أشكاله أمرا مقبولا. فهمت النخب بحكم الأرضية المشتركة ما أراد تميم أن يقوله، لكنّ أعدادا ليست بالقليلة ذهبت إلى عكس المعنى الذي وصفه تميم تماما. وهنا، لا يمكننا أن نلوم تلك الجموع ونصفها بـ "الغباء" -كما فعل البعض- لأنها لم تفهم "النكتة"، فاللوم الحقيقي هنا يقع على قائل النكتة الذي لم يعرف كيف يُعبِّر عنها لتصل للجميع بالشكل الذي أراد.

 

لن يستمع شاب ما إلى "سالمونيلا" ثم ينطلق للتحرش بالنساء، لكن كلمات تميم في الأغنية ستتحوّل إلى صوت جديد في جوقة مليئة بصيحات العنف ضد المرأة، وربما في المرة القادمة التي يروّع فيها أحدهم فتاة لأنها رفضته، سيضحك في مكر وهو يقول: "عشان تبقي تقولي لأ". ويبقى السؤال: ما الطريقة الأمثل مجتمعيا مع الأعمال الفنية التي تُعبِّر عن آراء يراها البعض مؤذية؟

   

وماذا بعد؟

بُعيد نشر تميم يونس "سالمونيلا" بأيام، تقدَّم المجلس القومي للمرأة بشكوى لإدارة موقع غوغل طالب فيها بوقف بث الأغنية.[4] واليوم، إن توجَّهت إلى حساب تميم على فيسبوك حيث نشر "سالمونيلا"، وحاولت أن تلعبها، ستواجهك الرسالة الآتية:

  

حجب موقع فيسبوك الفيديو تحت دعوة احتوائه على
حجب موقع فيسبوك الفيديو تحت دعوة احتوائه على "محتوى قاسٍ لا يُراعي مشاعر الآخرين" (مواقع التواصل)

  

رأى بعض المتضررين من الأغنية إذن أن الحل الأمثل لمواجهتها هو منعها تماما. يوقعنا هذا مرة أخرى في شَرَك ثقافة المنع والحجب، حيث يلجأ الطرف الذي لا يعجبه محتوى ما إلى محاولة إيقاف بثه تماما، لكن هل هذا هو الحل الأمثل حقا؟

 

ربما يبدو أن خرس الأصوات التي يبدو كونها مؤذية هو أفضل طريقة لمواجهتها، لكن الحقيقة أن هذا أسلوب قمعي، ولم يتمخّض عن القمع يوما أي شيء إيجابي. إنه الحل الأسهل، لكنه ليس الحل الأفضل. فوجود أصوات وآراء مختلفة وحتى متضادة معا على الساحة يخلق حالة من الحوار، يحاول فيها كل طرف إقناع الآخر بوجهة نظره. يُثمر هذا الحوار أحيانا عن أعمال فنية يحاول فيها كل شخص أن يصوغ وجهة نظره بشكل عملي، فمثلما صنع تميم يونس اليوم "سالمونيلا" ليُعبِّر عن مأخذه على التحرش بشكل أضحك البعض وأثار حنق البعض الآخر، ربما سنجد غدا فنانين آخرين يصوغون وجهة نظرهم وتجاربهم مع التحرش بشكل أفضل. فهكذا هي حالة الحوار الثقافي والفني، تتشابك وتختلف أصوات مختلفة معا على الساحة، فينتج عن تشابكها حوار مجتمعي واسع يزيد وعي الكثيرين، ويتبلور في أعمال فنية جديدة تنشر القضية لشرائح أوسع وتأخذها لفضاءات أبعد. لكن حتى يحدث ذلك الخلاف البنّاء، لا بد أن تُكفَل حرية التعبير عن الرأي للجميع، وهو ما تأتي عليه تماما ثقافة المنع والحجب.

  

عندما يُخرِس أحد الطرفين صوت الطرف الآخر عنوة، يقضي في هذا على حالة الحوار البنّاء، ويأخذنا إلى ديكتاتورية الصوت الواحد الهدّامة بالضرورة، وهو ما عبّر عنه رسام الكاريكاتير "أنديل" على حسابه الشخصي على فيسبوك: "المستوى الفكري المتدني بتاع معظم الأعمال الفنية المصرية سببه إن المجال مش مفتوح قصاد قيم متنوعة ومختلفة ومتنافرة عشان تتنافس فيما بينها وتعبر عن نفسها وتطور مفرداتها ولغتها وأعمالها الفنية، المجال فقط مفتوح قدام الفنون الترفيهية المبتذلة الخالية من أي أفكار أو تعبير حقيقي عن مشاكل الناس، وأي حاجة غير ده بتتفعص وتختفي من المجال العام بالقوة، الصح إن الفنون اللي بتعبر عن الجماعات اللي مش واخدة حقها ما تتمنعش، والفنون اللي بتناقش مشاكل مثيرة للجدل ما تتمنعش، وكله يتساب يطور بعضه".[5]

  

في العام 1758، نشر الفيلسوف الفرنسي فرانسوا أدريان هيلفاتيو كتابه "عن العقل". أثار الكتاب حالة جدل واسعة قرر معها البرلمان الفرنسي حرق الكتاب في ميدان عام. لم يُعجِب الكتاب الفيلسوف الفرنسي فولتير، واختلف مع كاتبه في الكثير من النقاط، لكن ما أثار حفيظته بحق لم يكن الكتاب، بل قرار منعه، وقد كان حينها أن قال عبارته الشهيرة: "قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك".[6] ما نحتاج إليه حقا اليوم، مثلما رأى فولتير ومثلما عبّر أنديل، هو مزيد من الحرية وليس مزيدا من القمع.[7]

المصدر : الجزيرة