شعار قسم ميدان

فيلم "lightyear".. هل تكتب "المثلية" شهادة وفاة ديزني بلس؟

كنا واقعين بين الطفولة ومشارف النضج حين سقطنا في حوض من أسماك البهلوان زاهية اللون، حيث تعرفنا إلى مارلين الذي ينطلق دون كلل في البحث عن (صغيره) نيمو، قبل أن يصادف أثناء رحلته دوري، وهي سمكة زرقاء خفيفة الظل، سريعة النسيان. خطونا على السواحل الجافة، ومددنا البصر حيث قامت أرض العزة التي تسيَّدها "الملك الأسد"، وفرَّ منها خليفته سيمبا وهو لا يزال شبلا ساذجا يلتهمه الجزع، دفعت به الأقدار نحو نمس وخرتيت يتخذان من الأدغال مأوى لهما هما "تيمون وبومبا". وفي غابة أخرى مماثلة يشتد عود "طرزان" وسط قبيلة من الغوريلات، وبين الأغصان المتشابكة في أرض نيفرلاند يتوافد كل طفل يرفض أن يمضي به العمر ويكبر مثل "بيتر بان".

طالما احترفت "ديزني" ابتكار أعمال تمتثل لرؤيتها الترفيهية متعددة الثقافات والأعمار، لتسرد أطنانا من الحكايات بالرسوم المتحركة التي لم تكن قد شاعت بعد. وقد أكسبها هذا التوجُّه قاعدة جماهيرية عريضة مَكَّنتها من تكوين إمبراطورية تعاظم صيتها عاما بعد عام. وفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، أطلقت "ديزني" منصة البث المباشر "ديزني بلس" في الولايات المتحدة وكندا وهولندا، قبل أن تتوسع لاحقا في العديد من الدول الأوروبية.

بعد ذلك، صرَّحت "ديزني" أنها بصدد إصدار نسخة عالمية من منصتها التي كنزت فيها روائع خاصة بعد استحواذها على مجموعة فوكس (21st Century Fox) العريقة، إلى جانب إدارتها لأكثر أستوديوهات الأفلام نجاحا حول العالم مثل "بيكسار" و"مارفل". وفي الثامن من يونيو/حزيران الحالي (2022) أعلنت "ديزني" رسميا إطلاق منصتها الإلكترونية في الشرق الأوسط، لتشعل منافسة حادة في قطاع البث في المنطقة الذي تهيمن عليه في الوقت الراهن شركة "نتفليكس" (Netflix) بأكثر من 6.8 ملايين مشترك، وذلك وفقا لبيانات أبحاث التلفزيون الرقمي (Digital TV Research).

اتخذت "ديزني" قرار إنشاء منصة البث المباشر خلال الوقت الذي شاع فيه وباء "كوفيد-19" وألزم الجميع ديارهم، حيث هبط سعر أسهم الشركة وتقلَّصت أرباحها وقلَّت عائدات شباك التذاكر والمنتزهات الترفيهية، حينئذ قرَّرت "ديزني" أن التوقيت مثالي لطرح منصتها، مثالي إلى حد أنها حصلت على 50 مليون مشارك خلال ستة أشهر، وهو رقم تعدى طموحها بكثير.

لكن "ديزني" لم تكد تُدشِّن أعمالها في الشرق الأوسط حتى واجهت عاصفة لم تكن تتوقعها: حملات شعبية ودعوات رسمية واسعة لمقاطعة المنصة التي دشَّنت عملها في المنطقة تزامنا مع طرح فيلم "لايت يير" (Lightyear)، الذي انطوى على مشهد قُبلة بين امرأتين مثليتين، في انتهاك واضح لثقافة المنطقة ومعايير المحتوى الإعلامي السائدة فيها.

يتناول الفيلم شخصية رائد الفضاء الخيالية "باز يطير" (Buzz Lightyear) التي قيل إنها ألهمت أفلام "حكاية لعبة"، شارك في تأليف السلسلة نخبة من صُنَّاع الأفلام على غرار جون لاسيتر وبيتي دكتور وأندرو ستانتون وجوي رانفت. وقد جلس طاقم عمل "ديزني بلس" مع توماس ماشبورن، الفيزيائي ورائد الفضاء في وكالة ناسا، الذي عاد حديثا من رحلته إلى محطة الفضاء الدولية لاستيعاب حقائق السفر إلى الفضاء وإقامة الفيلم على أسس علمية وتقريب المجازات السينمائية.

لكن بسبب المشهد المذكور، عُلِّق عرض الفيلم فيما لا يقل عن 14 دولة من دول شرق المتوسط وآسيا حتى الآن، وعجز عن تحقيق إيرادات عالية، الغريب في الأمر أن "ديزني" كانت قد قطعت المشهد المشار إليه آنفا من الفيلم تماما، لكنَّ أحداثا جرت استدعت بحسبها أن تُعيده من جديد، رغم كل التداعيات المحتملة التي يبدو أنها فاقت توقعات "ديزني" وتقديراتها.

"لا تقل مثلي!"

انطلقت الشرارة في مارس/آذار من العام الحالي (2022)، إثر إقرار حاكم فلوريدا رون دي سانتيس قانونا جديدا (1) في الولاية يُدعى "لا تقل مثلي" (Don’t say gay)، ينص على منع جميع المدارس من خوض مناقشات تتعلق بالميول أو التوجهات الجنسية وذلك حتى الصف الثالث، من منطلق تدعيم حق الأب والأم في تربية أبنائهم واصطفاء ما يناسب ثقافتهم أيًّا كان الوسط الذين يعيشون فيه، وفي حال لقَّنت المدرسة تعاليم تخالف مبادئ الأب والأم يمنحهم القانون شرعية رفع قضية على المنطقة التعليمية التابعة لها المدرسة (2).

يُجبِر القانون كذلك المدارس على التزام الشفافية المطلقة في حال تقديم خدمات الصحة العقلية لأبنائهم، ومصارحتهم سابقا بنوعية الخدمة والأفكار التي ستُقدِّمها لهم، ما نُظر إليه بوصفه إقرارا ضمنيا بأن أفكار ما يُعرف بـ"مجتمع الميم" لا تناسب كل الفئات العمرية وبحاجة إلى رقابة خاصة مع فئة كالأطفال (3) على استعداد لقبول أي فكرة كمعتقد والتسليم بها وتجريبها بدافع الفضول.

ونتيجة لذلك، اختار الرئيس التنفيذي لشركة "ديزني"، بوب تشابك، في البداية النأي بنفسه عن اتخاذ موقف علني من القانون، لكنه اضطر بعد الضغط للإعراب عن اعتراضه الصريح والقاطع على قانون فلوريدا، مُتعهِّدا بتقديم 5 ملايين دولار للمنظمات التي تعمل على حماية حقوق المثليين (4). فما كان من ولاية فلوريدا إلا أن سحبت من شركة "ديزني" المزايا الضريبية التي اعتادت على تقديمها لها (5)(6)، ودون أن يدري وجد تشابك نفسه أمام أمواج من الحانقين.

موظفو ديزني يحتجون على مشروع قانون فلوريدا "لا تقل مثلي".  (وريترز)

أبت الأوضاع إلا أن تزداد سوءا واشتعالا، حيث نظَّم بعض الموظفين من داخل "ديزني" مسيرات احتجاجية سارت في أنحاء أميركا ناعتة الشركة بالفاشية، وأصدر مثليون في "بيكسار" خطابا مفتوحا ينتقدون فيه حذف "ديزني" المتكرر "للقطات التي تُمثِّلهم"، ما يعوقهم عن إنشاء محتوى "يمكن أن يساهم في إصلاح التشريعات التمييزية في العالم"، وذلك بحسب تعبيرهم، طارحين أمثلة مثل أفلام "لوكا" (Lucca)، و"روح" (Soul)، و"إنسايد آوت" (Inside Out).

توسَّعت الحملات الداعية إلى إدانة "ديزني" ومقاطعتها على الجانبين، وعزَّز الموقف أن تحذو عدة ولايات مثل أوهايو ولويزيانا حذو فلوريدا، واتجاهها نحو إقرار قوانين تمنع المدارس من تقديم أي محتوى مُوجَّه حول التوجُّه الجنسي حتى الصف الثامن، مع إجبار المدرسين على الامتناع عن الإشارة إلى ميولهم أو توجُّههم الجنسي (7).

في النهاية، رضخت "ديزني" لضغوطات مجتمعات المثليين وقبلت إضافة المشهد من جديد، وأُكره تشابك على الاعتذار، حتى إن جالين سوسمان منتجة أفلام "حكاية لعبة" (Toy Story) و"لايت يير" (Lightyear) حاولت إيجاد مبرر لوجود المشهد (8)، زاعمة أن العلاقة المثلية بين المرأتين ساعدت في تحسين أحد خطوط الفيلم وتصوير عُزلة "باز يطير"، وهي حجة متهافتة فنيا، كما يظهر من تنحية "ديزني" نفسها لهذا الخط في إحدى المراحل.

وسط احتدام الأحداث، جرى تداول مقطع فيديو قديم يُظهر رئيسة المحتوى الترفيهي في "ديزني" كيري بيرك وهي تؤكد نية الشركة تحويل 50% من شخصياتها الكرتونية إلى شخصيات مثلية، بسبب شكوى من أحد أبنائها حول ضعف تمثيل مجتمعات المثليين في أفلام الشركة وبين شخصياتها الرئيسية، وعقَّبت بيرك بالقول إن هذا التحوُّل لا يعني فقط ظهور مشاهد المثليين في أفلام "ديزني"، ولكنه يعني أيضا أن يكونوا أبطالا للقصص ومحورا للحكايات الرئيسية. ولنا أن نتصوَّر قرارا بذلك الحجم قد فُرض بناء على محض تجربة شخصية ضيقة (9).

محنة ديزني الأخيرة

فجَّر ذلك ردود فعل حادة، لا سيما بعد أن نعت الممثل كريس إيفانز الذي قام بأداء صوت "باز يطير" الأشخاص الذين لا يتفقون معه بـ "الحمقى". وفي النهاية، لم يجد الآباء والأمهات بُدًّا من حرمان أطفالهم من مصدر متعة تعلَّقوا به شطرا من طفولتهم، ومنهم بن شابيرو مؤسس شركة "ديلي واير ميديا"، الذي ذكَّر ​​أن هدف "ديزني" يجب أن يكون هو الحفاظ على براءة الأطفال وليس محاربتها استجابة لضغوط مجموعة صغيرة وراديكالية من الموظفين الذين يحتاجون إلى التحقق من صحة خياراتهم في الحياة.

بدورها، دعمت المذيعة الأميركية ميجن كيلي ذلك الموقف، وعبَّرت عن رفضها تقديم "ديزني" لهذا النوع من المحتوى، مؤكِّدة أن الأَولى هو تقديم أفلام تُعلِّم الأطفال اللطف والتسامح. وبالنظر إلى الإيرادات، فقد حقَّق الفيلم إلى الآن 51 مليون دولار محليا، و84 مليون دولار في جميع أنحاء العالم، وبالمقارنة مع تكلفة إنتاج الفيلم التي تصل إلى 200 مليون دولار، تُعَدُّ هذه خسارة فادحة (10).

فهل تتراجع "ديزني" عن قرارها أم تمضي قُدما فيه رغم خسائرها؟ لا نعرف بعد، إنها معركة مستمرة بين أطراف عدة، وهي معركة سياسية في أصلها، لكنها تُعَدُّ فرصة للمنصات الصغيرة وصُنَّاع الأفلام لإنتاج محتوى يجد قبولا من الجمهور الذي لا يريد جعل أطفاله رهنا لهذا النوع من الأفكار حول العالم وفي الوطن العربي خاصة، لأن "ديزني" لا شك ستترك فراغا هائلا إذا أصرَّت على سياستها الجديدة.

________________________________________

المصادر:

  1. What Florida’s ‘Don’t Say Gay’ bill actually says (nbcnews.com)
  2. So, What Exactly Is The ‘Don’t Say Gay’ Law & How Does It Affect You?
  3. What Does ‘Don’t Say Gay’ Actually Say? – The New York Times (nytimes.com)
  4. Disney CEO says company opposes ‘Don’t Say Gay’ bill in Florida (cnbc.com)
  5. Disney employees ‘angry’ over response to Florida LGBTQ bill – Los Angeles Times (latimes.com)
  6. Disney employees slam Bob Chapek’s ‘Don’t Say Gay’ bill remarks (nypost.com)
  7. Disney employees against the "Don’t say gay" bill – Teller Report
  8. A Conversation With Lightyear’s Angus MacLane, Galyn Susman, and Thomas Marshburn | Disney News
  9. #BoycottDisney Is Trending. Here’s Why – Disney Dining
  10. Why Disney Lost Us On ‘Lightyear’: It Starts With a False LGBT Activist Narrative – RedState
المصدر : الجزيرة