توفيق صالح.. لماذا تفشل السينما المفيدة؟
في شُرفته المطلة على نهر النيل، يجلس توفيق صالح وحيدا دون عمل، لم تكن هذه المرة الأولى الذي يشعر فيها أنه منبوذ، فقد كانت حياته بأكملها نموذجا للغربة، رجل يحمل أفكارا لا تشبه تلك الرائجة التي تحقق أرباحا في الأسواق، ويتصف بطبع حاد وحازم ولا يتهاون بشأن ما يعتقد أنه صحيح وإن تورط في نزاع مباشر مع من بيدهم مقاليد الأمور، لم تشفع له سنوات دراسته للسينما في فرنسا وثقافته واطلاعه المستمر على الفلسفة والأدب، ولا اللغة الخاصة والمميزة التي خط بها أفلامه التي استوحى معظمها من أعمال أدبية؛ ورغم كل ما كان يعد به مشروعه من تقديم سينما تحمل موقفا وتبحث في إمكانات اللغة السينمائية إلا أنه وخلال مسيرته كلها لم يتمكن سوى من إخراج سبعة أفلام فقط.
يرى هادي زكاك أن توفيق صالح حاول تقديم سينما مفيدة "بالمعنى الذي تحدث عنه أرباب الواقعية الجديدة في إيطاليا (بالأخص الثنائي زافاتيني دي سيكا) سينما تتحدث عن قضايا المجتمع وتحمل بعدا سياسيا وتعكس زمنها"؛ يقول توفيق صالح عن هذا: "كنت في بداية عملي في السينما أسير في الطريق الآخر، وقد كلفني ذلك الكثير، ولكنني لست نادما. فليس هناك بالنسبة لي اختيار بين صنع سينما استهلاكية يمكن الاستغناء عنها أو سينما ملتزمة تحاول الإسهام في تغيير الواقع الذي أعيش فيه". (1)
"السينما أداة تغيير لا تكريس لتخلف الواقع ودغدغة مشاعر الجماهير قبل النوم مع كل الأماني الطيبة بأحلام سعيدة"
(توفيق صالح)
ورغم أن أربعة من خمسة أفلام أخرجها في مصر تم اختيارها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في السينما المصرية الذي اختارها معظم نقاد وسينمائيي مصر، إلا أن التلفزيون المصري والقنوات تجاهلت عرض أفلامه بدعوى أنها "سينما للمثقفين"، لقد حارب الكثيرون توفيق صالح على مدار حياته، لأنه أراد أن يكون له صوت متفرد ومختلف عن السائد، فدفع الرجل ثمن مواقفه السياسية والفنية غاليا، من تضييق في الرزق ومحاربة من الرقابة وتضييق من المؤسسات الرسمية وغربة في الداخل والخارج. (2)
كان معروفا عنه في الوسط السينمائي أنه لا يريد أن يعمل، فكلما يأتي الحديث أو السؤال عنه من المتحمسين للسينما يُقال لهم أنه لا يريد العمل أو لا يوجد لديه ما يقدمه، لكن يبدو أن هذه لم تكن الحقيقة، ففي حوار مطول أجراه معه بلال فضل ورفضت كل الصحف نشره كاملا، حكى الرجل عن كم المشاريع المهول الذي كان يسعى لتنفيذها، ولكي يُكذب ما كان يقال عنه أنه لا يصنع سوى الأفلام السوداوية، بحث عن مشروع فيلم كوميدي غنائي كان يمثل حلما قديما لديه، إلا أن أحدا لم يستجب. (3)
وعندما قرأ تجربة كتاب المثقفة أروى صالح الذي تسرد فيه تجربة جيل السبعينيات وإحباطاته،" والتي للأسف انتحرت يأسا وألما"، قرر أن يعمل على فيلم مستوحى من تجربة هذا الجيل لكن للأسف لم يجد منتج، و"في ذلك الوقت كانت وزارة الثقافة يرأسها فاروق حسني فكانت تصم آذانها عن فكرة إعادة الإنتاج السينمائي أو دعم السينما أو حتى التدخل بقرارات تنقذ أوضاع السينما". (4)
يقول صالح: "أحلم بأن أصنع فيلما يحتوي على صورة مختلفة بمكان ذي طبيعة متسعة"، لقد كان لديه رغبات سينمائية معينة مثل رواية نجيب محفوظ "يوم قتل الزعيم" الذي كان يرغب في تحويلها لفيلم واشترى حقوقها وبدأ كعادته في أغلب أفلامه في كتابة سيناريو لها، وبحسب المعتاد فقد توقف المشروع دون أن يعرف أحد الأسباب، كما كانت لديه رغبة في إنتاج فيلم عن "عصر المسيح" وقد رغب يوسف شاهين في إنتاجه، ولكن ذلك لم يحدث أيضا. (5)
كان يقول إنه كلما وجد من يعمل بجواره، تفاجأ بعد مرور أسبوع أو اثنين باعتذاره عن العمل، ليكتشف فيما بعد أن هناك من الزملاء من يعملون على التحذير منه بقولهم إنه رجل ذو أفكار غريبة يختلق المشكلات؛ ومن كثرة التجاهل والرفض الذي لقيه اعتزل الرجل وقرر وقف سعيه في البحث أو الذهاب إلى أحد مرة أخرى، احتراما لنفسه وكرامته، وظل ما يقرب من ثلاثين عاما هي الأخيرة في حياته لم يصنع أي فيلم! (6)
عندما عرض الفيلم لم يحقق نجاحا جماهيريا يقول توفيق صالح: "عرض الفيلم في العيد، فأنا كنت بأروح أسمع الناس بتقول إيه وهي خارجة من السينما، في يوم ما لقيت ست بتتخانق مع جوزها وهما طالعين، قالت له دي فسحة تفسحني فيها، قال لها أسكتي يا (مره) ده فيلم واقعي، قالت له ما أنا عايشة فيه كل يوم، أنا عايزة أتفسح، دي كانت إشارة.. طبعاً الجمهور ما كانش متعود على هذا البناء.. هذا النوع من البناء وهذا النوع من القصص الفيلمي، فسقط.. الفيلم سقط جداً، بعد درب المهابيل لفيت برضه على كل منتجين البلد ولا واحد قبل يديني شغل، قال لك أنت عملت درب المهابيل كفاية عليك، لمدة خمس سنين ما لقيتش شغل"(10)
تدور أحداث الفيلم في قرية مصرية تعاني من وباء الكوليرا ويحاول البطل الطبيب -شاب مثقف- مواجهة المرض عن طريق نشر العلم ومحاربة امرض والفقر الذي كان يعتقد أن الجهل هو السبب فيهما، لكنه يكتشف أن المسؤول عن كل هذا هو الشخص الإقطاعي الذي يمتلك البلاد والعباد هناك ويسيطر على الناس ويدفعهم إلى التصرف كما يحلو له، أما من يحاول الخروج عن طاعته فإنه يختفي أو يرسل إلى مصحة الأمراض العقلية، هكذا يتصدى الطبيب للإقطاعي مساعداً السكان على المطالبة بحقوقهم مداوياً إياهم، يجسد الفيلم خطاب المرحلة الناصرية ومشروع تطوير المجتمع ومحاربة الإقطاع والفساد ونشر العلم، "لولا وجود الثورة والرغبة في تطوير البلد والوصول إلى مستقبل أفضل، لم يكن من الممكن كتابة السيناريو بهذا الشكل"(12)
أظهر الفيلم الوباء الحقيقي الذي يفتك بالشعب وهو الفقر والجهل من خلال الصراع بين الطبيب وقابلة القرية والذي كان يمثل العلم في مواجهة العادات والتقاليد المتخلفة، ورغم الصعوبات التي واجهها الفيلم بسبب رفض الصالات عرضه إلا أن سينما مترو وافقت على عرضه وحقق نجاحا كبيرا.
تدور قصة الفيلم حول مصحة حكومية ينقسم مرضاها إلى نوعين، الفقراء والأغنياء، لكن المصحة تهتم بالأغنياء وتترك الفقراء يموتون من المرض والإهمال والجوع، وهكذا يتمرد الفقراء وهم الأكثرية على إدارة المستشفى ثم تنتصر ثورتهم لكن ما يحدث بعد ذلك هو فشل كبير في إدارة المستشفى ويبدأ الفساد يظهر مرة أخرى وتعود المستشفى لحالتها الأولى قبل الثورة، يقول هادي زكاك:
"يطغى على هذا الفيلم الطابع السياسي بحيث يرسم بقساوة واقع مرحلة تصويره، كما يمكن الاستعانة به اليوم لتبيان الحالة المصرية والعربية بشكل عام بعد معظم الثورات الأخيرة"
"وزير الداخلية اشترط عرض هذا الفيلم لازم نفس المخرج يعمل فيلم ثلث ساعة عن الشرطة في خدمة الشعب، فجابوني وقالوا لي لازم تعمل فيلم عن الشرطة في خدمة الشعب بالألوان ولا يعرض فيلم يوميات نائب في الأرياف إلا الفيلم ده معه، فأنا قلت أنا ما أعرفش أعمل فيلم كده ورفضت، قعدت العملية شهرين رايحة جاية، فبدأ الوزير يكوّن لجنة أو لجان علشان تشوف الفيلم وتقول إيه اللي يُحذف منه،:جابوا الكتاب قرأوه ويشوفوا الفيلم، على أساس كانت وجهة نظرهم إنه يحذفوا أي حاجة أنا مزودها في الفيلم، كل ما حد كان يكلمني على ممكن حذف كذا أقول له دي في الكتاب، ده توفيق الحكيم وما فيش واحد مثقف مصري ما قرأش كتاب توفيق الحكيم"(14)
تناقش الرواية وبالتالي الفيلم بطريقة ساخرة فكرة "العدالة وانتقائية القانون والبيروقراطية والفساد والقهر"، يقول محسن ويفي: تبقى أوضاع الفلاحيين في نهاية الستينيات والأنظمة الاجتماعية (الداية، حلاق الصحة، الأمراض، الانتخابات..) خير شاهد على استمرار جوهر اليوميات وعدم تغييره. (15)
أخرج توفيق صالح السيد البلطي بعد ثلاثة شهور من الهزيمة العربية أمام إسرائيل في 1967، يصور الفيلم مجتمع الصيادين الذين عندما غاب عنهم قائدهم السيد البلطي، ذهب كل فرد منهما في طريق مختلف عن الآخر، وكأن السيد البلطي يشير لعبد الناصر الذي عندما ذهب تفكك كل شيء، يعلق صالح: "انطلق الفيلم من مفهوم أنه إذا قام الشعب بخلق أسطورة، من شخصية ما يتوقف عن العمل معتمدا على هذه الشخصية، التي ستعالج كل الأمور، وستحل المشكلات والنتيجة ستكون الهزيمة". (17)
يحكي الفيلم قصة ثلاثة فلسطينيين يحاولون الهرب إلى الكويت بحثا عن المال، فيضطرون إلى الموافقة على الاختباء داخل صندوق أو خزان وسوف يمر بيهم الصندوق خلال الصحراء بهدف عبور الحدود العراقية الكويتية، "يشبه صاحب الشاحنة أبو الخيزران الخزان بالمقلى ويعلن أن الخزان سيصبح من الداخل فرنا حقيقيا، أما أسعد فبمجرد أن يسقط رأسه داخل الخزان يعلن "هذه جهنم!". (19)
ويعد هذا الفيلم واحد من أهم الأفلام الأساسية التي تناولت القضية الفلسطينية بطريقة جدية في تاريخ السينما العربية، ويشكل الفيلم أيضا نموذجا عربيا مهما لأفلام الطريق "حيث الصحراء ليست كما في الأفلام الأميركية التي أنتجت في نفس الفترة، في أفلام ما سمي بهوليود الجديدة، شكلت الصحراء فضاء للتحرر من جميع القيود الاجتماعية، بينما الصحراء في فيلم المخدوعون ستكون المقبرة التي تتحطم فيها الأحلام وتحترق فيها الأرواح". (20) وكان توفيق صالح يرى أن بداية نضوجه كمخرج كانت مع فيلم المخدوعون، وكان يقول "يا خسارة أنا مشتغلتش بعد كده، ده كان ممكن يدفعني لحاجات أحسن بس محصلش"، ولم ينجو هذا الفيلم أيضا من مضايقات الرقابة في سوريا مما جعل توفيق صالح يفكر في تركها والانتقال إلى العراق بناء على تحذير أن ما قدمه لم يعجب القيادة وأن الأمر لم يعد مأمونا. (21)
في العراق أخرج صالح فيلمه "الأيام الطويلة" (1981) الذي يعتبره الكثيرون سقطة كبيرة في تاريخه، إذ لم يغفر له أحد إنجازه فيلم يحكي مسيرة صدام حسين رغم أن دافع عن نفسه كثيرا تارة بالامتناع عن الحديث عن الأمر وتارة بتصريحه أنه عاش ظروف استثنائية اضطرته إلى إخراج الفيلم ونفى تماما حصوله على أموال كثيرة ليخرج هذا الفيلم.(22)، بعد هذه التجربة الصعبة في التعامل مع النظام مباشرة في العراق، عاد توفيق صالح إلى مصر وكان يأمل في أن يكمل مشروعه لكن هذا لم يحدث أبدا.
عندما سئل توفيق صالح عن انشغاله بأن تكون أفلامه تعليمية سياسية، أن تعلم الناس شيئا، قال: في رأيي أن الفيلم إذا لم يضف إلى وعي المتفرج فلا قيمة له، وكذلك أي عمل إبداعي، يجب أن يكشف للمتلقى حقائق جديدة بالنسبة له.(25) ويبدو أن هذا التوجه لم يرق للكثيرين.
يرى محمود عبدالشكور أن توفيق صالح مخرج لديه وجهة نظر سياسية وفنية ولم يكن يتنازل أبدا عن تحقيق رؤيته، وفي الخمسينيات وفي ظل انتشار وسيادة السينما التجارية كان توفيق صالح يحاول أن يخرج بسينما مختلفة كثيرا عن السائد، وواجه الرجل مشكلات كثيرة مع المؤسسات الحكومية لأنه كان يرى أن الفيلم له دور وأهمية اجتماعية، بسبب هذه الرؤية الخاصة وإصراره على أن يحقق أعماله كما يراها هو وبسبب الظروف السياسية والبيروقراطية والتجارية التي كانت سائدة في تلك الفترة تقلصت عدد أعماله جدا.
وصل التضييق على الرجل لدرجة أنه وبالرغم من أنه كان واحد من شلة الحرافيش لم يتمكن من العمل مع صديقه نجيب محفوظ، فعندما باع نجيب محفوظ رواية السراب لمؤسسة السينما اشترط أن ينفذ الفيلم توفيق صالح لكن ما حدث أن ماجدة بطلة الفيلم رفضت ولم يستطع توفيق صالح حتى العمل مع صديقه الحميم فسافر بعدها، خصوصا بعدما حدث له مشكلة كبيرة بعد فيلم السيد البلطي وكان سيدخل السجن بسبب انه تحدى الرقابة.(24) أما هاشم النحاس فيرى أن نظرته النقدية للعمل الفني وموقفه الأخلاقي الحاد أيضا، يحرمه من المقامرة من إخراج أي فيلم دون مستوى طموحه، وما يرضى عنه لا يقوى الآخرون على قبوله وهذه هي أزمته الحقيقية.
ربما تعكس تجربة توفيق صالح المشكلة الكبيرة التي يعاني منها القطاع العام في وقت كانت ترفع فيه شعارات التغيير والثورة لكن الحقيقة أن الذين يتحكمون في صناعة الثقافة هم موظفون بكل ما يترتب على هذا الأمر من بيروقراطية وإهمال وجهل، ورغم قلة أعماله إلا أن أفلامه تركت سؤالا، هل تملك الأفلام القدرة على التغيير؟ وما الذي كان يمكن أن نراه لو اكتمل مشروع توفيق صالح؟
"السينما اليوم أصبحت شيئا غير التي كنا نحلم به.. كنا نحلم بأن تكون للعرب سينما راقية تعلم الناس وترتقي بهم وبأذواقهم، فبعد المحاولات الجادة، انحرفت السينما العربية وتلوثت وسلكت طريقا آخر تماما واهتمت بمواضيع تافهة وهابطة تخاطب غرائز الإنسان"
(توفيق صالح)