وحدة المضربين الفلسطينيين وتمزق السياسيين

فلسطين رام الله 30 نيسان 2017 عائلات شهداء تضرب عن الطعام تضامنا مع الأسرى في سجون الاحتلال

فلسفة الإضراب
فرص نجاح الإضراب
الأسرى يوحِّدون الشعب 

يخوض الأسرى الفلسطينيون والسوريون معركة الجوع في وجه مصلحة السجون الصهيونية لتحسين ظروف الاعتقال، ورفع العديد من القيود والإجراءات الصهيونية التي يمارسها الاحتلال ضدهم وضد أهاليهم الذين يأتون لزيارتهم.

وهذه ليست المرة الأولى التي يخوض فيها الأسرى إضرابا عن الطعام، بل تكررت الإضرابات عشرات المرات على مدى سني الاحتلال منذ عام 1967.

لا يملك الأسرى أسلحة لمواجهة الإضراب إلا هذا الإجراء المصنف مقاومة سلبية. وهو مصنف هكذا لأنه يُلحق أضرارا جسيمة بصحة المضربين، وقد يودي بحياة الأسير. لكن مثلما ينتصر الدم على السيف، ينتصر الجوع على السجان.

فلسفة الإضراب
الجوع مؤلم، ولا يعرف ألمه إلا الذي خبره بقوة وعلى مدى فترة طويلة. وأشد من يعرف هذا الألم هم الأسرى الذين يخوضون الإضراب، وتلك الشعوب التي يضربها القحط وتصيبها المجاعة والويلات وتستنجد بالآخرين لإسعافها.

وهذا جوع يؤدي إلى العديد من الأمراض منها التأثير السلبي على ضغط الدم ومستوى السكر في الدم. ويصيب أجهزة الجسم المختلفة بالكثير من عدم التوازن، وأحيانا بالهبوط والتوقف عن العمل. وسبق أن سقط للشعب الفلسطيني شهداء في السجون نتيجة طول الإضراب. حتى الذين يسعون إلى تخفيف وزنهم يتألمون من الجوع، فكيف بالذين يحجمون عن الطعام عشرات الأيام وربما أكثر؟

فلسفة المضربين تقول إنه إذا كان الاحتلال لا يريد أن يستجيب للمطالب الحياتية أو المعيشية للأسرى، فإن على الأسرى أن يدفعوه دفعا نحو تلبية طلباتهم، وذلك عبر معاناتهم هم وعذاباتهم؛ فهم يرون أن الإضراب يحشر الصهاينة في زاوية أمام العالم من الناحيتين القانونية والسياسية.

من الناحية القانونية، يبعث المعتقلون برسالة إلى كل الهيئات الدولية -وعلى رأسها الأمم المتحدة– مفادها أن الاحتلال الصهيوني لا يتقيد بالمواثيق الدولية الخاصة بمعاملة المعتقلين داخل السجون، وأن الصهاينة ينتهكون القانون الدوليوالمواثيق الدولية الخاصة بهم. وأقوى الرسائل تلك التي يتم توجيهها من المعتقلين الإداريين الذين تنص المواثيق الدولية على ضرورة تهيئة ظروف اعتقال لهم شبيهة بظروف بيوتهم.

فلسفة المضربين تقول إنه إذا كان الاحتلال لا يريد أن يستجيب للمطالب الحياتية أو المعيشية للأسرى، فإن على الأسرى أن يدفعوه دفعا نحو تلبية طلباتهم، وذلك عبر معاناتهم هم وعذاباتهم؛ فهم يرون أن الإضراب يحشر الصهاينة في زاوية أمام العالم من الناحيتين القانونية والسياسية

ربما تتأخر الأمم المتحدة في التقاط رسالة المعتقلين بسبب هيمنة الولايات المتحدة عليها، لكن الهيئات الدولية الأخرى وجمعيات حقوق الإنسان -خاصة على المستوى الأوروبي- سرعان ما تتحرك، فتمارس الضغط على الاحتلال لفتح باب المفاوضات مع المعتقلين.

أما من الناحية السياسية، فإن الأسرى يبعثون برسائل إلى منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية عموما والمجتمع الفلسطيني، والعديد من الدول العربية وغير العربية الصديقة للشعب الفلسطيني، لكي يتحركون ويمارسون ضغوطهم على الصهاينة.

وفي هذا يلجأ الأسرى إلى وسائل الإعلام لجعل الإضراب في صدارة اهتماماتها، وللتأثير على أصحاب القرار في كل مكان ليشاركوا في الضغط على إسرائيل لكي تستجيب لطلبات المضربين.

أي أن الإضراب بحد ذاته يوّلد معاناة شديدة للأسرى، وهذه المعاناة ذاتها تشكل ضغوطا على الدول والجمعيات والهيئات والمجتمعات، لتتحرك دفاعا عن راحتهم وحسن التعامل معهم.

وهنا نلاحظ أن الإضراب لا يهدف إلى تحرير الأسرى وإنما إلى تحسين ظروف الاعتقال، إنه إضراب مطلبي وليس إضرابا للإفراج. يقرر الأسرى عبره تحمل الأذى والألم وتقبّل الأضرار الصحية الناجمة عنه، من أجل استرخاء الحياة -ولو قليلا- داخل السجون الصهيونية.

يصطدم الأسرى في أغلب الأحيان بوسائل الإعلام العالمية التي لا تعطي الحدث الأهمية التي يستحقها، وذلك بسبب تبني هذه الوسائل لوجهة النظر الإسرائيلية، وبسبب تصنيف الأسرى الفلسطينيين على أنهم إرهابيون.

وسائل الإعلام العالمية تلعب دورا هاما في جعل الإضراب قضية عالمية، لكن العرب والفلسطينيين إجمالا لا يملكون وسائل الضغط الكافية لحث هذه الوسائل على التركيز على معاناة الأسرى.

ومهما يكن؛ فإن أصوات أصدقاء فلسطين تكفي لإحداث ضغط متزايد على الصهاينة من أجل أن يذهبوا إلى خيار المفاوضة مع المضربين. ويبقى شعار "الألم طريق نحو النصر" قائما وفاعلا بعد أن ثبت نجاحه مع الزمن.

فرص نجاح الإضراب
تعتمد إسرائيل -في جدلها ضد المضربين داخل الهيئات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان- على القول بأن الأسرى الفلسطينيون إرهابيون. وتلقى هذه الجدلية قبولا لدى الدول الاستعمارية مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، لكنها لا تجد آذانا صاغية لدى دول حرة ترفض الاحتلال والاستعمار.

العالم يعي أن إسرائيل دولة تحتل فلسطين وتنكّل بالفلسطينيين وتسلبهم أرضهم ومقدراتهم، وتحوّل حياتهم دائما إلى جحيم، ولذلك تبقى حجتها واهية وغير مقبولة.

وما يمكن أن يعزز هذا الوهن في الجدلية الإسرائيلية هو التبني الفلسطيني والعربي للإضراب، والحرص على إيصال الرسالة إلى العالم. وللأسف يبقى هذا العنصر ضعيفا، خاصة أن فلسطينيين وعربا باتوا مرتبطين بإسرائيل أو متحالفين معها بشكل أو بآخر.

جرّب الأسرى الفلسطينيون الإضرابات مرارا، وغالبا كانوا ينجحون في انتزاع بعض المطالب وليس كل المطالب. وقد اعتادت إسرائيل على مواجهة الإضرابات بإجراءات قمعية حادة لإرهاب الأسرى وصدهم عن الاستمرار في الإضراب.

جرّب الأسرى الفلسطينيون الإضرابات مرارا، وغالبا كانوا ينجحون في انتزاع بعض المطالب وليس كل المطالب. وقد اعتادت إسرائيل على مواجهة الإضرابات بإجراءات قمعية حادة لإرهاب الأسرى وصدهم عن الاستمرار في الإضراب

فهي تلجأ إلى عزل قادة الإضراب عن باقي المعتقلين وعن العالم الخارجي أيضا، كي لا يتم التواصل الضروري لاستمرار الإضراب وتنسيق الخطوات. وهذا يحصل الآن؛ إذ تقوم مصلحة السجون بعزل قيادات الإضراب بزنزانات انفرادية حتى لا يتواصلوا فيما بينهم أو مع المعتقلين في السجون المختلفة.

وتعمل أيضا على سحب بعض الأمور التي سبق أن قدمتها للمعتقلين مثل بعض ألعاب التسلية كالشطرنج والدومينو، وإيقاف البث التلفزيوني، أو سحب الملح الذي يساهم -عند تذويبه في الماء- في المحافظة على ضغط دم الجسم.

رغم كل الإجراءات القمعية التي تتخذها مصلحة السجون؛ فإن المعتقلين سيصمدون في أغلب الاحتمالات، وهذا ما تشير إليه التجارب الفلسطينية. وإذا بقي المعتقلون موَحَّدين وصمدوا وفشلت إسرائيل في تمزيق تلاحم المضربين؛ فإن استمرارهم في الإضراب سينتهي إلى نجاح.

لقد سبق للأسرى أن خاضوا إضرابات ونجحوا في تحقيق إنجازات كثيرة. فمثلا استطاع المعتقلون في سبعينيات القرن الماضي تحسين ظروف غرف الاعتقال، وحصلوا على أغطية أفضل، وحسنوا نوعية الطعام وكميته، وحصلوا على حق إدارة المطبخ الذي يجهز طعام المعتقلين؛ فكانت مصلحة السجون تقدم الكميات، والمعتقلون يقررون كيف يتصرفون بعد ذلك.

وحسن المعتقلون بالإضرابات أوضاع الحمامات ونظافتها ونظافة الغرف. وانتزعوا من الاحتلال أسرة وفُرُشاً رغم أنها ليست صحية تماما. وحصلوا أيضا على حق سماع الراديو وبعض الأغاني العربية مثل أغاني أم كلثوم، وعلى أجهزة تلفاز. لا يتحكم المعتقلون في عدد القنوات التي يشاهدونها ولا في انتمائها، وأحد مطالبهم الآن هو زيادة عدد القنوات.

والمقصود من كل ذلك تأكيد أن جهود الأسرى وآلامهم لم تذهب سدى، وأنهم دفعوا أثمانا باهظة لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة داخل السجون الإسرائيلية.

الأسرى يوحِّدون الشعب
من الصعب أن نقول إن الشعب الفلسطيني غير موحَّد، لكن الفصائل تعبث بهذه الوحدة على مر السنوات. الأسرى يعيدون عقارب ساعة الوحدة إلى الوراء لأنهم يؤثرون على الفصائل بصورة حادة، وتضطر أن تتكلم بذات اللغة التي يتكلمها الشعب الفلسطيني.

كلما أضرب الأسرى التمّ شمل الشعب الفلسطيني في كل مكان. يتوحد الناس خلف الأسرى ويقدمون ما يستطيعون من دعم ومساندة للإبقاء على المعنويات عالية. وهذا مؤشر قوي على أن الوحدة الوطنية الفلسطينية لا تتماسك وتندفع إلى الأمام إلا في ظل المقاومة.

صحيح أن الإضراب مقاومة سلبية لكنه نوع مؤثر من أنواع المقاومة القادرة على تحقيق إجماع فلسطيني. يفترق الشعب الفلسطيني كلما حلت المساومات السياسية محل المقاومة، وهذا هو ديدن السياسيين الفلسطينيين الذين يحذرون تقديم التضحيات، فيهربون إلى المساومات التي من شأنها التمزيق وربما الاقتتال.

صحيح أن الإضراب مقاومة سلبية لكنه نوع مؤثر من أنواع المقاومة القادرة على تحقيق إجماع فلسطيني. يفترق الشعب الفلسطيني كلما حلت المساومات السياسية محل المقاومة، وهذا هو ديدن السياسيين الفلسطينيين الذين يحذرون تقديم التضحيات، فيهربون إلى المساومات التي من شأنها التمزيق وربما الاقتتال

وإذا راجعنا التاريخ الفلسطيني فسنشهد أن صلابة وحدة الشعب كانت ترتفع بارتفاع منسوب المقاومة في مواجهة الانتداب البريطاني أو مواجهة الصهاينة، وسنشهد أيضا أن السياسيين عملوا دائما على تليين هذه الصلابة بلقاءاتهم مع الأعداء، واستعدادهم لقبول الطروحات الأجنبية التي من شأنها توفير الأمن للعدو.

من التجربة، كل الأحاديث والتصريحات الرسمية والفصائلية الفلسطينية حول الوحدة لا قيمة لها ولا معنى عندما تغيب المقاومة. يجتمع الناس بأحزابهم وفصائلهم وتنظيماتهم كلما كانت المقاومة عنوان المرحلة، وعلى قادة الفصائل والتنظيمات أن يتعظوا بالتجربة إذا كان لديهم بعض الفكر السياسي.

والفرصة الآن مواتية لضخ دم المقاومة من جديد في صفوف الشعب الفلسطيني، وهناك حجة قوية للجميع أمام العالم، وهي أننا لن نترك أبناءنا يتضورون جوعا ونحن ننظر إليهم بأسى من بعيد.

الإضراب ليس محددا زمنيا، وقد يطول أو يقصر تبعا لاستعداد الاحتلال للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع المعتقلين. قد يمتد الإضراب إلى أكثر من مائة يوم، وقد يقل عن العشرين يوما، ومن الصعب التكهن بالوقت الذي تقرر فيه مصلحة السجون التفاهم مع المضربين.

لكننا نعلم أن رغبة الاحتلال في التفاهم تتناسب طرديا مع الضغوط التي تمارس عليه، أو أن مدة الإضراب تتناسب عكسيا مع حجم الضغوط التي يتعرض لها الاحتلال. كلما ارتفع منسوب الضغوط انخفضت مدة الإضراب.

الفلسطينيون هم أكثر الناس اهتماما بتقصير مدة الإضراب، ومن المتوقع أن يمارسوا أكثر قدر من الضغوط على الاحتلال. يملك الفلسطينيون وسيلتين حيويتين لممارسة الضغوط وتصعيدها، وهما المقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية التي تنذر بالانفجار.

المقاومة المسلحة في أيدي الفصائل التي تحمل سلاحا خارج إطار التنظيمات؛ فهل ستغير الفصائل الفلسطينية مواقفها من المقاومة وتواجه الحديد بالحديد؟ الأمر مستبعد الآن بسبب ارتباط مصالح قيادات الفصائل بالسلطة الفلسطينية والاحتلال. أما السلاح الآخر فهو ليس موجودا لمقاومة الاحتلال وإنما غالبا للاستعراض وللمشاكل الداخلية بين الناس.

يبقى أمامنا الحراك الشعبي القوي الذي تخشى إسرائيل أن يتحول إلى انتفاضة وعمل مسلح. مطلوب من الناس أوسع مشاركة وأجرأ مساندة للمعتقلين كي تبدأ إسرائيل في إجراء حسابات جديدة، تعجل من فتح باب التفاوض لتلبية بعض طلبات المضربين. لا نتوقع موافقة إسرائيل على كل طلبات المضربين لكنها -لا مفر- ستلبي بعضها أو أغلبها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.