لا أحد يكترث بما تفعل.. لماذا تعد مخاوفنا من آراء الآخرين مجرّد مبالغة؟

أخبرني أحدُ أصدقائي مرة قولًا اعتبرته حكمة أصيلة: "إن كنتُ لَم أدعُ شخصًا ما إلى منزلي بالأساس، فلماذا سأسمحَ له بالتغلغل في أفكاري!"، لكنَّه كلامٌ يسهل قوله ويصعبُ تطبيقه. فتحتْ وسائل التواصل الاجتماعي المجال لما يدور في رؤوسنا، حتى إن في وسع أي عابرٍ متسللٍ التجوُّل فيها. إن كتبت تغريدة تُفصح فيها عن رأيكَ في شخصيةٍ مشهورة، فمحتملٌ أن تصل إلى هاتفه في يديه بينما هو جالسٌ على أريكته في منزله.

 

لا تكمنُ المشكلة الفعلية في التكنولوجيا، بل في الطبيعة البشرية. إنهُ جزءٌ في فِطرتنا أن نعبأ بآراء الآخرين عنَّا، تمامًا مثلما كتبَ الفيلسوف الروماني الرواقي "ماركوس أوريليوس" من ألفي عامٍ تقريبا: "إننا نحبُّ أنفسنا أكثر من محبتنا للآخرين، لكننا نهتم بآرائهم أكثر من آرائنا"، سواءً أكانوا أصدقاءً أم غرباءً أم أعداء.

 

قد تكون هذه النزعة طبيعية تمامًا، لكنَّها قد تدفعنا إلى الجنون غضبًا وانزعاجًا إن أفلتنا زمامها. إن كنَّا مخلوقات عقلانية بكل معنى الكلمة، لَكُنَّا سنفهمُ أن مخاوفنا من آراء الناس مبالغٌ فيها، وأنها أتفه من أن تُثير غضبنا إلا فيما ندر، لكن كثيرون منا انغمسوا في هذه العادة السيئة لوقتٍ طويلٍ، لذا نحنُ بحاجةٍ إلى أن نخطو خطواتٍ مدروسة لنغيِّر وجهات نظرنا حولها.

كتاب "الثقة الفكرية في نفسك وفي الآخرين" لـ الفيلسوف "ريتشارد فولي".

الاهتمام بآراء الآخر أمرٌ مفهومٌ ومنطقيٌ إلى حدٍ ما، يؤكد الفيلسوف ريتشارد فولي في كتابه (الثقة الفكرية في نفسك وفي الآخرين) أنكَ تثقُ في آرائك الخاصة، وآرائك متشبعةٌ بأشباهك من الناس وتشكَّلتْ من خلالهم، لذا فأنتَ تثقُ في آرائهم كذلك، شئت أم أبيت. وبناءً على ذلك، إن قال أحد زملائك في العمل إن "لعبة الحبَّار مسلسلٌ رائع"، فمن المحتمل أن رأيك عن المسلسل سيزداد بالإيجاب، قليلا على الأقل.

 

يتضاءل التأثير الذي يؤثره الآخرون على آرائك حيال العالم بالمقارنة مع تأثيرهم على رأيك عن ذاتك. يفسر التطور ببراعةٍ سبب هذا؛ اعتمدتْ نجاة الإنسان طوال تاريخ الإنسانية على انضمامه إلى عشائر وقبائل متآصرة، وقبل التشكلات العصرية للحضارة، مثل أنظمة الشرطة أو محلات البقالة، كان الإقصاء من المجموعة يعني موتًا محتمًا من البرد أو الجوع أو بين أسنان الضواري. قد يُفسر هذا بسهولةٍ لِم شعورنا بالرعاية يشمل استحسان الآخرين، وكذلك يشرح سبب تطور أدمغتنا لتُنشِّطَ نفس الركائز العصبية (neural substrate) حين نشعرُ بألمٍ جسدي أو حين نواجه رفضا من المجتمع.

 

ولسوء الحظ، تكيَّفت غريزة الرغبة في رضا الآخرين بشكلٍ مؤسفٍ مع الحياة العصرية. بينما شعر الإنسان ذات يومٍ برعبٍ -مُبرر- بأنه سيطردُ ويذهب للعيش في جليد الجبال، قد يُعاني المرء في زمننا هذا قلقًا حادًا من أن غرباء سيقدمون على "إقصائه" من عالم الإنترنت بسبب تعليقٍ أهوج، أو بسبب أن شخصا عابرا سيلتقط له صورة في ملابس رثةٍ ويسخر منها على الإنستجرام أمام مرأى الجميع.

"تُشير الأبحاث إلى أنّ الانشغال بآراء الآخرين يُبقي نظام التثبيط نَشِطًا، مُعرقلًا قدرة الإنسان على التصرّف وعلى الإنجاز"

في أسوأ الحالات، قد يتضخم القلق لنيل رضا الآخرين ويتفجَّر في صورة خوفٍ مُستنزِف، حالة نفسية تُشخَّص باسم "allodoxaphobia" (خوفٌ مفتقرٌ للمنطقِ من آراء الآخرين). حتى إن لم تتطور الحالة لتصبح مرضًا نفسيًا، فإن القلق حيال آراء الآخرين قد يضعف كفاءتك الأساسية البسيطة لأداء المهمات العادية، مثل اتخاذ القرارات. حين تفكِّر فيما ستفعله في موقفٍ معين -لنقل مثلا أنك ستتحدثُ أمام مجموعةٍ من الناس- تنشطُ تلقائيًا شبكةٌ في دماغك، يُسميها علماء النفس "نظام التثبيط السلوكي"، تعملُ من خلال هذه الشبكة على تقدير الموقف وتقرير التصرف الذي ستتخذه (مع تركيزٍ أساسي على خسائر إساءة التصرُّف). وحين تُلم بالموقف بما يكفي، يتوقف نشاط "نظام التثبيط"، ويُفعَّل "نظام التنشيط السلوكي" الذي يركِّز على المكاسب. لكنَّ بحثا أُجري عام 2013 أوضحَ أن الانشغال بآراء الآخرين يُبقي نظام التثبيط نشطا، مُعرقلا قدرتك على التصرف. في حالة كنتَ دائما تخرجُ من النقاشات وأنتَ تقرِّع نفسك على ما كان عليكَ أن تقُله -لكنك لم تقله- فربما يُشير هذا إلى انشغالك وقلقك من ظنون الآخرين دون مسوغ.

 

ليسَ لأن اهتمامنا بآراء الآخرين عنَّا يعدُّ أمرًا طبيعيًا يعني هذا أننا ملزمون به، ليست الغاية المرجوة لأن يزدهر المرء هي عدم الاكتراث تماما بآراء من حوله، إذ سيكون أمرًا شاذًا وخطرًا؛ قد يفضي هذا الميل إلى "متلازمة الغطرسة (hubris syndrome)"، أو يكون دليلًا على الإصابة باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. لكن قد تتحسن أحوال الكثير منَّا إن تعلَّمنا أن نقلل بقدرٍ لا بأس به من اهتمامنا بآراء الآخرين. ولهذا أوصي باتباع الخطوات الثلاث الآتية:

 

  • أولا: ذكِّر نفسك أن لا أحد يهتم، فعلًا

المثير للسخرية في شعورنا بالسوء حيال أنفسنا بسبب ظنون الناس عنَّا هو أن من حولنا لديهم آراء عنَّا أقل بكثيرٍ مما نتصور، سواء كانت إيجابية أم سلبية. تظهر الأبحاث أننا نبالغُ دوما في تقدير تفكير الآخرين فينا أو في إخفاقاتنا، ما يؤدي إلى كبت أصواتنا بلا مبررٍ وعيش حياةٍ أسوأ. ربما يكون لمتابعيك أو جيرانك آراء مزدرية عنك في حالة فكروا في أمرك، لكن الأرجح هو أنكَ لست على بالهم تمامًا. في المرة القادمة التي يخالجك شعورٌ بالخجلٍ من نفسك أو أن تكون واعيًا بشدةٍ لتصرفاتك، تذكَّر أن تفكيرك مُنصَبٌّ على ذاتك، ولك أن تفترض بكل طمأنينةٍ أن كل من حولك يفعل مثلك بالضبط بدرجاتٍ متفاوتة.

  • ثانيا: تمرَّد على شعورك بالمهانة

ولأنّ الخوف من المهانة يقف متربصًا خلف الاهتمام المفرط بآراء الآخرين، علينا أن نواجه هذا الشعور مباشرة بدل تجنّبه. يُفيدنا القليل منه أحيانًا ويحذرنا في مواقف بعينها، حين نقول كلامًا مؤذيًا لشخصٍ ما نكايةً به أو لأن صبرنا قد نفد مثلًا. لكنه في العادة شعور يتولَّد من مواقف سخيفة لا ذنب لكَ بها، مثل أن تشعر بالخجل أو المهانة من نفسك حين سها عليكَ إغلاق سحَّاب بنطالك.

 

حدثَ منذ عدة سنوات أنني كنتُ في نهاية أول محاضرةٍ لي، امتدت ساعة ونصف الساعة، ألقيتها كلها وسحَّاب بنطالي مفتوح، من المستحيل أن يوجد شخصٌ واحدٌ لم يلاحظه، بعدها أدركتُ شيئًا غريبًا، شعرتُ أنني تحررت، ليست الحرية بأن أفعلها مرة ثانية بالطبع، بل تحررتُ من خوفي عمَّا قد يحدثُ إن فعلتُ صدفة شيئًا محرجًا للغاية في المحاضرة. وبعد واقعة السحَّاب المفتوح، عجزتُ عن تصوِّر أي شيءٍ يفوقها سوءا، ونتيجةُ هذا أنني كنتُ هادئًا، ومرَّ الفصل الدراسي رائعًا. بالطبع لن أوصيكَ بأن تسير في الأرجاء بسحَّابٍ مفتوح عن عمد، لكن اطرح سؤالا على نفسك: "ما الذي أُخفيه لدرجة أنني أشعر بشيءٍ من الحَرج بسببه؟"، احسم أمركَ على ألَّا تُخفيه بعد الآن، وأن تقضي على شعور المهانة العقيم الذي يُقيدك.

 

  • ثالثا: لا تحكم على الآخرين

جاء في إنجيل مَتَّى: "لا تَدينوا لِئلاَّ تُدانوا. فكما تَدينونَ تُدانونَ، وبِما تكيلونَ يُكالُ لكُم"، وقال بوذا: "مَن يحكم على الآخرين يحفر حفرة لنفسه". ربما تظن أن الله سيُعاقبكَ أو ستقتصُ منك الكارما على آرائك القاسية عن بعض الناس من حولك، لكن تحمل هذه المواعظ نفس الأهمية في حياتنا الدنيوية، أن تحكمَ على الآخرين وتُدينهم هو اعترافٌ وإقرارٌ بأنه من الطبيعي أن يُلقي الناس أحكامهم على بعضهم، ما يعني أنه قبول ضمني بأحكام الآخرين عليكَ شخصيًا.

 

وسيلتك لتحرر نفسك من هذه القناعة هي العزوف عن إلقاء الأحكام على الآخرين وأن تذكِّر نفسك -حين تقعُ في هذا بالخطأ- أنه من المحتمل أن حكمكَ خاطئ. جرَّب أنُ تجري هذه التجربة: حدد يومًا من أيام الأسبوع المقبل لا تحكم فيه على أي شيء، فقط تكتفي بمراقبة محيطك. استبدل قولك: "المطر شنيعٌ اليوم"، بأن تقُول: "إنها تمطر". بدلًا من قول: "ذاك الرجل الذي قطعَ عليَّ الطريق أحمق"، قل: "كان الرجل حتمًا في عجلةٍ من أمره". سيكونُ أمرًا صعبًا، لكنه مريحٌ بشكلٍ غريب، ستزيحُ عن نفسكَ عبء نقد كل شيء، وبهذا سيهدأ قلقكَ من نقدِ الآخرين لكَ. قالَ "لَو تسو" في كتاب "الطاو والفضيلة" أن "اهتَمَّ باستحسان الناس، وستكون أسيرهم". كان بلا شكٍ يقصد بقوله هذا تحذيرًا جديًا، لكن مع مرور السنين، توصلتُ لفهم قوله على أنه وعدٌ وفرصة.

 

تعلَّمتُ أن سجن استحسان الآخرين هو سجنٌ شيدتُ أسواره بنفسي، أنا من حافظ عليه وحرسه، وقادني هذا إلى أن أكمل قول لَو تسو الأصلي بأن "تجاهل ظنون الآخرين وسيُفتحَ باب السجن على مصراعيه". إن كنتَ حبيسا في سجن النقد والأحكام ومشاعر المهانة والخجل، تذكَّر أنكَ وحدكَ مَن بحوزته مفاتيح حريتك.

__________________________________

هامش:

  • آرثر سي. بروكس: عالم اجتماع أمريكي وكاتب مُساهم في مجلة ذا أتلانتيك، يعمل أستاذا في كلية كينيدي وكلية إدارة الأعمال بهارڨرد.

ترجمة: مريم ناجي

هذا التقرير مترجم عن مجلة ذا أتلانتيك، من عمود "كيف تبني حياتك".

المصدر : الجزيرة