تحت المجهر

إعلام الكراهية.. رواندا والإبادة الجماعية

استعرض برنامج “تحت المجهر” جذور حالة الإقصاء التي تعرضت لها عرقية التوتسي في رواندا وصولا للإبادة، ودور الإعلام في التحريض ضد هذه الأقلية، ووصف من ينتمون لها “بالصراصير”.

كانت تجربة "إعلام الكراهية" غير عادية في حياتي المهنية، حالة مجسدة لتحول دور الإعلام من كشف للحقيقة، ومشاركة في تنمية المجتمع، إلى أداة قتل، لم يشارك الإعلام في القتل بالإيحاء أو بالتوجيه فحسب، ولكن شارك بشكل مباشر من خلال بلاغات بأسماء وسكن حتى يرسل إليهم المليشيات لتنفيذ حكم القتل الذي كان يصدر من داخل الأستديوهات وصالات التحرير.

إن حلقة برنامج "تحت المجهر" وعنوانها: إعلام الكراهية (رواندا والإبادة الجماعية) درس في الحياة لي كمخرج وإعلامي، ولي كإنسان، وهي جهد عمل مشترك من فريق نيوميديا بحثا ومونتاجا وفي الميدان، ومع فريق "تحت المجهر" في الدوحة وبتعاون من أبطال العمل الذين تحدثوا من "خبرة" عميقة إنسانية أو بحثية من أجل أن تخرج الحلقة بهذا الشكل. 

كنت أتصور، وفقًا لما درسناه في كلية الإعلام، أن يكون دور وسائل الإعلام هو التنوير وكشف الحقائق أمام الرأي العام، بشكل محايد، لكن هذا العمل كشف لي كيف يتحول الإعلام أداة ليس فقط للتحريض على البطش والاعتقال، بل للدعوة المباشرة إلى القتل والتصفية الجسدية خارج القانون.

تجربة مريرة عاشتها رواندا، وهي الإبادة الجماعية، بتوجيه من النظام الحاكم، الذي تصور واهما أنه بذلك يؤسس لبقائه في الحكم، عبر ديكتاتورية الحديد والنار، وذراع إعلامية تتوجه فقط لشيطنة الضحية، فأثناء تنفيذ الفيلم، لم أكن أتخيل مدى مقدرة وبراعة هذا النوع من وسائل الإعلام، على تبني خطاب الكراهية، وصولا إلى الإبادة الجماعية.

أبيد قرابة مليون إنسان، مليون روح، عبر خطة إعلامية شيطانية، امتدت جذورها عقودا قبل ذلك. استطاع الإعلام عبر وسائله المختلفة نزع الإنسانية عن البشر، وتحريض الهوتو (الأغلبية السكانية) ضد التوتسي (الأقلية). دماء في كل مكان، لا بيت يخلو من ضحية أو اثنتين أو ثلاث. كل ذلك خلال ثلاثة أشهر فقط، تسعون يوما وصفت فيها الإذاعة الضحية بـ "الصراصير" وسط تصفيق وتهليل الحكومة.

وبعد كل هذه الدماء، وأعداد الضحايا والمصابين بعاهات مستديمة، ستظل تذكرهم بالماضي الأليم، أدرك الجميع (قاتلين وضحايا) أن الأمل في حكومة رشيدة، تتبنى إستراتيجية واقعية للبناء، وعبور هذه المرحلة الصعبة من تاريخ البلاد.

انعكست تلك الإرادة بطبيعة الحال، على الإعلام الرواندي، الذي سعى لتدارك ماضيه الأسود، عن طريق الدعوة للمصالحة بين كافة فئات الشعب، وتبنى خطاب التعايش والوحدة الوطنية، لمحاولة الوصول لمستقبل يسع الجميع. ولعل أكثر ما أدهشني في جريمة الإبادة الجماعية برواندا، أنه كما تم الحكم على المتورطين في جرائم القتل، من ضباط شرطة وجيش ومسؤولين، أيضا تمت محاكمة عدد كبير من الإعلاميين المتورطين في التحريض على القتل في المحكمة الجنائية الدولية وحكم عليهم بالسجن المؤبد. 

كانت تجربة هذا العمل بالنسبة لي درسا في حياتي المهنية والإنسانية. فعلى كل صحفي  أن يدرك أن الكلمة مثل الرصاصة قد تقتل إنسانا. أتمنى أن نتعلم الدرس عربيا قبل فوات الأوان. لقد أدركت بطبيعة الحال، كيف يتحول الإعلام من أداة للتحريض والهدم، إلى وسيلة للتعايش والبناء. فمتى ندرك نحن العرب هذه الحقيقة؟