الديمقراطية المعطَّلة في أميركا

US Vice President Joe Biden receives the official tally of the electoral ballots for the presidency in the House Chamber during a joint session of Congress in the U.S. Capitol in Washington, DC, USA, 06 January 2017. The ballots from the electoral college had been sealed until this vote, which confirmed the election of President-elect Donald Trump.

كان هذيان الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضد اتفاق باريس للمناخ الذي أبرم في عام 2015 نتاجا لجهله ونرجسيته جزئيا. ولكن هذا الهذيان يمثل أيضا شيئا آخر.

فهو انعكاس للفساد العميق الذي يعيب النظام السياسي في الولايات المتحدة، التي لم تعد -وفقا لتقييم حديث- "ديمقراطية كاملة". فقد أصبحت السياسة الأميركية أشبه بلعبة تديرها مصالح الشركات القوية: خفض الضرائب لصالح الأغنياء، وإلغاء القواعد التنظيمية لصالح كبار ملوثي البيئة، وحروب وانحباس حراري كوكبي لبقية العالَم.

في الأسبوع الماضي، بذلت ست دول من مجموعة الدول السبع الكبرى جهدا شاقا لإقناع ترمب بقضية تغير المناخ، ولكن ترمب قاوم بشدة. اعتاد الأوروبيون واليابانيون على التعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها حليفا في قضايا أساسية. وبعد وصول ترمب إلى السلطة، بات لزاما عليهم أن يعيدوا النظر في هذه العادة.

بيد أن المشكلة تتجاوز ترمب؛ إذ يعلم من يعيشون في الولايات المتحدة -عبر تجربتهم المباشرة- أن المؤسسات الديمقراطية في أميركا تدهورت بشكل ملحوظ على مدار العقود القليلة الماضية، وربما بدءا من ستينيات القرن العشرين، عندما بدأ الأميركيون يفقدون الثقة في مؤسساتهم السياسية.

فقد أصبحت السياسة الأميركية -على نحو متزايد- فاسدة ومستهزئة ومنفصلة عن الرأي العام. وترمب مجرد عَرَض، وإن كان عَرَضا صادما وخطيرا، لهذه الوعكة السياسية العميقة.

يعلم من يعيشون في الولايات المتحدة -عبر تجربتهم المباشرة- أن المؤسسات الديمقراطية في أميركا تدهورت بشكل ملحوظ على مدار العقود القليلة الماضية. فقد أصبحت السياسة الأميركية -على نحو متزايد- فاسدة ومستهزئة ومنفصلة عن الرأي العام. وترمب مجرد عَرَض، وإن كان عَرَضا صادما وخطيرا، لهذه الوعكة السياسية العميقة

تُجسّد سياسات ترمب أولويات تافهة ضيقة الأفق، وتحظى بدعم واسع النطاق من قِبَل الحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي: خفض الضرائب المفروضة على الأغنياء على حساب البرامج التي تساعد الفقراء وأبناء الطبقة العاملة، وزيادة الإنفاق العسكري على حساب الدبلوماسية، والسماح بتدمير البيئة باسم "إلغاء الضوابط التنظيمية".

من منظور ترمب، كان أبرز معالم رحلته الأخيرة في الخارج التوقيع على صفقة أسلحة بقيمة 110 مليارات دولار أميركي مع المملكة العربية السعودية، وتوبيخ الدول الأعضاء الأخرى في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لإنفاقها العسكري غير الكافي كما يفترض، ورفض مناشدات حلفاء الولايات المتحدة مواصلة مكافحة الانحباس الحراري الكوكبي. ويشجع الجمهوريون في الكونغرس -على نطاق واسع- هذه السياسات المروعة.

من ناحية أخرى، يسعى ترمب والكونغرس -الذي يسيطر عليه الجمهوريون- إلى التعجيل بسنّ تشريع يحرم أكثر من 20 مليون إنسان من الرعاية الصحية، من أجل خفض الضرائب لصالح أكثر الأميركيين ثراء.

وتقضي ميزانية ترمب المقترحة حديثا بخفض برنامج "ميديك أيد" (التأمين الصحي لصالح الفقراء)، وبرنامج مساعدات التغذية التكميلية (الغذاء للفقراء)، والمساعدات الخارجية (المعونات المقدمة للأكثر فقرا في العالَم)، وتمويل الأمم المتحدة، والإنفاق على العلوم والتكنولوجيا.

باختصار، يود ترمب لو يتمكن من تدمير البرامج الفدرالية للتعليم، والتدريب، والبيئة، والعلوم المدنية، والدبلوماسية، والإسكان، والتغذية، وغير ذلك من الأولويات المدنية الملحة.

هذه ليست الأولويات التي يتقاسمها أغلب الأميركيين، ولا حتى ما يقارب ذلك. بل تريد أغلبيتهم فرض الضرائب على الأغنياء، والحفاظ على التغطية الصحية، ووقف الحروب التي تخوضها أميركا، ومكافحة الانحباس الحراري الكوكبي.

ووفقا لبيانات استطلاع الرأي الحديثة، فإن الأميركيين يريدون -بأغلبية ساحقة- البقاء في اتفاق باريس للمناخ (الذي أعلن ترمب انسحاب بلاده منه). والواقع أن ترمب ومحاسيبه يقاومون الرأي العام ولا يمثلونه.

وهم يفعلون هذا لسبب واحد وواحد فقط: المال. بعبارة أكثر دقة، تخدم سياسات ترمب مصالح الشركات التي تدفع فواتير الحملة الانتخابية وتدير الحكومة الأميركية فعليا. وما يرمز إليه ترمب هو تتويج لعملية طويلة الأمد سمحت لجماعات الضغط القوية التابعة للشركات بشراء سبيلها إلى السلطة.

واليوم، لم تعد شركات مثل إكسون موبيل، وكوك إندستريز، وكونتيننتال إينرجي، وغير ذلك من الشركات الملوثة العملاقة، في احتياج إلى ممارسة الضغوط؛ فقد سلمها ترمب مفاتيح وزارة الخارجية، وهيئة حماية البيئة، ووزارة الطاقة. كما يشغل أصحاب الشركات مناصب رفيعة في هيئة العاملين في الكونغرس.

ربما يكون بوسعنا أن نتتبع قدرا كبيرا من أموال الشركات؛ أما بقيتها فهي تتدفق مجهلة من الأسماء مثل "المال الخبيث" الذي يتجنب التدقيق العام. وقد أعطى قضاةُ المحكمة العليا -الذين استُميلوا هم أنفسهم بأموال الشركات- الضوءَ الأخضر للإبقاء على هذه التدفقات الفاسدة سرا، في قرارهم المشين بعنوان "مواطنون موحدون".

وكما وَثَّقَت الصحافية الاستقصائية جين ماير؛ فإن أكبر مصدر للمال الخبيث هو المرادف لديفد وتشارلز كوك، اللذين ورثا عن أبيهما شركة كوك إندستريز التي تلوث البيئة بشدة. وكان والدهما رجل أعمال تضمن تاريخ أعماله بناء مصفاة تكرير كبرى للنفط لصالح النظام النازي في ألمانيا.

كما أنفق الأخوان كوك -اللذان يبلغ مجموع ثروتهما نحو 100 مليار دولار أميركي- بكل حرية ولعقود من الزمن، سعيا للاستيلاء على النظام السياسي الأميركي، كما حشدا أصحاب المصالح الشركاتية الأخرى من جناح اليمين.

لم تعد شركات مثل إكسون موبيل، وكوك إندستريز، وكونتيننتال إينرجي، وغير ذلك من الشركات الملوثة العملاقة، في احتياج إلى ممارسة الضغوط؛ فقد سلمها ترمب مفاتيح وزارة الخارجية، وهيئة حماية البيئة، ووزارة الطاقة. كما يشغل أصحاب الشركات مناصب رفيعة في هيئة العاملين في الكونغرس

عندما يتعلق الأمر بالسياسة الضريبية وتغير المناخ، يكاد الحزب الجمهوري يصبح خاضعا بشكل كامل للأخوين كوك وأقرانهما في صناعة النفط. وهدفهم غير الأخلاقي بسيط: خفض الضرائب عن الشركات، وإلغاء القواعد التنظيمية التي تحكم عمل صناعة النفط والغاز، بصرف النظر عن العواقب التي قد يخلفها ذلك على كوكب الأرض.

ولتحقيق هذه الأهداف، فإنهم على استعداد لمحاولة إزاحة الملايين من الفقراء من تغطية الرعاية الصحية، بل وحتى ما هو أكثر من ذلك إذهالا، يريدون تعريض الكوكب بأسره للمخاطر الجسيمة المترتبة على الانحباس الحراري الكوكبي. لقد بلغوا من الشر مستوى تقشعر له الأبدان. وترمب هو خادمهم.

قبل رحلة ترمب الخارجية الأخيرة، أرسل إليه 22 عضوا جمهوريا في مجلس الشيوخ رسالة تدعو الولايات المتحدة إلى الانسحاب من اتفاق باريس المناخي. وجميعهم تقريبا تلقوا تمويلا كبيرا لحملاتهم الانتخابية من (شركات) صناعة النفط والغاز. وربما يعتمد أغلبهم بشكل مباشر على التبرعات من الأخوين كوك ومنظمات الضغط التي يمولانها سرا.

وكما أظهر مركز السياسة المستجيبة (مجموعة تسعى إلى تعزيز المصلحة العامة)؛ فقد بلغ مجموع إنفاق شركات النفط والغاز على المرشحين الفدراليين في انتخابات عام 2016 نحو 103 ملايين دولار، وذهب نحو 88% من هذا المبلغ لمرشحين جمهوريين. وهذا الرقم لا يضم بطبيعة الحال سوى الأموال التي يمكن تتبعها إلى جهات مانحة بعينها.

يحتاج العالَم بشدة الآن إلى فهم أميركا على حقيقتها التي أصبحت عليها الآن. فوراء الهياكل الرسمية للديمقراطية التي كانت عاملة ذات يوم؛ يقبع نظام سياسي تديره مصالح الشركات لتحقيق أهداف مستهزئة، مثل خفض الضرائب المفروضة على الأغنياء، وبيع الأسلحة، وتلويث العالَم بلا عقاب. وقد وجدت هذه المصالح في ترمب رجلا صفيقا لا يعرف الخجل، وشخصية تلفزيونية تروج لها خبائثها.

الآن بات لزاما على بقية العالم أن ترفض جشع أميركا الشركاتي المتهور، وعلى الأميركيين أنفسهم أن يستعيدوا مؤسساتهم الديمقراطية بطرد المال الخبيث والحقد الشركاتي إلى خارج صفوفهم.

ونظرا للأغلبية الجمهورية الضئيلة (52 إلى 48) في مجلس الشيوخ، فإن الديمقراطيين وثلاثة فقط من الجمهوريين الشرفاء يستطيعون أن يمنعوا أغلب أو كل أجندة ترمب-كوك. وعلى هذا فإن الموقف لا يزال قابلا للإنقاذ، وإن ظل بالغ الخطورة. ومن المؤكد أن الأميركيين والعالم يستحقون أفضل من ذلك كثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.