بالفيديو.. حوامل على النعوش بأعالي الجبال.. معاناة لأجل صرخة حياة

عبد الغني بلوط-الأطلس الكبير

يضع الشاب ياسين أمه الحامل على "نعش موتى" بمساعدة أصدقائه وجيرانه، تخترق صرخات ألمها صدره مثل رصاصة أطلقت من مكان قريب.

يُحكم الابن البكر (17 عاما) تغطية والدته الممددة على ظهرها، يتجلد ويطلب منها التجلد في جو خريفي قارس بدوار تغزيرت البعيد بأعالي جبال الأطلس الكبير، فإما أن ينقذ حياتها أو تموت كما نساء أخريات لم يجدن من ينقلهن إلى المستشفى البعيد.

يقول ياسين بتوفالت للجزيرة نت -واللحظات الأليمة لا تزال عالقة بذهنه- "شعرت بحزن ممزوج بأمل وأنا أربط أمي على النعش بحزام صوفي، دون أن ألتفت ولأول مرة لاستجدائها ألا أفعل، كان القرار صعبا، لكنني اتخذته".

 

على النعش..
يضطر سكان الزات العليا بمنطقة تغدوين بإقليم الحوز ضواحي مدينة مراكش، إلى استعمال النعوش من أجل نقل المرضى والحوامل إلى المستشفى، لعدم وجود طريق ممهدة، وفي غياب أي وسيلة نقل أخرى.

وقبل عامين بدأت وزارة الصحة المغربية بتوفير مروحية لنقل الحالات الصعبة، وقد أنقذت الكثير من المواطنين، لكن في حالة أم ياسين، وفي حالات مماثلة، طلب السكان هذه الخدمة لكن دون جدوى.

يشرح ياسين متحسرا على واقع لم يحن الوقت بعد ليرتفع، "كنت أعرف أن نقل أمي على نعش، صعب جدا، صعدت أعلى الجبل من أجل البحث عن شبكة تغطية الهاتف، ثم طلبت المروحية من السلطة المحلية لكنها لم تأت".

ألم وألم..
على طول الطريق الممتد على 13 كلم بين الوديان والشعاب شديدة الانحدار، وعلى امتداد أكثر من أربع ساعات، كانت أم ياسين لا تبرح الصراخ أو الصراخ لا يبرحها من شدة الألم، ويزداد كلما صعد حاملوها فوق النعش مرتفعا أو هبطوا في منخفض مشيا على الأقدام.

تقول السيدة فاضمة أسني للجزيرة نت -وهي التي وضعت من قبل أربعة مواليد جدد بعناء أقل- "كنت أفضل الموت بدل تلك المعاناة، فقد كان الألم يقطع أحشائي، حتى أنني كنت أحس أن الجنين سيخرج من جنبي".

وتضيف بصوت خفيض ووهن ما بعد الولادة يكاد يحبس أنفاسها، "لقد كانوا يمشون ببطء مرات، فيما يهتز النعش اهتزازا عندما يركضون في مرات عديدة فيزيد ألمي".

‪السيدة
‪السيدة "فاضمة أسني" مغربية عاشت تجربة نقلها على النعش إلى المستشفى وهي حامل في نظرة حزن ممزوجة بأمل‬ (الجزيرة)

لا استراحة
بعد مسافة طويلة أو قصيرة، كان "حاملو النعش" يسابقون الزمن، ويتناوبون حمل النعش وأحيانا يضعونه لاستراحة قصيرة أو استعدادا لممر صعب، لكن سرعان ما يعودون لأداء مهمتهم الحرجة جدا.

تقول فاضمة أسنى (44 عاما) بلغتها الأمازيغية التي لا تعرف غيرها، وهي تحبس دموعها "أطلب من الجميع المسامحة، فقد علمت أن الجروح ظهرت فوق أكتفهم، بسبب ثقل النعش، كان مثل من ضرب بسكين حادة".

فيما يقول ياسين الذي كان يصاحب الموكب "مرت في ذهني كل السيناريوهات المحتملة، كنت مترددا كثيرا بين أن أطلب منهم الإسراع، لأن ذلك يزيد من صراخ أمي، أو الإبطاء لأن ذلك حتما لن يكون لصالح إنقاذ حياتها".

‪الطفلة متأثرة بحالة أمها بعد نقلها على النعش من أجل الولادة ولا تتمنى أن تعيش تلك التجربة‬ (الجزيرة)
‪الطفلة متأثرة بحالة أمها بعد نقلها على النعش من أجل الولادة ولا تتمنى أن تعيش تلك التجربة‬ (الجزيرة)

ليست فريدة
أن تتخيل نفسك فوق نعش، صنع لنقل الموتى إلى قبورهم، أمر تراه بأم عينيك ولا يصدقه عقلك، وترجو ألا تعيش تجربة مماثلة، يقول ياسين، تتساءل بنفسك هل أنت في موكب جنازة أو تُراك تنتظر زفاف بشرى إليك!

فيما تروي فاضمة -هي تنظر إلى وليدها نظرة حنان زائد لا تخطئها العين- "في تلك اللحظة، يتصارع الموت والحياة، الألم والأمل، يتيه ذهني فأتخيل جسدي في قبري مغمضة العينين، ثم يعود فأتخيل ابتسامة وليدي وقد أطلق صرخة الحياة".

بينما تقول سيدة من دوار زروون المجاور للجزيرة نت، "عشت الكثير من الحالات التي نقلت على النعش، لكن حالة فاضمة كانت الأسوأ، فقد تلطخت ثيابها بالدم".

وتضيف إيجة أمرغاض (67 عاما) هذه الحال وقعت والجو صحو، أما في حالة هبوط الثلوج التي قد تصل إلى مترين ارتفاعا، فإن منسوب الماء في الوادي يرتفع، ويمحي أثر الطريق، فلا تعرف أين تضع رجليك.

‪استراحة رجال الدوار وهم ينقلون سيدة حبلى على النعش إلى المستشفى‬ (الجزيرة)
‪استراحة رجال الدوار وهم ينقلون سيدة حبلى على النعش إلى المستشفى‬ (الجزيرة)

الحل..
منذ سنوات وشباب المنطقة يطالبون بفتح معبر إلى قراهم القابعة وراء الجبال على ارتفاع أكثر من ألفي متر، لكن المشروع يتوقف في كل مرة، والوعود المعسولة تصبح كاذبة كما يقول الشاب محمد الهلال، أمين مال (المسؤول المالي) جمعية محلية.

ويضيف للجزيرة نت -وهو الشاب الذي قاوم مرات عديدة لتحسين ظروف عيش السكان- "لا نريد مزيدا من المعاناة، لا نريد مزيدا من الضحايا في هذه الطريق، آن الأوان أن يُلتفت إلينا مثل بقية سكان المغرب".

يبكي وليد فاضمة بكاء خافتا، تحمله بين يديها وهي تنظر إلى السماء نظرة شكر وحمد، ثم تحكي وهي تلتفت إلى ابنتها الصغيرة، "رأيت الكثير من النساء يحملن على النعش، ورجوت ألا أكون مثلهن فكان ما كان، ولي أمل كبير في ألا تعيش بناتي وشابات الدوار محنتي".

المصدر : الجزيرة