حسابات ليبيا وعودة السفير الإيطالي إلى القاهرة

The family of Giulio Regeni - father Claudio, mother Paola and sister Irene - follows the coffin during his funeral service in Fiumicello, Northern Italy, Friday, Feb. 12, 2016. Premier Matteo Renzi, in remarks on Italian state radio, was keeping up the political pressure on the Egyptian government to find and bring to justice whoever tortured and killed Giulio Regeni, who had been living in Cairo for a few months to research Egyptian labor movements for his doctorate from Cambridge University. (AP Photo/Paolo Giovannini)
عائلة ريجيني أثناء تشييعه بمسقط رأسه في فيميسيلو شمالي إيطاليا 12 فبراير/شباط 2016 (أسوشيتد برس)
محمد البقالي-روما
 
أشبه ما يكون برش الملح على الجرح، جاء مقال صحيفة نيويورك تايمز الذي كشف أن الإدارة الأميركية قدمت "أدلة دامغة" للحكومة الإيطالية تثبت تورط الأجهزة الأمنية المصرية في مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، ليزيد من حرج الحكومة ونقمة الغاضبين على قرارها إعادة السفير الإيطالي إلى القاهرة.
 
مصادر في رئاسة الحكومة الإيطالية سارعت إلى نفي دقة المعلومة التي نشرتها نيويورك تايمز، وأكدت لصحف محلية أنه طيلة أشهر من التواصل بين الإدارة الأميركية والحكومة الإيطالية عقب مقتل  ريجيني، لم تتوصل الحكومة بأي أدلة تثبت تورط النظام المصري في تعذيب ومقتل ريجيني.
 
توقيت نشر المقال زاد من حرج الحكومة التي واجهت سلفا عاصفة من الانتقادات عقب إعلانها الاثنين عن إعادة سفيرها إلى القاهرة بعد عام ونصف تقريبا من الغياب في أعقاب مقتل ريجيني.
 
فالقرار كان له وقع الصدمة خاصة على والدي ريجيني اللذين تلقيا تعهدات سابقة من الحكومة من أن السفير لن يعود ما لم يتم كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، وقالت الوالدة إنها ما زالت في "حالة حداد" بينما لم يخف الوالد خيبة أمله، معتبرا أن هذه العودة فيها "دوس على الكرامة".

تبريرات الحكومة
لكن حسابات السياسة الإيطالية لم تأخذ بعين الاعتبار مواقف والدي ريجيني، وإن حرصت على إخراج عملية العودة باعتبارها خطوة على طريق "تسريع كشف الحقيقة" كما جاء في التبريرات التي قدمتها الحكومة، فقد أكدت أن القرار اتخذ بعد إرسال القضاء المصري وثائق جديدة في قضية مقتل ريجيني إلى الادعاء الإيطالي، وهو ما اعتبرته الحكومة مؤشرا إيجابيا يكفي لعودة السفير خلافا لشروطها السابقة. 

لكن ما الذي يدفع الحكومة الإيطالية إلى اتخاذ قرار مثل هذا يغضب جزءا مهما من الرأي العام ويضع إيطاليا في موقف المتهاون في الدفاع عن مواطن عذب وقتل بطريقة بشعة على يد أجهزة أمن بلد آخر؟ 
 

والدة ريجيني قالت إنها ما تزال في حالة حداد (رويترز-أرشيف)
والدة ريجيني قالت إنها ما تزال في حالة حداد (رويترز-أرشيف)

الجواب يكمن في ليبيا، كما تقول صحيفة "لاريبيبلوكا" في افتتاحيتها، مشيرة إلى أن "تدبير الملف الليبي هو الذي يفسر الهدف الحقيقي من إعادة السفير"، وليس تسريع الكشف عن الحقيقة في مقتل ريجيني. فالغياب الإيطالي عن مصر -كما تقول الصحيفة- ترك فراغا تم استغلاله بشكل كبير من قبل الفرنسيين الذين توغلوا أكثر فأكثر في الملف الليبي بما لا ترضاه روما ولا تقبله.

 
ولأن القاهرة تتقاسم مع باريس دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، فقد رأى الإيطاليون أنه غدا ضروريا فتح قنوات اتصال مباشرة على مستوى السفارات مع مصر لضمان دور أكبر في الملف الليبي.
 
وخلصت الصحيفة إلى أن  "التعامل مع الأزمة الليبية وتدفق المهاجرين بدون علاقات مباشرة مع القاهرة التي تمثل الداعم الرئيسي للواء، هو بمثابة لعب بأيد مغلولة وفق تعبيرها.  

لكن الصحيفة -التي لم تخف أن القرار له طعم المرارة والخيبة- دعت الحكومة الإيطالية إلى الحديث بشكل واضح مع الرأي العام وإطلاعه بأن السبب الحقيقي يكمن في ليبيا لا في تسريع التحقيق في قضية جوليو ريجيني. 
 
لقاء باريس
يبدو إذن أن السياق الدولي لعب دورا حاسما لصالح عودة السفير الإيطالي إلى القاهرة. ولعل نقطة التحول الكبرى كانت في اللقاء الذي جمع في باريس رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج واللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من مصر. لقد تبين لروما حينها أن باريس ماضية في إمساك خيوط اللعبة، وأن العلاقات مع القاهرة -التي تشترك مع باريس في دعم خليفة حفتر- مهمة لإدارة لعبة الأزمة الليبية الصعبة بفعالية أكبر.  

مظاهرة أمام السفارة المصرية في روما تطالب بالكشف عن الحقيقة بشأن مقتل جوليو ريجيني (الأوروبية-أرشيف)
مظاهرة أمام السفارة المصرية في روما تطالب بالكشف عن الحقيقة بشأن مقتل جوليو ريجيني (الأوروبية-أرشيف)

قبيل هذا القرار، بدا أن حفتر الذي يقدم نفسه بأنه الرجل الأقوى في ليبيا، يريد أن يستفيد من الزخم الذي خلفه لقاؤه في باريس مع الرئيس إيمانويل ماكرون، حيث كشف لصحيفة "كوريي ديلا سييرا" أن ماكرون طالبه بقائمة باحتياجاته العسكرية، وأنه بصدد إرسال هذه القائمة التي تشمل طائرات مروحية وسيارات عسكرية ومعدات للرؤية الليلية، وهو ما يعني أنه سيتلقى دعما عسكريا معلنا من باريس.

وبدا أن روما لا تتظر بعين الرضا إلى هذه التطورات وترى فيها تهديدا لمصالحها في ليبيا، وتجاهلا لموقعها في المنطقة وهي التي ترتبط بعلاقات تاريخية وجغرافية واقتصادية مع ليبيا. لذلك عدلت قليلا بوصلتها الخارجية في محاولة لاستمالة حفتر بغية خلق توازن مع الغريم الفرنسي. 

وجاءت تصريحات لوزير الخارجية الإيطالي أنجيلينو ألفانو غداة هذه المقابلة، لتؤكد هذا التحول الهادئ، إذ قال ألفانو إنه لا يرى مانعا في التعامل مع حفتر، معتبرا أنه من غير المستغرب أن تجري الحكومة الإيطالية لقاءات معه، مضيفا أن بلاده كانت من أوائل الدول التي اعتبرت أن حفتر يستحق دورا مهما لإعادة بناء ليبيا، لكن تحت مظلة المؤسسات المدنية.

المصدر : الجزيرة