رواية "مصائر".. مآسي الفلسطينيين بإيقاع موسيقي

مادة عن رواية "مصائر" للفلسطيني ربعي المدهون

هيثم حسين

يستعير الفلسطيني ربعي المدهون في روايته "مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة" آليات التأليف الموسيقي، ليقوم ببناء نصه في قالب الكونشرتو الموسيقي المكون من أربع حركات تعتمد كل حركة على بطلين، ثم يجمع أبطاله ويرسم مصائرهم في الحركة الأخيرة ليؤدوا معا مقطعا ختاميا ينسجم مع البناء الهندسي المختار لروايته.

يقارب المدهون في روايته الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومكتبة كل شيء 2015 أسئلة الهوية والعودة بالنسبة للفلسطينيين، ويرصد وقائع يقدم فيها صورا من تاريخ فلسطين المعاصر، ومشاهد من التغييرات التي أدخلها الصهاينة على معالم المدن الفلسطينية، في محاولة لدفن تاريخها وتشكيل تاريخ جديد بديل، بحيث يمحون ذاكرة أهلها ويرغمونهم على تكرار المقولات التي يروجونها عن تاريخ ملفق لها.

مرارة مستعادة
يشير المدهون (عسقلان، 1945) إلى النكبة التي تعيد مرارتها بطريقة معاصرة بعد قرابة ستة عقود على وقوعها، ويصور شخصيات فلسطينية تحمل جنسيات مختلفة، بريطانية وأميركية، وكيف يؤثر ذلك في تخيلها لفلسطين الحلم والذاكرة بالموازاة مع تقديم شخصيات فلسطينية تحمل الجنسية الإسرائيلية، وتعيش نوعا من الازدواجية والتناقض والغربة بين ما تؤمن به وما تضطر للتعاطي معه واقعيا.

undefined

يرمز الروائي إلى إعادة اكتشاف المكان من قبل الأبناء المشردين، ومنظورهم لتاريخهم وأعدائهم، والحنين الذي يقودهم في دروب الذاكرة إلى فضاءات بعيدة، يظلون مرتبطين بأمكنتهم بحبال سرية، يرتحلون إليها، يقيمون فيها، يعيشون صراعا في الهوية والانتماء واللغة، يجددون ولاءهم لحلمهم وحلم آبائهم بضرورة استعادة الأرض المستلبة، وابتكار السبل للحيلولة دون ابتلاع مزيد من الأراضي من قبل الصهاينة.

من شخصيات الرواية جولي زوجة وليد دهمان -وهي ابنة للأرمنية إيفانا أردكيان التي تزوجت طبيبا بريطانيا ورحلت معه إبان النكبة إلى لندن، وتوصي ابنتها بحرق جثتها وأخذ جزء من رمادها إلى مسقط رأسها في عكا أو القدس– يرسم مشهدا يناسب روايات الواقعية السحرية حين تنثر جولي جزءا من رماد جثة أمها على نهر التايمز، وتحتفظ بجزء آخر لتأخذه إلى فلسطين.

هناك جنين التي تكتب رواية في الرواية، وهي حيلة روائية مستعادة، بالإضافة إلى استعانة الروائي باسمه كشخصية روائية، بما يوحي أنه يكتب محطات من سيرته الذاتية، تلك السيرة التي يجد صاحبها نفسه وجها لوجه أمام شخصيات سبق أن ابتكرها في روايته الأولى "السيدة من تل أبيب"، بحيث يدفع إلى التخيل أن هناك قطعا في الأحداث أو تقييدا للمجريات، وأن الروائي يتدخل باسمه الصريح، وهذه بدورها ثيمة تتكرر في عدة روايات.

كما أن هناك وليد الذي يزور متحف المحرقة ويجول بين تفاصيل المكان، يلتقط دروب النهايات كأنما يرسم نيابة عن الآخرين المصائر، ويقوم باستعراض صور ومشاهد من ذاكرات الضحايا، وكيف أن أولئك الذين يقدمون أنفسهم كضحايا النازية استعانوا بممارسات أكثر نازية من تلك التي اقترفت بحق بعض منهم، وقاموا بتطبيقها على الفلسطينيين، وخلفوا كثيرا من المحارق بحقهم.

تجريب متعدد
تكون كل حركة في "مصائر" -التي اختيرت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية- بمثابة قصة تسير في اتجاه ما، سواء نحو الداخل الفلسطيني أو مدن الشتات، وكون لها حبكتها الخاصة بها بشكل يوحي باستقلالية مفترضة، في الوقت الذي تتكامل الحركات في ما بينها لتمرير الماضي والحاضر من أكثر من اتجاه.

يرمز الروائي إلى إعادة اكتشاف المكان من قبل الأبناء المشردين، ومنظورهم لتاريخهم وأعدائهم، والحنين الذي يقودهم في دروب الذاكرة إلى فضاءات بعيدة

يرحل المدهون ببطله من لندن إلى مدن فلسطينية عدة، يسيح معه في حارات القدس العتيقة، وعلى شاطئ يافا، يغوص معه في حارات عكا، ويمضي معه في أزقة المخيمات، ينقل مشاهدات من هنا وهناك عن أحوال الناس الصعبة والمشقات التي يعانونها، وصمودهم في وجه الضغوطات القاهرة، والبؤس الذي يغرق جراء تعنيف المرأة، وبلوغ درجات خطيرة من العنف وكأن عنف المحتل لا يكفي، حتى يكون هنالك عنف مستعر بين الفلسطينيين أنفسهم ضد بعضهم بعضا.

ينقل المدهون مفارقات من راهن المدن الفلسطينية في ظل الاحتلال، ويلفت إلى استمرارية سياسة التهويد، ولعبة الشد والجذب، أو الترغيب والترهيب، وإجبار الفلسطينيين على بيع منازلهم بشتى السبل، وإرغامهم على ترك أرضهم عبر إيصالهم إلى قناعة بأنهم باتوا غرباء فيها، وينوه إلى فشل محاولات التطبيع الاجتماعي بين العرب والإسرائيليين، وحقيقة الخدع التي يستخدمها الصهاينة للإيقاع بالعرب وطردهم من بيوتهم ومدنهم، وتناسل المستوطنات بطريقة مفزعة.

يلجأ المدهون إلى التجريب في البناء واللغة والأسلوب في عمله، تراه يطعم سرده الروائي بمقاطع كثيرة باللهجة العامية، أو بجمل بلغة عربية ركيكة تستخدمها شخصياته الأجنبية حين حديثها بالعربية، وذلك في مسعى لإضفاء جانب من الحميمية والواقعية على أجواء الرواية، وفي محاولة لتقريبها من بعض القراء الذين قد يعتبروننا تصويرا دقيقا للواقع وتفاصيله، وكأن الروائي يقوم بتسجيل الأحداث وتظهير الأفكار من دون أن يتدخل فيها.

المصدر : الجزيرة