هكذا يُشبع المسنون في المغرب متعتهم المفقودة

الصورة مسنون 6: عبد الغني بلوط /مسنون في حلقات المتناثرة على طول الساحة يلعبون الورق/ المغرب/ مراكش/ ساحة المستشفى
مسنون في حلقات يلعبون الورق في مراكش (الجزيرة)

عبد الغني بلوط-مراكش

مثل قائد يبحث عن مجد ضائع، يجلس "با العياشي" (72 سنة) وسط إحدى حلقات لعب الورق في ساحة "الحرش" العتيقة بمدينة مراكش، ويتلقى نداءات من هنا وهناك، من أجل أن يكون حكما وشاهدا على بداية لعبة شديدة التنافس.

أثناء حديثه للجزيرة نت كان يجيب عن كل صيحة من أصدقائه، ويرسم على وجهه ابتسامة ود عتيقة لم تنل منها آثار الزمن المنحوتة تحت عينيه وعلى أسارير جبينه.

تلك الساحة ليست سوى واحدة من عشرات الساحات التي تغص بهذه الفئة في المدينة الحمراء، قادمين إليها من الحي ذاته، أو من أطراف المدينة، ومنهم من يأتي من الضواحي، يحمله شوق تمضية الوقت مع رفقاء لا يربطه معهم غير لعبة وصلت بهم إلى حالة "الطقس اليومي".

متعة مفقودة
يقول العياشي الذي عمل سنوات رئيسا لقسم العمال بإحدى الشركات "ترددي على الساحة كل يوم بعد صلاة العصر يعود إلى عشر سنوات مضت، حتى بت لا أستطيع الفكاك منها إلا إذا أمطرت السماء".

ويضيف -بعدما يؤكد أنه أصبح بدون دخل- "هنا أبحث عن متعة مفقودة، وأشعر براحة نفسية، تنسيني ما جناه عليَّ الزمن من محن".

يحصي العياشي الحلقات المتناثرة على طول الساحة، يخيل إليك أن كل واحد من الحاضرين قد أخذ مكانه في طابور واحد على حاشية الزمن ينتظر الرحيل، حتى إذا اقتربت منهم وشاركت حديثهم رأيت مفاتن الحياة كما هي لم تترهل ولم تذبل، من حرص على المتعة وتسابق على الغلبة وعناد مستميت للعيش بصور وأشكال تتأقلم مع ما شاخ من أبدان وما غصت به الذاكرة.

تقول هاجر بوزيد الباحثة في علم النفس الاجتماعي للجزيرة نت "إن تواجد المسنين في الساحات والحدائق بهدف لعب الورق هو نتاج وضعهم الاجتماعي الجديد، المتصل أساسا بمسار تقدمهم في السن ومحاولة وضعهم على الهامش".

وتتابع "يصف المجتمع هذه الفئة بأوصاف معينة، من قبيل "أشخاص غير نافعين" و"أشخاص في انتظار الموت" و"أشخاص يهدرون وقتهم، وهو ما ينعكس على تصور هؤلاء المسنين لذواتهم".

وتفسر هاجر تردد هؤلاء على هذه الساحات بأنهم ينحدرون من طبقات اجتماعية فقيرة، ومسار حياتهم الشخصي والمهني والأسري لا يتيح لهم اختيارات أخرى في ما يتعلق بالأنشطة الترويحية، لذا يبحثون عن ذواتهم في هذه الأماكن.

‪‬ العياشي: لا أستطيع التوقف عن الحضور لساحات اللعب إلا إذا أمطرت السماء(الجزيرة)
‪‬ العياشي: لا أستطيع التوقف عن الحضور لساحات اللعب إلا إذا أمطرت السماء(الجزيرة)

أوراق اعتماد 
إلى جانب العياشي، يفترش "الميلودي" (86 سنة) سجادته التي لا تفارقه، ورغم أنه لا يجيد اللعب فإنه يحرص على الحضور للتمتع بالسجال الكلامي بين المتنافسين، والذي لا يخلو من تحد، على حد تعبيره.
 
وبنظرة كلها حنين إلى الماضي، الممزوج بحسرة على ما مضى من زمن، يُظهر "أوراق اعتماده" وهي عبارة عن وصولات أداء أجرته، ويقول متأففا "عملت مع "الحكومة" عشرين عاما أحرس قنطرة ليلا من اللصوص وقطاع الطرق، لكنني بعد تقاعدي، لم أجد أحدا يحرسني من ويلات الزمن.

يحكي حكاياته بمشاعر مفعمة بأحاسيس العزلة والغربة في زمن يسير بإيقاع رتيب: "لا تغطية صحية ولا تقاعد، أعيش على حافة الزمن، وأقتات مما تيسر".

الميلودي هو واحد من كبار السن، الذين يصل نسبتهم بين السكان إلى 9.6% من السكان، وهو ما يطرح تحديات كبرى حسب آخر تقرير لوزارة التضامن والمرأة والأسرة المغربية، والتي تتعلق بالدرجة الأولى بالنقص الحاد في التغطية الصحية والاجتماعية.

وبخلاف مشاعر العزلة، يقول الدكتور أحمد الكرعاني الطبيب المختص في الأمراض النفسية للجزيرة نت إنهم أيضا يتعرضون إلى مجموعة من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، لذا تلجأ هذه الفئة إلى الاحتكاك بأشخاص من نفس مستواهم الثقافي والاجتماعي، ويروحون عن أنفسهم باللعب، خاصة إذا امتزج بالتحدي".

وكأنه انسحاب من الحياة وانفكاك من كل رابط اجتماعي، يقضي العياشي والميلودي وزملاؤهما وقتا طويلا بعيدا عن العائلة. وعن هذا يقول الكرعاني إن الشعور بالإحباط لدى المسنين مرتبط بتقدمهم في السن ونظرتهم المتغيرة والمضطربة إلى الحياة، فهم في حاجة كبيرة أكثر من غيرهم إلى الدعم النفسي".

ويوجد في المغرب 62 مؤسسة لرعاية المسنين، تضم فقط 5029 مستفيدا ومستفيدة، حسب آخر إحصاء أنجز سنة 2013، ويطغى عليها الإيواء في 54 مؤسسة، مقابل خدمات نهارية في ثماني مؤسسات.

المصدر : الجزيرة