لماذا تجنبت الإمارات إدانة غزو روسيا لأوكرانيا في مجلس الأمن؟
في 25 فبراير/شباط الماضي، قدَّمت الولايات المتحدة مشروع قرار إلى مجلس الأمن للتنديد بالغزو الروسي لأوكرانيا، ومطالبة موسكو بالانسحاب الفوري. لم يكن من المتوقَّع أن يمر مشروع القرار على كل حال، لأن استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) لم يكن محل شك، لكن الولايات المتحدة هدفت إلى عزل موسكو دبلوماسيا وإظهارها منبوذة من قِبَل المجتمع الدولي.
بيد أن جدار العزلة الأميركي اعترته الثقوب، بعد أن امتنعت 3 دول عن التصويت على المشروع الأميركي الألباني، أولى هذه الدول هي الصين، وكان موقفها متوقَّعا على كل حال، أما الدولتان الأخريان، وهما الهند والإمارات العربية المتحدة، فتُصنَّفان ضمن قوائم الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، لذا فإن موقف الدولتين، وخاصة الإمارات (التي امتنعت عن التصويت للمرة الثانية على قرار يدعو الجمعية العامة إلى عقد جلسة عاجلة واستثنائية حول الهجوم الروسي على أوكرانيا يوم الأحد)، أثار غضب واشنطن وحلفائها الأوروبيين، إلى درجة أن مسؤولا غربيا عبَّر عن استيائه من الموقف الإماراتي في حديث لوكالة الأنباء الفرنسية، مُعرِبا عن اعتقاده أن أبو ظبي أبرمت "صفقة قذرة" مع روسيا تتعلَّق بالحوثيين وأوكرانيا.
كان المسؤول الأوروبي يُشير تحديدا إلى جلسة لمجلس الأمن عُقدت أمس، الاثنين، وصوَّت خلالها المجلس، بدعم من روسيا، على مشروع يُصنِّف جماعة الحوثي اليمنية جماعة "إرهابية"، ويوسِّع الحظر على إيصال الأسلحة إلى اليمن ليشمل جميع المتمرّدين الحوثيين، بعدما كان مقتصرا على أفراد وشركات محدّدة، وهو ما أثار اعتقادا حول وجود اتفاق إماراتي روسي تمتنع بموجبه أبو ظبي عن إدانة موسكو، مقابل الحصول على دعم روسيا في جلسة الحوثيين.
غير أن دلالات الامتناع الإماراتي من المرجَّح أنها تتجاوز الصفقة قصيرة الأمد حول الحوثيين وأوكرانيا إلى إرسال رسالة واضحة أن أبو ظبي لم تعد تصطف تماما مع الولايات المتحدة والغرب ضد روسيا، وهي رسالة لافتة خاصة في لحظة مهمة يبدو فيها النظام الدولي بصورة عامة مُقبلا على تحوُّل ملموس في ميزان القوى.
تحالف مع واشنطن.. وتعاون متسارع مع روسيا
ليس ثمة شك في موقع الإمارات بوصفها حليفة للولايات المتحدة، ولا يوجد ما يدعو للاعتقاد أن أيًّا من الطرفين بصدد التخلي عن منافع هذا التحالف المتعددة في المستقبل القريب. لكن ما يحدث حاليا يمكن وصفه بأنه اتجاه إماراتي لعدم الركون إلى هذا التحالف باعتباره خيارا وحيدا، بعد أن أظهرت واشنطن أنها لا تعطي الأولوية للشرق الأوسط في سياستها الخارجية.
تبدو الشراكة الإماراتية الأميركية ذات أُسس أكثر متانة من العلاقات الإماراتية الروسية التي يمكن وضعها في إطار التعاون والصداقة. فمن الناحية الاقتصادية، تحتل الإمارات المرتبة الأولى عربيا والعشرين عالميا بين الدول المستثمرة في السوق الأميركي، بإجمالي استثمارات تراكمية بلغ 44.7 مليار دولار حتى نهاية 2020. كما تأتي الإمارات في مُقدِّمة الدول العربية التي تستقبل صادرات أميركية بقيمة بلغت 14.75 مليار دولار عام 2020. وعموما تضاعف التبادل التجاري بين البلدين من 5.22 مليارات دولار عام 2005 إلى 23.02 مليار دولار عام 2021.
في المقابل، وعلى الرغم من أن التبادل التجاري بين روسيا والإمارات سجَّل 3.3 مليارات دولار عام 2020، وهو رقم يبدو متواضعا مقارنة بالميزان التجاري الإماراتي الأميركي، فإنه مَثَّل قفزة في مستوى العلاقات التجارية بين البلدين، واستمر معدل نمو حجم هذا التبادل بصورة لافتة خلال 2021، حيث زاد بنسبة تقترب من 80% مُسجِّلا نحو 5 مليارات دولار، وهو ما اعتُبر "مستوى قياسيا" في تاريخ علاقة البلدين. بالإضافة إلى هذا، فإن الإمارات هي أكبر شريك تجاري خليجي لروسيا، بحصة تبلغ 55% من إجمالي تجارة دول مجلس التعاون الخليجي مع موسكو، كما تحتل المرتبة الثانية عربيا (بعد مصر). وتستحوذ الإمارات على 90% من الاستثمارات الروسية في المنطقة، كما أنها أكبر مستثمر عربي في روسيا بحصة تفوق 80% من إجمالي الاستثمارات العربية في روسيا.
أما من الناحية العسكرية، فالولايات المتحدة هي الشريك العسكري الأساسي لدول الخليج عموما. ومنذ حرب الخليج عام 1991 أصبحت الولايات المتحدة هي المورد الرئيسي للسلاح إلى الجيش الإماراتي، تليها دول غربية، في حين لا تظهر روسيا في الصورة ظهورا معتبرا. فبحسب تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام "سيبري"، مارس/آذار 2019، جاءت الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا في مُقدِّمة مصادر مشتريات الجيش الإماراتي من الأسلحة خلال الفترة من 2014 إلى 2018، بنسبة 64% من أميركا، و10% من فرنسا، و7.8% من تركيا. وخلال الفترة من 2015-2019 تصدَّرت الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا القائمة بنِسَب 68%، و11%، و3.4% على الترتيب، وفق تقرير آخر للجهة نفسها.
ومؤخرا، بدأ سريان اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك بين دولة الإمارات والولايات المتحدة في التاسع والعشرين من مايو/أيار 2019، الذي يستهدف تعزيز التنسيق العسكري بين البلدين. كما أُطلِق الحوار الإستراتيجي التأسيسي بين البلدين في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وحتى بعد رحيل "ترامب" قرَّرت إدارة "بايدن" المُضي قُدما في صفقة نوعية بقيمة 23 مليار دولار تعكس عمق الشراكة العسكرية بين الجانبين، تشمل 50 طائرة من مقاتلات الجيل الخامس "إف-35".
بيد أن تلك الصفقة الأخيرة على وجه التحديد أظهرت التناقضات في التحالف الأميركي الإماراتي، وأثبتت لأبو ظبي قصور الاعتماد على الولايات المتحدة حليفا وحيدا. وبسبب المتطلبات والقيود التقنية والسياسية المفروضة من قِبَل واشنطن، سواء من حيث المواصفات الفنية وتمسُّك واشنطن بامتلاك الإمارات لطائرات بمواصفات أقل من تلك التي تحوزها إسرائيل، أو من حيث الضغوط على الإمارات لإيقاف التعاون مع الصين في شبكات الجيل الخامس، أعلنت أبو ظبي في ديسمبر/كانون الأول الماضي تعليق المحادثات حول الصفقة. وبالتزامن، وقَّعت أبو ظبي وباريس صفقة لشراء 80 طائرة فرنسية مقاتلة من طراز "رافال" و12 مروحية من طراز "كاراكال"، في صفقة تصل قيمتها إلى 17 مليار يورو (نحو 19 مليار دولار)، أما الصفقة الأهم فكانت إعلان أبو ظبي الأسبوع الماضي عزمها على شراء 12 طائرة عسكرية من طراز "إل 15 فالكون"، مع خيار إضافة 36 طائرة من الطراز نفسه في المستقبل، ما قدَّم دليلا إضافيا على جدية أبو ظبي في تنويع محفظتها العسكرية، حتى لو كان ذلك يعني التعاون مع أبرز خصوم الولايات المتحدة.
طور جديد للسياسة الإماراتية
لفهم الموقف الإماراتي الحالي، من المهم أن نضعه في سياق نهج السياسة الخارجية الجديد الذي تتبنَّاه أبو ظبي منذ أواخر 2019. عقب تعرُّض منشآت أرامكو السعودية لهجمات يُعتقد أن ميليشيات موالية لإيران تقف وراءها، قدَّرت الإمارات أن مستوى المخاطر في المنطقة بات مُهدِّدا للأمن الإقليمي، ومن ثم بدأت تراجع سياستها الإقليمية بهدف خفض مستوى التوتر الخارجي، حيث قرَّرت الانسحاب من اليمن، والتهدئة مع إيران، ثم التطبيع مع تركيا. قرَّرت أبو ظبي أن الانخراط مع دول المنطقة في علاقات تجارية واقتصادية واسعة سيُحقِّق فرصا أكثر لاحتواء الخلافات ومن ثم خفض مستوى التهديدات. لكنها بالتوازي مع هذا، شرعت في مسار تحالف أمني وثيق مع إسرائيل سعيا وراء تفوُّق تكنولوجي ومزيد من شبكات الحماية.
هذه السياسة استندت إلى افتراضين: الأول، أن الولايات المتحدة تتخلى تدريجيا عن التزاماتها تجاه المنطقة، ومن ثم تترك مجالا أوسع لقوى الإقليم لتشكيل الأجندة السياسية للمنطقة. الثاني، أن الاعتماد الحصري على الولايات المتحدة قد لا يوفر الضمانات الأمنية الكافية في حال تعرُّض الدولة لتهديدات خارجية، وهو ما بدا أن السعودية تعاني منه بعد سحب واشنطن بطاريات باتريوت وتخليها عن تقديم الدعم العسكري المناسب في حرب اليمن. وجاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان ليُلقي مزيدا من الشكوك حول كفاية الرهان على حليف وحيد قد تتغير أولوياته، ومن ثم تُسجِّل الإمارات منحنى متصاعدا في تطوير التعاون العسكري مع الصين وروسيا. صحيح أن الولايات المتحدة تبقى هي الشريك العسكري الأول لأبو ظبي دون منازع، وهو موقع ليس من المتوقَّع أن يتغير خلال السنوات القليلة القادمة، لكن الاستفادة من التعاون "غير المشروط" مع الصين وروسيا في ملفات أمنية ومشروعات تصنيع أسلحة مشتركة يبدو بالنسبة إليها خيارا منطقيا.
لم يكن امتناع الإمارات عن تأييد القرار الأميركي إذن إعلانا عن إقلاع الإمارات عن تحالفها مع واشنطن، ولكنه رسالة واضحة لواشنطن أن حلفاءها غاضبون لأنهم لا يتمتعون بمزايا التحالف كاملة، وأن تراجع واشنطن المستمر عن التزاماتها تجاه حلفائها يدفعهم لتنويع خياراتهم، وهو ما يُحتم عليهم أحيانا عدم التماهي مع مواقف واشنطن، التي لا تجد غضاضة في تجاهل مصالحهم في بعض المناسبات.