السعودية والصين.. حدود الشراكة في عالم مضطرب

أجرى الرئيس الصيني "شي جين بينغ" زيارة إلى المملكة العربية السعودية يوم الخميس 8 ديسمبر/كانون الأول، امتدت لثلاثة أيام، تُمثّل أكبر نشاط دبلوماسي بين الصين والعالم العربي في تاريخ الصين الحديث، حيث شارك "شي" في قمة دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك شارك في قمة عربية-صينية التقى خلالها بعدد من الزعماء العرب.

خلال الزيارة، وقّع "شي" مع العاهل السعودي الملك "سلمان بن عبد العزيز" اتفاقية شراكة إستراتيجية شاملة يلتزم فيها رئيسا البلدين بعقد اجتماعات نصف سنوية، كما وقعا مذكرات تفاهم لـ"مواءمة" مبادرة الحزام والطريق الصينية مع رؤية المملكة العربية السعودية 2030، ووقعت الشركات الصينية والسعودية على 34 اتفاقية بقيمة 30 مليار دولار، تغطي الطاقة الخضراء وتكنولوجيا المعلومات والبنية التحتية.

شراكة في عالم مضطرب

تأتي زيارة الرئيس الصيني "شي" للسعودية لتؤكد على مساعي الرياض تأسيس موقعها بوصفها قوة على الساحة الدولية. (رويترز)

ترتكز العلاقات بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل رئيسي على استثمارات البنية التحتية وتجارة البضائع والنفط، ولكنها امتدت في السنوات الأخيرة أيضا إلى مجالات التكنولوجيا والأمن، ومنذ عام 2005 وقعت الصين صفقات وعقودا استثمارية ضخمة مع دول مجلس التعاون الخليجي بقيمة 116 مليار دولار، جاء نحو ثلث هذا المبلغ من تعاقدات مع المملكة العربية السعودية.

في غضون ذلك، تعد الصين في الوقت الراهن الشريك التجاري الأول للسعودية، حيث بلغت قيمة التجارة بين بكين والرياض في عام 2021 ما يناهز 80 مليار دولار، وتلقت السعودية في العام الجاري حوالي 5.5 مليارات دولار من الاستثمارات والعقود من خلال مبادرة الحزام والطريق الصينية. في حين تمثل الصين السوق الأكبر لاستقبال صادرات النفط السعودي، حيث استقبلت بكين في العام الجاري حوالي 40% من إجمالي وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون الخليجي، جاءت نصف هذه الواردات من السعودية وحدها.

غير أن العلاقات السعودية-الصينية لم تعد تتعلق بالمنافع الاقتصادية وحدها، حيث تأتي زيارة الرئيس الصيني "شي" للسعودية لتؤكد على مساعي الرياض تأسيس موقعها بوصفها قوة على الساحة الدولية، تحاول تحقيق أكبر استفادة من أهميتها الإستراتيجية التي تزايدت في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي هذا الإطار تسعى المملكة من خلال بناء علاقات أوسع مع الصين إلى إنجاز عدة أهداف في آن واحد.

بادئ ذي بدء، يأتي تعميق العلاقات مع الصين ضمن إستراتيجية واسعة ومدروسة تستهدف تنويع بدائل تحالفات المملكة، وعدم الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، حيث تدرك الرياض أن اختيار علاقة واحدة مع أحد الجانبين على حساب الآخر ستكون له تكلفة باهظة، لذلك تحرص الرياض على تطوير علاقتها مع الصين، شريكها التجاري الأكبر، وفي الوقت نفسه تحرص على الحفاظ على علاقتها مع الولايات المتحدة، حليفها الأمني الأول. ويأتي هذا التوجه السعودي استجابة لتحول أولويات السياسة الخارجية الأميركية بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط بصورة ملموسة، الأمر الذي أثار قلق الرياض تجاه التزام أميركا كضامن رئيسي للأمن الإقليمي ومُوَاجِه للتهديدات الإيرانية.

الهدف الثاني، والذي ربما لا يقل أهمية، هو أنه مع بروز الصين بوصفها قوة دولية صاعدة، لا تريد الرياض أن تنحصر علاقات الصين في منطقة الخليج فقط في علاقات إستراتيجية مع إيران التي وقّعت بكين معها العام الماضي اتفاقية شراكة إستراتيجية تمتد إلى 25 عاما. وتستهدف السعودية تعزيز الوزن الخليجي والعربي في دائرة علاقات الصين بالمنطقة كي تقيّد من دعم بكين لإيران في السياسة الإقليمية، خصوصا الملف النووي.

وأخيرا، توفر العلاقة مع الصين فرصا اقتصادية متنوعة تخدم توجهات ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الذي يسعى لتنويع اقتصاد المملكة وجذب استثمارات خارجية كبيرة في مجالات البنية التحتية والتصنيع والتكنولوجيا.

أما على الجانب الصيني، فقد أسهمت التغيرات الهيكلية التي تشهدها أسواق الطاقة العالمية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في تحفيز الصين لتوسيع علاقاتها مع دول الخليج الغنية بموارد الطاقة، ليس فقط مع السعودية، ولكن أيضا مع قطر التي وقّعت معها اتفاقا إستراتيجيا لتوريد الغاز المسال لمدة 27 عاما، حيث تستهدف الصين بشكل إستراتيجي تأمين إمدادات الطاقة الأساسية لاقتصادها، وكذلك ضمان تدفق النفط والغاز في حال تصاعدت التوترات بشأن تايوان إلى عقوبات غربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار إمدادات الطاقة من الخليج يمنح بكين أيضا قدرة تفاوضية كبيرة للحفاظ على أسعار وارداتها النفطية الروسية عند مستويات منخفضة.

الصين والأمن الإقليمي

لكن الانخراط الصيني المتزايد في الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج على وجه الخصوص، لا يعني أن بكين لا تسعى لتغيير معادلة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، والتي ما زالت ترتكز بشدة على الولايات المتحدة التي لا يبدو أنها سوف تلقى منافسة حقيقية في هذا الفضاء خلال المدى المنظور.

يمكننا أن نُرجع إحجام بكين على الانخراط الأمني إلى عدة أسباب. بداية، ترتبط السياسة الخارجية الصينية بشكل كبير بالتنمية الاقتصادية، وهو الأمر الذي منعها من تشكيل تحالفات أمنية دائمة في الخارج يمكن أن تورط بكين في صراعات بعيدة المدى تؤدي إلى أزمات ومشكلات تعيق الاستثمارات الصينية. وبناء على ذلك، من غير المتوقع أن تسعى الصين إلى استبدال أميركا والقيام بأدوارها في منطقة الشرق الأوسط التي تعاني من عدم استقرار سياسي واضطرابات مزمنة. وعلى العكس من ذلك، تستفيد الصين من الدور الأميركي في المنطقة كضامن للأمن والاستقرار، والذي يوفر للصين المزيد من المصالح الاقتصادية.

بخلاف ذلك، تتخوف الصين من أن انخراطها المتزايد في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات السياسية والعسكرية، يتطلب توجيه مزيد من مواردها للمنطقة، بينما تأتي منطقة المحيطين الهندي والهادئ أولويةً للصين لمواجهة أنشطة الولايات المتحدة في هذه المنطقة، والتي تعد الساحة الرئيسية للتنافس بين بكين وواشنطن خلال السنوات القادمة.

أما على الجانب الأميركي، فلا تتسبب استثمارات الطاقة وعقود البناء ومجمل العلاقات التجارية والاقتصادية بين السعودية -ودول الخليج عموما- والصين في إثارة الكثير من القلق لدى الإدارة الأميركية، بينما تنحصر تخوفات واشنطن فيما إذا كانت السعودية ودول الخليج، والدول العربية عموما، تتجه لمنح الصين موطئ قدم إستراتيجيّا في منطقة الخليج من خلال التعاون في مجموعة من المجالات الإستراتيجية.

تتخوف واشنطن بالقطع من أن تندفع الرياض إلى تعاون نووي متطور مع الصين بهدف الحفاظ على توازن القوى بينها وبين طهران، لا سيما مع غموض مستقبل المفاوضات النووية مع إيران، (رويترز)

على رأس هذه المجالات يأتي مجال تكنولوجيا الاتصالات، وخاصة التعامل مع شركة "هاواوي (Huawei)" الصينية التي تخضع لعقوبات شديدة من قبل الحكومة الأميركية، خاصة في مجال شبكات الجيل الخامس (G5)، ويرجع التخوف الأميركي إلى إمكانية استخدام بكين المعدات والتكنولوجيا صينية الصنع للتجسس على التكنولوجيا العسكرية الأميركية.

الأهم من ذلك أن الولايات المتحدة تحرص على إبقاء التعاون العسكري بين دول الخليج، وحلفائها العرب عموما، وبين الصين محدودا وبعيدا عن المستويات الإستراتيجية، خاصة أنظمة الدفاع الجوي والطائرات المقاتلة من الأجيال المتقدمة والصواريخ الباليستية وأنظمة التجسس العسكرية، وهي سياسة لا تقتصر على الأسلحة الصينية، وإنما تشمل أيضا الأسلحة الروسية، حيث تعتمد السعودية ودول الخليج بصورة رئيسية على المعدات العسكرية الأميركية، فقد حصلت السعودية على 73٪ من مشترياتها العسكرية من الولايات المتحدة في الفترة من 2015-2019، وهو أمر لا يمثل سوقا مربحة جدا لشركات السلاح الأميركية فحسب، بل يحافظ أيضا على نفوذ أمني أميركي طويل المدى في المنطقة، يشمل مثلا عقود وبرامج تدريب مشتركة طويلة الأجل، وحضور ميداني في جميع دول الخليج، وهي أمور لا تسعى واشنطن للتخلي عنها لمصلحة الصين أو روسيا.

بشكل لا يقل أهمية، تنظر الولايات المتحدة من كثب إلى مشاريع البنية التحتية التي تنخرط فيها الصين في بعض دول الخليج، والتي من المحتمل أن يكون لها أغراض ذات استخدام مزدوج، كما هو الحال مع الضغوط التي مارستها أميركا على الإمارات لوقف عمليات البناء التي تقوم بها الصين لميناء بالقرب من أبو ظبي، وذلك لاعتقاد أميركا أن الميناء سيكون بمثابة قاعدة بحرية للصين.

وأخيرا، تتخوف واشنطن بالقطع من أن تندفع الرياض إلى تعاون نووي متطور مع الصين بهدف الحفاظ على توازن القوى بينها وبين طهران، لا سيما مع غموض مستقبل المفاوضات النووية مع إيران، الأمر الذي لن يؤدي إلى تزايد النفوذ الصيني في منطقة الخليج فحسب، بل يمكن أيضا أن يتسبب تزايد النشاط النووي في تهديد المصالح الأميركية الرئيسية بالمنطقة.

ما الذي ننتظره؟

في ضوء هذه المصالح المتشابكة، ورغبة السعودية المتزايدة في تنويع شبكة تحالفاتها، من المرجح أن تعتمد الرياض في إدارة سياستها الخارجية تجاه كل من واشنطن وبكين على إستراتيجية "التحوط"، بمعنى تجنب الانحياز الكامل لأحد المعسكرين الأميركي أو الصيني، ومواصلة الحفاظ على التوازن في العلاقات بين القوتين الدوليتين. فحتى الآن ما زالت السعودية حريصة على إعادة تجديد تحالفها الأمني والعسكري مع واشنطن، وتسعى لوضع إطار اتفاق واضح يدعمه الكونغرس ولا يخضع لتقلب توجهات إدارات البيت الأبيض.

سوف يظل الاقتصاد هو الركيزة الأساسية للعلاقات السعودية-الصينية، حيث لا يزال تعاون السعودية العسكري مع الصين محدودا مقارنة بالولايات المتحدة، ففي عام 2021 باعت واشنطن أسلحة بقيمة 1.3 مليار دولار للمملكة، بينما باعت الصين أسلحة للمملكة بقيمة 40 مليون دولار فقط، ومع ذلك فإن سعي المملكة إلى تطوير خياراتها العسكرية وتنويعها، خاصة في ظل القيود السياسية المرتبطة بإقرار صفقات التسلح المهمة في واشنطن ودول أوروبية، قد يؤدي إلى تطور العلاقات العسكرية بين السعودية والصين في المدى المتوسط، ضمن خيارات أخرى تشمل دولا أوروبية وتركيا وحتى روسيا، خاصة أن ولي العهد السعودي يتبنى توجها لتوطين الصناعات العسكرية.

في غضون ذلك، من غير المرجح أن تدفع الولايات المتحدة شركاءها في الخليج والمنطقة العربية إلى الاختيار بين أحد الجانبين الأميركي أو الصيني؛ وذلك لأن العديد من أشكال التعاون بين تلك الدول والصين لا تمثل تهديدا كبيرا لمصالح واشنطن، كما أن انسحاب دول الخليج من مواصلة التعاون مع الصين قد يكون من المستحيل تنفيذه من الناحية العملية؛ إذ إن اقتصاديات السعودية وغالبية دول الخليج متشابكة مع الاقتصاد الصيني بشكل كبير. بالإضافة إلى ذلك، فإن اتباع أميركا لهذا النهج في التعامل مع حلفائها سيدفعهم في المقابل لمطالبة واشنطن بمزيد من الضمانات الأمنية والاقتصادية، والتي قد تكون واشنطن مترددة أو غير قادرة على تقديمها.

____________________________________

نُشر هذا المقال بالاتفاق مع موقع أسباب، للاطلاع على المقال الأصلي من هنا.

المصدر : الجزيرة

إعلان