شعار قسم ميدان

انقلاب قرطاج الناعم.. هل كتب قيس سعيد شهادة وفاة الديمقراطية في تونس؟

ربما لم يكن أكثر المتشائمين حول الوضع السياسي في تونس يتوقَّع أن تؤول الأزمة السياسية في البلاد إلى السيناريو الذي وقع ليلة 26 يوليو/تموز. وفي تكرار للمشهد الذي شهدته مصر منتصف عام 2013، وبالتزامن مع تظاهرات طالبت بإسقاط الحكومة والبرلمان تضمَّنت هجمات عنيفة على مقرات حركة النهضة صاحبة التكتُّل الأكبر في البرلمان التونسي، خرج الرئيس التونسي قيس سعيد على شاشات التلفاز مُحاطا بمجموعة من القيادات الأمنية والعسكرية في قصر قرطاج، ليُعلن "انقلابا ناعما" تضمَّن تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، على أن يتولَّى الرئيس نفسه السلطة التنفيذية بالتعاون مع رئيس حكومة يُعيِّنه هو وليس البرلمان كما ينص الدستور، فضلا عن إعلان ترؤسه للنيابة العمومية بدعوى "متابعة ملفات تمس أمن البلاد".

وفي مشهد يبدو قادما من أزمنة الانقلابات العتيقة، لم يُفوِّت سعيد الفرصة لتحذير معارضيه أن "مَن سيُطلِق رصاصة واحدة في سياق الاعتراض على هذه القرارات سيُواجَه بوابل من الرصاص من القوات المسلحة والأمنية ليس له حصر"، مؤكِّدا أن تلك القرارات كانت ضرورية في وقت تمر فيه تونس "بأخطر مرحلة في تاريخها، وتشهد عبثا بالدولة ومُقدَّراتها وأموالها".

 

على الجهة الأخرى، رفض رئيس البرلمان التونسي "راشد الغنوشي" قرارات سعيد، ووصفها بأنها انقلاب على الثورة والدستور، داعيا الشعب إلى التظاهر لحماية الثورة والمؤسسات المنتخَبة، فيما أكَّد الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي أن الرئيس سعيد "خرق الدستور الذي أقسم عليه وأعطى لنفسه كل السلطات واعتبر نفسه رئيس الجهاز التنفيذي (الحكومة) والقاضي الأول".

زعم الرئيس التونسي في خطابه أن قراراته الاستثنائية لم تتجاوز الشرعية الدستورية والصلاحيات التي يمنحها له الدستور بوصفه رئيسا للبلاد. وفي هذا الصدد، يبدو أن الرئيس التونسي يُشير إلى المادة 80 من الدستور، الخاصة بالإجراءات الاستثنائية التي تنص على أنه "لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهمٍ مُهدِّدٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذَّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تُحتِّمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويُعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب".

 

أشار سعيد في خطابه إلى أنه استشار رئيس البرلمان راشد الغنوشي بخصوص تفعيل الإجراءات الاستثنائية، لكن الغنوشي نفى تلك المزاعم، في حين لم تصدر تصريحات بهذا الشأن عن رئيس الوزراء هشام المشيشي الذي يُعتقد أنه مُحتجز في قصر قرطاج. وفيما تتوالى ردود الأفعال حول قرارات قيس سعيد المُثيرة للجدل، تواجه بلاد الياسمين أُفقا سياسيا مُلبَّدا بالغيوم، ومخاوف حقيقية من نهاية التجربة الديمقراطية المُتعثِّرة في البلاد، وعودة أول معاقل الربيع العربي رسميا إلى عهود استبداد ما قبل عام 2010.

 

تعود جذور الأزمة السياسية الحالية في تونس إلى عام 2019، الذي شهد انتخابات رئاسية أوصلت قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري البالغ من العمر 61 عاما، إلى قصر قرطاج. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، حاول حزب النهضة الإسلامي، الأكبر في البرلمان، تمرير حكومة الحبيب الجملي ولم ينجح في ذلك، لتظهر إلى السطح خلافات بين موقعَيْ الثقل السياسي في تونس، "البرلمان" الذي على رأسه حزب النهضة، و"الرئاسة" التي يُمثِّلها قيس سعيد، وهي خلافات كانت تُنذر بصراع مُحتدِم على تحديد نفوذ المؤسسات في الديمقراطية الوليدة.

 

عادت الكرة إلى ملعب قيس سعيد لاختيار بديل للحبيب الجملي من أجل تشكيل الحكومة، وهو ما خلق مناخا سياسيا تفاقمت فيه السجالات حول مسألة الصلاحيات على وجه التحديد. لكن تلك التجاذبات لم تكن جديدة من نوعها على كل حال، إذ عرفتها تونس بشكل متكرر بعد ثورتها عام 2011، فكثيرا ما أُثيرت مسألة ضبط صلاحيات الرئاسات الثلاث؛ رئاسة المجلس (البرلمان)، ورئاسة الحكومة، ورئاسة الجمهورية.

Vote of confidence session in Tunisian parliament - - TUNIS, TUNISIA - JANUARY 10: Habib Jemli speaks during a session held to take a vote of confidence for the new government formed by him, in the Tunisian parliament in Tunis, Tunisia on January 10, 2020.

على سبيل المثال، شهدت فترة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي صراعا من هذا النوع، وقد عُدَّت رئاسته بمنزلة مرحلة سياسية عادت فيها الشخوص والأحزاب الموالية للنظام القديم إلى الواجهة في عام 2014 بعد سنوات قليلة على الإطاحة بالنظام. وفي ظل حكومة الحبيب الصيد التي مُنِحَت ثقة البرلمان في فبراير/شباط 2015، حدث ما يشبه الانقلاب على النظام شبه البرلماني بسبب مساعي البعض إلى تحويله نحو النظام الرئاسي. وسرعان ما تفاقمت الأزمة مع وصول حكومة يوسف الشاهد، حين أراد الشاهد أن يستقل بصلاحياته بعيدا عن رئيس الدولة ليدخل في مواجهة مع الرئيس التونسي نفسه.

 

عادت أزمة الصلاحيات لِتُطل بوجهها من جديد بشكل أعنف مع حكومة هشام المشيشي التي أدَّت اليمين الدستورية في سبتمبر/أيلول 2020، فبينما كانت حركة النهضة ترغب في تعيين رئيس حكومة موالٍ للأغلبية البرلمانية، أراد الرئيس التونسي رئيسَ حكومة مواليا له. بمعنى آخر، بينما دعم حزب النهضة منح المزيد من السلطات للحكومة، وبالتالي للبرلمان، أراد الرئيس التونسي التأسيس لنظام رئاسي بدلا من النظام الحالي المختلط الذي يضع معظم الصلاحيات بيد رئيس الوزراء الذي يُعيِّنه الائتلاف الحاكم.

 

حلَّ الصدام الأبرز، في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، حين رفض قيس سعيد المصادقة على تعديل وزاري اقترحه المشيشي وصادق عليه البرلمان التونسي، رافضا دعوة الوزراء الجدد إلى أداء اليمين الدستورية أمامه، مُعتبِرا أن التعديل شابته "خروقات"، وهو ما لم يقبله المشيشي. بالتزامن مع ذلك، تسبَّبت تصريحات لسعيد أنّ صلاحياته بوصفه قائدا أعلى للقوات المسلحة تشمل أيضا قوات الأمن الداخلي وليس الجيش فقط في تصعيد خلافه مع حكومة المشيشي بشأن الصلاحيات.

Tunisia's Interior Minister Hichem Mechichi takes the oath of office during the country's new government swearing-in ceremony at the Carthage Palace outside the capital Tunis, Tunisia February 27, 2020. Fethi Belaid/Pool via REUTERS
هشام المشيشي

 

منذ اشتعال الأزمة، تعدَّدت المبادرات الساعية لتخفيف الاحتقان، والخروج من الخلاف حول الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الحكومة هشام المشيشي. وكانت أولها مبادرة التهدئة والوساطة بين الفرقاء السياسيين، التي قام بها "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أكبر منظمة نقابية في تونس، إذ أطلق الاتحاد مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي مبادرة "الحوار الوطني" بُغية الخروج من الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ومن أهم بنودها إرساء "هيئة حكماء تقودها شخصيات وطنية مُستقلِّة للخروج من الأزمة".

 

بيد أن المبادرة مرَّت على الجميع مرور الكرام دون الأثر المرجو منها، ليُفاجئ الرئيسُ التونسي في مارس/آذار الماضي شعبَه باقتراحه تنظيم حوار وطني بمشاركة واسعة من الشباب، بما يُمكِّن من بلورة مقترحات ومطالب تنطلق من المستوى المحلي نحو الوطني، وهو اقتراح اعتبرته النخبة السياسية التفافا على مبادرة الحوار التي تقدَّم بها اتحاد الشغل، ومحاولة من قيس سعيد لإطالة أمد الأزمة وإحراج منافسيه في السلطة والاستئثار بدفة العملية السياسية.

 

بعد نحو شهر، أتت مفاجأة أخرى للتونسيين مع إقدام عدد من الضباط المتقاعدين من الجيش التونسي على طرح مبادرة سياسية باسم "الأمل الأخير"، ويقترح الضباط للخروج من الأزمة السياسية أن يدعو الرئيس "كلًّا من السادة رئيسَيْ مجلس النواب والحكومة لاجتماع عاجل بقصر الجمهورية يُخصَّص لِطيّ صفحة القطيعة واستعادة الاتصالات الطبيعية بين الرئاسات الثلاث وتدارس رهانات المرحلة ومتطلباتها". وقد اقترح الضباط أيضا على الرئيس "إلقاء خطاب تجميعي في مجلس النواب يحضره كل الفرقاء السياسيين، ويعقبه إيقاف فوري لكل حملات تبادل العنف والتشويه، واحترام الأطراف السياسية، والتزام الجميع بتأجيل الخوض في المسائل السياسية الخلافية إلى حين التخلُّص من وباء كورونا والابتعاد عن شبح الإفلاس". وقد أحدثت تلك المبادرة بالطبع جدلا واسعا في تونس بسبب تحسُّس المجتمع التونسي من تدخُّل القيادات العسكرية في الشأن السياسي.

في منتصف يونيو/حزيران الماضي، فاجأ الرئيس التونس الجميع مجددا بدعوته إلى حوار للاتفاق على نظام سياسي جديد وتعديل دستور 2014 -المُنبثق عن المجلس الوطني التأسيسي- الذي قال إنه مليء بالأقفال والعراقيل. لكن الدعوة التي ظهرت بادرةً نحو الحل جاءت بنتائج عكسية وعادت بالأزمة إلى نقطة الصفر، إذ بدا واضحا من كلمات قيس سعيد أنه يُمهِّد لتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي في البلاد بعد أن شكَّك في الحوار الوطني الذي جرى عام 2013 واصفا إياه بأنه "لم يكن حوارا ولم يكن وطنيا على الإطلاق".

 

مع طول أمد الأزمة في تونس، بدأت دعوات في الظهور إلى السطح تُطالب باستبعاد أصحاب الخلافات المتصاعدة، على رأسها إعلان مجموعة من الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات والشخصيات الوطنية عن تشكيل "جبهة الاستفتاء" من أجل تغيير النظام السياسي والانتخابي في البلاد. وترى تلك المجموعة أنه لتدارك الوضع ثمة حاجة إلى تنظيم استفتاء شعبي يُسأل فيه الشعب التونسي عن نوع النظام السياسي الذي يجب اتباعه، ذلك على اعتبار أن الشعب هو "صاحب السلطة الأصلي" في نهاية المطاف. وقد أكَّد أصحاب المبادرة خلال مؤتمر صحافي في 28 يونيو/حزيران الماضي أنهم "في جبهة موحَّدة ستكون مفتوحة لكل التونسيين وللشخصيات الوطنية ومكونات المجتمع المدني والسياسي كافة، وهدفها استفتاء الشعب حول النظام السياسي، رئاسي أو برلماني، وحول النظام الانتخابي، نسبي أو مطلق، في دورتين".

 

لكن هناك مَن ذهب إلى ما هو أبعد من الاستفتاء حول النظام السياسي بالدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة باعتبارها مخرجا من الأزمة، وقد تصدَّر الرئيس الأسبق منصف المرزوقي قائمة الشخصيات السياسية التي طالبت بضرورة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة بما يضمن حلا للأزمة السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد. ورغم أن كلًّا من الرئيس التونسي وحزب النهضة قد أبديا تأييدهما لمقترح إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة إذا ما تعطَّل إجراء حوار وطني للخروج من الأزمة السياسية، شكَّك كثيرون في فعالية هذا الخيار ومنهم المرزوقي الذي أكَّد أن "منافذ الذهاب إلى استفتاء أو انتخابات مبكرة محدودة جدا بالدستور، وتستلزم توافقا بين فرقاء الأزمة، ولا يمكن الذهاب إلى استفتاء على النظام السياسي أو تعديل الدستور دون وجود المحكمة الدستورية التي لا تزال مُعطَّلة حتى اليوم".

Tunisia's presidential candidate Moncef Marzouki- - TUNIS, TUNISIA - SEPTEMBER 01: Tunisia's presidential candidate Moncef Marzouki speaks during an exclusive interview in Tunis, Tunisia on September 01, 2019.
المنصف المرزوقي

في مواجهة هذه المعضلة، يبدو أن الرئيس التونسي اختار أغرب الحلول على الإطلاق وهو تنصيب نفسه حاكما أوحد للبلاد مُلوِّحا باستخدام القوة العسكرية للجيش والقوات الأمنية ضد خصومه. ولكن في ظل الانقسام الواضح الذي تشهده البلاد حول قرارات سعيد، لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيفعله الجيش التونسي في حال نشوب احتجاجات واسعة ضد قرارات الرئيس، وإذا ما كان الجيش الذي رفض إطلاق النار على شعبه قبل عقد من الزمان في عهد بن علي سوف يفعل ذلك من أجل حماية طموحات قيس سعيد. ولكن بغض النظر عن مصير رصاصات الجيش في النهاية، يبدو أن قيس سعيد نفسه هو مَن أطلق رصاصتين الليلة الماضية، الأولى صوَّبها إلى رأس الديمقراطية التونسية التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، والثانية إلى رأسه هو، لأن الديمقراطية التي قتلها الرئيس هي التي حملته إلى السلطة في المقام الأول، وهي الضامن الأوحد لبقائه فيها.

المصدر : الجزيرة