شعار قسم ميدان

الأونروا: مظلة إنقاذ الفلسطينيين تعود للحياة بعد رحيل ترامب

في مدينة رفح بقطاع غزة، جلست السيدة "سناء هاشم" الفلسطينية الصمَّاء تداعب ولدَيها حين جاءتها رسالة قاسية ومفاجئة تفيد بفصلها من عملها مدرِّسةً للغة الإشارة في إحدى الجمعيات، وذلك بعد عمل استمر عشرين عاما. فُصلت سناء في يونيو/حزيران الماضي مع أكثر من مئة زميل آخرين يعملون وفق بند العمالة المؤقتة في سبعة مراكز للتأهيل المجتمعي تخدم ذوي الإعاقة في قطاع غزة. وأتى القرار آنذاك على خلفية قرار إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قطع المساهمات المالية الأميركية عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، المعروفة اختصارا بـ"الأونروا"، عام 2018.

بيد أن سناء استعادت أمل العودة إلى عملها بعد أن رحلت إدارة ترامب وتعهَّدت إدارة الرئيس الجديد جو بايدن بإعادة المساعدات المالية المخصصة للفلسطينيين، وذلك بعد إعلانه في أبريل/نيسان الماضي استئناف المساعدات وتقديم 150 مليون دولار للأونروا. وتُعَد الولايات المتحدة أكبر مانح منفرد يساهم في تمويل المنظمة بحوالي 300 مليون دولار سنويا من أصل 1.2 مليار تشكِّل ميزانية الوكالة التابعة للأمم المتحدة، كما تمثِّل الوكالة رب العمل الأكبر في قطاع غزة بتوظيفها حوالي 13 ألف شخص في مجتمع يعاني نصفه تقريبا من البطالة بسبب الحصار الخانق. (1)

"أكثر ما آلمني أن قرار ترامب انعكس على صحة سناء، فمنذ أن قُطِع راتبها تدهورت صحتها، واضطررت للبحث عن تأمين صحي لها"، هكذا تحدَّثت والدة سناء إلى "ميدان". لكن أنباء سعيدة وصلت إلى مسامع سناء ووالدتها خلال الأسابيع الأخيرة بعد تغير الإدارة الأميركية وشطب السياسات المتطرفة التي انتهجتها الإدارة السابقة، فقد عادت سناء إلى عملها بالفعل مع عشرات آخرين، فيما تخطط الوكالة، التي أُنشئت قبل 72 عاما لمساعدة الفلسطينيين، لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمعالجة ما تعانيه من عجز مالي يبلغ 200 مليون دولار، وهو عجز عرَّض قدرتها على دفع رواتب الموظفين في شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول للخطر، وأجبرها على فرض قرار العمل بنظام "السلة الغذائية الموحدة" لجميع اللاجئين المستفيدين من معوناتها الغذائية في غزة، وقد فاقمت تلك الإجراءات من تدهور الوضع الإنساني الذي تسببه ظروف جائحة كوفيد-19 في القطاع المحاصر.

في صباح يوم من أيام شهر مارس/آذار الماضي، تجولت السيدة "رانيا" في أروقة العيادة الصحية التابعة للأونروا بمخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، ساعية لإنهاء أوراق طبية خاصة بإجراء ابنها ذي السنوات العشر عملية جراحية دقيقة في إحدى عينيه، سعت رانيا -بالأخص- للحصول على ورقة تفيد بتغطية تكلفة العملية بنسبة مُحدَّدة من قبل الأونروا، وهي تدرك أن تغطية الأونروا للعمليات الجراحية التي وصلت سابقا إلى 90% تقف الآن عند 20% فقط، أي إن بقية التكلفة ستقع على كاهل أسرتها التي تستطيع -بالكاد- تدبير حاجاتها الأساسية. ويعتمد السواد الأعظم من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان (أكثر من 80% منهم) على المنظمة للحصول على المساعدة في التوظيف والرعاية الصحية وتلبية الاحتياجات الأساسية.

في المحصلة، اجتهد سكان المخيم في جمع مبلغ يساعد رانيا على دفع تكاليف العملية لابنها، لكن سيبقى الجميع يكافح من أجل تغطية نفقاتهم الأخرى، إذ يوجد نحو 192 ألف لاجئ فلسطيني في لبنان الذي يواجه أسوأ أزمة اقتصادية منذ الحرب الأهلية المنتهية عام 1990، ويتلقى هؤلاء -كغيرهم- خدمات صحية وتعليمية ومساعدات إنسانية وخدمات من الأونروا التي تدير أكثر من 700 مدرسة في جميع أنحاء المنطقة، وتوفر التعليم لأكثر من نصف مليون طفل فلسطيني.

تعتمد الأونروا على المساهمات المالية الطوعية من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وكذلك الاتحاد الأوروبي، ولكن نظرا لتنامي أعداد اللاجئين المسجلين وتزايد الفقر والأزمات الإنسانية، عانت الوكالة من نقص مزمن في التمويل، أضف إلى ذلك الأزمات المتعلقة بسلوك مسؤوليها التنفيذيِّين، إذ تتجه أصابع الاتهام أحيانا إلى البعض ممن يستغلون مناصبهم في الوكالة لتحقيق مكاسب شخصية، مثل أزمة "بيير كرِهينبول" المفوض العام السابق الذي أجبر على التنحي إثر شكاوى بشأن أسلوب إدارته.

على صعيد آخر، يتمثل الخطر الأكبر الذي يتهدد الأونروا في استهداف إسرائيل لجهود الوكالة ووجودها من الأساس بسبب مطالبتها بحق العودة للفلسطينيين، فقد أشار "كريستيان سوندرز"، المفوَّض العام للوكالة، أن حق العودة "مكفول بموجب القانون الدولي"، كما أكَّدت الوكالة على ذلك أيضا في بيان رسمي آخر، يناير/كانون الثاني 2020، حين عبَّرت عن قلقها من خطة السلام الأميركية التي تزعَّمتها إدارة ترامب في ذلك الوقت (2). لذا، تضغط سلطات الاحتلال باستمرار من أجل إلغاء دور الأونروا، وقد دعت سابقا إلى نقل مسؤولياتها إلى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وتتجاهل إسرائيل هُنا القانون الدولي الذي ينص على مسؤوليتها عن اللاجئين الفلسطينيين، وعن حقهم في الحصول على تعويض عن ممتلكاتهم المفقودة. (3)

في أبريل/نيسان 2020، كتب "ديفيد فريدمان"، السفير الأميركي في إسرائيل، تغريدة على تويتر قال فيها إنه ممتن للغاية لأن الولايات المتحدة ستقدم خمسة ملايين دولار للمستشفيات والبيوت الفلسطينية من أجل تلبية احتياجاتها العاجلة والمهمة بغية إنقاذ حياة الناس في مواجهة فيروس كورونا. لم يكن القرار، الصادر -للمفارقة- عن إدارة ترامب، سوى ذر للرماد في العيون، إذ إن تلك الإدارة نفسها امتنعت عن تقديم الرقم المعتاد منها -الذي يفوق معونة الجائحة تلك ستين مرة- قبل عام واحد فقط، ضمن سلسلة من الضغوط التي مارستها لفرض رؤيتها الخاصة لتسوية القضية الفلسطينية.

بيد أن رفض الفلسطينيين لخطط الرئيس ترامب حيال القضية الفلسطينية دفع إدارته إلى ربط أموال المساعدات تلك بشرط موافقة الرئيس الفلسطيني محمود عباس على العودة إلى طاولة المفاوضات. وقد جادل "جاريد كوشنر"، صهر ترامب ومستشاره آنذاك، بأن "إنهاء المساعدة مباشرة قد يقوي يده التفاوضية" ويُجبر الفلسطينيين على قبول مخطط ترامب لإبرام صفقة إسرائيلية-فلسطينية (4). ومن ثمَّ تبنت إدارة ترامب محاولات التخلص من الأونروا وقضية اللاجئين لاستباق أي مفاوضات مستقبلية بشأن حق العودة، واتهمت الإدارةُ الوكالةَ بإدامة الصراع عبر تمديد وضع "اللاجئ" للملايين من أحفاد اللاجئين. وبدأت الإجراءات الأميركية باستهداف الوكالة في أغسطس/آب 2018 حين قطعت أكثر من 200 مليون دولار من المساعدات كانت تستخدم في مشاريع مهمة، مثل المساعدات الغذائية، والخدمات الاجتماعية، وتمويل المدارس والرعاية الصحية، بما في ذلك 25 مليون دولار مخصصة لمستشفيات القدس الشرقية التي عانت أثناء الجائحة. (5)

لم يقتصر الموقف الأميركي على التسبب بـ"أكبر أزمة تمويل وأشدها" في تاريخ الوكالة منذ إنشائها عام 1949، بل إن اتفاقيات التطبيع العربي مع إسرائيل التي تبنتها إدارة ترامب آتت ثمارها هي الأخرى عندما قلَّصت دول عربية مساعداتها للأونروا. على سبيل المثال، انخفضت التبرعات التي قدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة للمنظمة انخفاضا حادا، ووفقا لتقرير الشفافية السنوي لـ"مركز أبحاث سياسات الشرق الأدنى" الإسرائيلي حول الأونروا، المنشور العام الماضي 2020، تبرعت الإمارات بمبلغ مليون دولار -لا أكثر- لصالح الوكالة، على نقيض السنوات السابقة التي شهدت تبرّعها بمبالغ لم تقل عن 50 مليون دولار.

لم تكن محاولات بعض الساسة الأميركيين نزع الشرعية عن اللاجئين الفلسطينيين وليدة عهد ترامب وحده، بل ظلت على هامش الحياة السياسية الأميركية، وفي صفوف الجمهوريين في المقام الأول، حتى وصل ترامب إلى السلطة. ففي عام 2002 إبَّان الانتفاضة الفلسطينية الثانية، طالب أعضاء من الكونغرس الأميركي بإلغاء تمويل الأونروا، واحتجوا حينها بأن الوكالة عملت على إدامة مشكلة اللاجئين لا حلها، ومن ثمَّ خلقت وضعا اجتماعيا أفضى إلى وقوع الانتفاضة. وفي يونيو/حزيران 2008، أدلى "كُرت وِلدون"، النائب الجمهوري، ببيان زعم ​​فيه ألا صلة للاجئين الفلسطينيين بالأرض المعروفة تاريخيا بفلسطين. ثم في عام 2012، أدخل "مارك كيرك"، السيناتور الجمهوري، تعديلا على مشروع قانون العمليات الخارجية في مجلس الشيوخ للسنة المالية 2013 يلزم وزارة الخارجية بتقديم معلومات عن اللاجئين الفلسطينيين بطريقة تسمح للكونغرس بإعادة تعريف مصطلح "اللاجئ الفلسطيني" تعريفا أضيق من ذي قبل.

"إن تعليق المساعدات عن الشعب الفلسطيني لم يسفر عن تقدم سياسي، ولم يؤمِّن تنازلات من القيادة الفلسطينية، لقد أضر بالفلسطينيين الأبرياء فحسب"، هكذا صرَّح "نيد برايس"، المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، في فبراير/شباط المنصرم. مثَّل التصريح واحدا من أهم تجليات السياسة الخارجية الجديدة المصاحبة لدخول بايدن إلى البيت الأبيض، أو بالأحرى السياسة القديمة التي طالما التزمت بها واشنطن تجاه ملف الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، قبل أن يضرب بها ترامب عرض الحائط. وقد حملت تصريحات "برايس" البشرى بعودة ضخ الأموال إلى خزائن الأونروا، واستعادة الشراكة طويلة الأمد بين واشنطن والوكالة، ونزع فتيل عدم الاستقرار الذي كان سينجم عن مفاقمة الأزمة الاقتصادية في صفوف الفلسطينيين أكثر من ذلك.

أتى التحرُّك الأقوى في هذا الصدد حين اتخذت إدارة بايدن قرارها إعادة مئات الملايين من دولارات المساعدات الأميركية إلى الفلسطينيين في 6 أبريل/نيسان الماضي، إذ أقرت حزمة مالية لمساعدة الفلسطينيين بلغت 235 مليون دولار تشمل مساعدات إنسانية واقتصادية وتنموية وأمنية لحوالي خمسة ملايين فلسطيني في الضفة وغزة والأردن ولبنان، ومن بينها 150 مليون دولار من نصيب الأونروا وحدها.

تحتاج الأونروا اليوم إلى أن تشترك الإدارة الأميركية الجديدة في تمويلها بسخاء، وأن تستعيد موقعها بوصفها أكبر مانح منفرد للوكالة

تحدث "ميدان" مع "علي هويدي"، مدير "الهيئة 302 للدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين"، للوقوف على أهمية هذا التحرك الأميركي، وقال هويدي إن الترجمة الفعلية لتمويل الأونروا من قبل إدارة بايدن وانعكاسه على اللاجئين هو الالتزام، ليس -فقط- بهذه المبالغ المالية، بل بتضافر الجهود من قبل الدول المانحة مع الإدارة الأميركية لتثبيت ميزانية الوكالة من الجمعية العامة للأمم المتحدة بما يكفل تخليصها من أزماتها المالية المُزمنة. وبيَّن هويدي في حديثه "أن الأصل أن تُدعَم كافة القرارات الصادرة عن الجمعية العامة، سواء قرار 302 الخاص بإنشاء وكالة الأونروا، أو قرار 194 الذي يؤكد على حق العودة مع تعويض ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين واستعادتها". وأضاف هويدي مؤكدا أن "تطبيق تلك القرارات مرهون بتوفير المجتمع الدولي الميزانيات المطلوبة لدعم اللاجئين الفلسطينيين".

في هذا الوقت بالتحديد، يدفع الانهيار المالي للأونروا نحو السعي الدؤوب من أجل إقناع المانحين بتغطية النقص المالي للوكالة حتى نهاية العام الجاري، إذ تحتاج المنظمة الآن، وأكثر من أي وقت مضى، إلى ملايين الدولارات لتواصل عملها، ولتعيد خدماتها -التي انقطع معظمها- إلى حوالي 5.7 مليون لاجئ فلسطيني في فلسطين والمشرق العربي، وتلملم آثار قطع تلك المساعدات لعام ونيف، وتداوي أيضا ما لحق بالفلسطينيين جراء جائحة كورونا. لكن عودة قطار التمويل المعتاد لمساره بعد مساعدات بايدن الطفيفة الأخيرة لا يعني أن الوكالة تستطيع مواجهة تلك التحديات كافة، لا سيما ملف الخدمات الصحية المعوزة حاليا بسبب الجائحة.

تحتاج الأونروا اليوم إلى أن تشترك الإدارة الأميركية الجديدة في تمويلها بسخاء، وأن تستعيد موقعها بوصفها أكبر مانح منفرد للوكالة انطلاقا من مسؤوليتها عن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في المقام الأول جراء انحياز واشنطن الصارخ لإسرائيل على الصعيد السياسي على مدار عقود طويلة. لقد اشتملت السياسة الخارجية لكل رؤساء الولايات المتحدة على تلك المسؤولية الإنسانية تجاه الفلسطينيين، حتى دخل ترامب إلى البيت الأبيض وقرر الإمعان في الانحياز إلى تل أبيب متجاوزا خطوط 1967 الحمراء نفسها، ومتجاهلا وجود اللاجئين الفلسطينيين من الأساس. بدخول بايدن، يتنفَّس الفلسطينيون الصعداء بعودة أهم مظلة تعليمية وصحية وخدمية في حياتهم اليومية، ويستعيد المئات منهم وظائفهم التي فُصلوا منها على مدار عامين، ويُنزع فتيل أزمة اقتصادية طاحنة تضرب المجتمعات الفلسطينية تزامنا مع أزمات متعددة فتكت بهم خلال العقد الأخير منذ انهيار الدولة السورية، وتأزُّم الاقتصاد الأردني، ووقوف اقتصاد لبنان على حافة الانهيار.

___________________________________________________________

 المصادر:

  1. Once Upon a Time, America Supported Palestinians
  2. الأونروا: حق العودة مكفول بموجب القانون الدولي وقرارات الجمعية العامة
  3. Bases for the Palestinian Refugees’ Right of Return under International Law: Beyond General Assembly Resolution 194
  4. The Thousandth Cut
  5. Palestinian Refugees: Myth vs Reality
المصدر : الجزيرة