شعار قسم ميدان

بوكو حرام.. القصة الكاملة لأخطر تنظيم إرهابي في غرب أفريقيا

بوكو حرام

قبل أكثر من عقد من الزمان، وفي بقعة منسية وسط أفريقيا بعيدة عن اهتمامات العالم، وقعت أحداث عنف محلية آنذاك لم يسمع بها أحد، لكنها رسمت لاحقا ملامح ظهور واحد من أكثر التنظيمات الإرهابية فتكا في العالم. ففي الساعات الأولى من صباح يوم 26 يوليو/تموز 2009، شنَّت جماعة "أهل السُّنَّة للدعوة والجھاد"، التي تُعرف اليوم باسم "بوكو حرام"، هجوما متزامنا على مقرات الشرطة في ثلاث ولايات شمالية في نيجيريا ردًّا على اعتقال قادتها. ردَّت الشرطة بعدها بهجوم شامل، فاقتحمت الجامع الرئيس للحركة، وأبادت كل الموجودين فيه، ومنعت العلاج عن الجرحى، وتركتهم ينزفون حتى الموت، وخلال خمسة أيام فقط من المواجهات، قتلت الشرطة أكثر من 700 شخص.

 

بخلاف بعض المناوشات المحدودة، لم تنخرط الحركة قبل ذلك التاريخ في أعمالِ عنف غير قانونية ضد السلطة المركزية، بل تشكَّلت من طلبة متدينين فحسب تركوا الدراسة وأقاموا في مجمع ديني ضمَّ مسجدا ومدرسة. لكن تاريخ نيجيريا توقَّف عند تلك اللحظة، التي تغيَّر بعدها كل شيء؛ إذ هرب محمد يوسف، زعيم التنظيم البالغ من العمر 39 عاما، لكن القوات الخاصة النيجيرية لحقت به، واقتادته إلى قسم الشرطة، حيث ظهر هناك عاري الصدر، مُكبَّل اليدين، وعلى ذراعه الأيسر آثار جروح لم تلتئم بعد. قُتل "يوسف" بعدها بلحظات قتلا مهينا دون محاكمة، ومثَّلت تلك نقطة التحوُّل لبوكو حرام التي تعهَّدت بالانتقام، وانضوت بعدها مباشرة تحت لواء تنظيم القاعدة.

 

تُعَدُّ نيجيريا أكبر بلد أفريقي من حيث عدد السكان بتعداد يبلغ أكثر من 200 مليون نسمة، والأغنى أيضا من حيث إنتاج النفط على مستوى القارة، ورغم ذلك، فإن 40% من سكانها (نحو 80 مليون شخص من أصل 200 مليون) يرزحون تحت خط الفقر. وبحسب تقديرات حكومية لعام 2019، فإن الخريطة الديموغرافية تنقسم بين شمال البلاد الذي يغلب عليه المسلمون منذ دخول الإسلام في القرن الثالث عشر الميلادي، بينما يغلب المسيحيون على الجنوب منذ القرن التاسع عشر، بسبب عمليات التبشير التي قادها الاستعمار مدة قرن ونصف. وبفضل النظام الفيدرالي الذي يسمح لكل ولاية إنشاء قوانينها الخاصة، لم يكن صعبا على الولايات الشمالية إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية تباعا واحدة تلو الأخرى منذ عام 2000. (1)

 

من بين عشرات الجماعات الإسلامية التي تأسَّست في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر رافعة شعار "العودة لصحيح الإسلام"، مع خوضها غمار الصراع المسلح في وجه الحكومات المتعاقبة ردا على ما اعتبرته مشروعا استعماريا أسقط الخلافة وأضعف الاقتصاد؛ ترفع بوكو حرام الشعارات نفسها، لكنها تزيد عليها شعار العودة إلى الصورة التي كانت عليها نيجيريا قبل الاستعمار حين ازدهرت البلاد تحت حكم إمبراطورية مسلمة لمدة جاوزت خمسة قرون.

 

يروي المؤرخ الأميركي ويليام بولك في كتابه "الصليبية والجهاد" قصة إمبراطورية "بُرنو" الإسلامية التي حكمت شمال شرق نیجیریا المعاصرة وأجزاء من جنوب النيجر وغرب تشاد وشمال الكاميرون، فيقول إنه "مثلما یحدث للسلالات الحاكمة عادة، انتاب تلك الدولة الضعف، وفقدت الحماسة الدینیة التي مَكَّنتها من إعلان الخلافة.. ولذا زعم قادمون جدد من دولة "الفولاني" المسلمة المجاورة أن حكام برنو انحرفوا عن السُّنَّة، فأعلنوا الجھاد ضدھا، وهزموها، وأحرقوا عاصمتها عام 1810″، ومن ثمَّ لجأ سلطان برنو إلى الاستنجاد بـ "محمد الكانمي"، أحد علماء الدين العرب لإنقاذ بقايا دولته. (2)

نجح "الكانمي" في وقف الحروب المشتعلة وأنقذ إمبراطورية برنو من السقوط، لكن شمسها استمرت في الأفول، بعدما تمكَّن منها وصار الحاكم الفعلي لها. فبعد وفاة سلطان برنو اعتلى الكانمي العرش مباشرة، وخلفه من بعده عدد من أبنائه وأحفاده وصولا إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، حين تفتَّتت الإمبراطورية وتقاسمتها بريطانيا وفرنسا وألمانيا عام 1894. وقد دامت سنوات الاحتلال نحو قرن ونصف، وتلتها سنوات غلبت عليها الاضطرابات والقمع والفساد خلال القرن العشرين، ونتيجة لذلك، بات العديد من مسلمي الشمال في نيجيريا يتطلَّعون إلى زمن برنو باحثين عن إرث من الاستقرار والرخاء يستلهمون منه مستقبلا اجتماعيا وسياسيا جديدا، وهي رؤية اصطدمت بواقع نيجيريا المعاصر ودولتها الحالية بتنوُّعها الطائفي.

 

حازت نيجيريا استقلالها عام 1960، وشهدت البلاد اضطرابات داخلية بدأت بالانقلاب العسكري عام 1966، تلته سلسلة اغتيالات لعدد من الزعماء في مقدمتهم رئيس الوزراء "أبو بكر بلو" والرئيس "جونسون آغيلي". واستمر العنف نحو عقد من الزمن شهدت فيه نيجيريا إلغاء الفيدرالية وتعليق الدستور، ما حفَّز ظهور الحركات الانفصالية، لا سيما الإسلامية في الشمال، بالتوازي مع تكرار الانقلابات العسكرية. ولم تعرف البلاد الاستقرار السياسي إلا عام 1999؛ بانتخاب رئيس جديد في انتخابات حرَّة، لكنه تحوُّل إيجابي أتى متأخرا. فبعد أشهر قليلة، أعلنت ولايات في شمال نيجيريا تطبيق الشريعة الإسلامية بفضل النظام الفيدرالي الذي يُتيح لكل ولاية قوانينها الخاصة. وبينما استمر الفساد والقمع في ثنايا منظومة ديمقراطية ورثت من الماضي أكثر مما استطاعت تجديده في أركان الدولة النجيرية، كانت البلاد على موعد مع طفرة في تركيب الجماعات الإسلامية تمخَّض عنها أخطر تنظيم جهادي عرفته القارة الأفريقية بأسرها.

 

بوكو حرام في تسجيل لها

منذ قرابة قرن، يرفض قطاع كبير من مسلمي نيجيريا إرسال أبنائهم للتعليم في المدارس، وبحسب تقديرات رسمية، يبلغ عدد الأميين نحو 70 مليون شخص، ويرجع السبب في ذلك إلى ارتفاع كُلفة التعليم، إلى جانب اعتقاد سائد بشأن عدم وضع النخبة الحاكمة التعليم ضمن أولوياتها، والأخطر، وجود قناعة تامة بأن التعليم الحديث يُفسد قيم المسلمين. وبدلا من التعليم الإلزامي، تنتشر المدارس القرآنية التي لم تجد منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) مَفرًّا من دعمها ماديا، من أجل دمج مواضيع الدراسة الأساسية مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات في مناهجها.

 

تبدأ قصة جماعة "بوكو حرام" (التي تعني باللغة المحلية "التعليم الغربي حرام") عام 2002، حين أسَّس الشيخ محمد يوسف ذائع الصيت في نيجيريا جماعة "أهل السنة للدعوة والجهاد". تأسَّست الجماعة من طلاب الشريعة والعلوم الدينية، وتعتقد بوكو حرام بكُفر المسؤولين عن إدارة الدولة النيجيرية، بغض النظر عما إذا كان الرئيس مُسلما أم لا، وتُحرِّم الجماعة على المسلمين المشاركة في أي نشاط سياسي أو اجتماعي مرتبط بالمجتمع الغربي، ويشمل ذلك التصويت في الانتخابات، وارتداء القمصان والسراويل، وتلقي تعليم غير ديني.

 

لم تكن الأيديولوجية الفكرية للجماعة قد تحوَّلت إلى الجهادية بعد، فقد سعت لإقامة دولة إسلامية في نيجيريا فقط أملا في استعادة حُلم إمبراطوريات الماضي المسلمة ومواجهة تغريب المجتمع والتخلُّص من الفساد الحكومي والظلم الاجتماعي. وتقول الجماعة إنها "ضد السُّلطة المركزية بسبب الفساد في القطاع الحكومي، والإسلام ضد الفساد"، وتشير إلى أنه "إذا طُبِّقت الشريعة، فسيُقضى على الفساد". ورغم أنها لم تُعلن الجهاد ضد الحكومة حتى ذلك الوقت، فإن الاستخبارات الأميركية حصلت على معلومة تُفيد بأن اتصالا وقع عام 2003 بين الحركة وتنظيم القاعدة، حين أرسل أسامة بن لادن مساعدا إلى نيجيريا لتسليم ثلاثة ملايين دولار لمجموعة واسعة من المنظمات السياسية السلفية هناك تشارك القاعدة هدفها المُتمثِّل في فرض الحكم الإسلامي. (3)

وبحسب اتهام حكومي شائع، أسَّست الجماعة في سنواتها الأولى دولة داخل الدولة، واعتمدت على المسجد قاعدةً مركزيةً للحكم اجتذبت مئات المتطوعين والفقراء، ولم يكن هدفها فقط التعليم الديني، بل خدمت عدة أهداف صغيرة بُغية الوصول إلى هدفها الأكبر المُتمثِّل في إقامة دولة إسلامية. وقع التحوُّل المهم في تاريخ الجماعة عام 2004، حين أسَّس محمد يوسف قاعدة عسكرية استقطبت مئات الطلاب والشباب لتصبح بؤرة مركز جهادي عالمي، كان كافيا لجذب أنظار الشرطة إليها، خاصة بعد استهداف الجماعة للشرطة عبر عمليات تفجير مبانيها وسرقة الذخائر والأسلحة. (4)

 

في عام 2009، قادت الحكومة النيجيرية المركزية حملة عنف ضد بوكو حرام قتلت فيها عددا من أعضائها، ليرد يوسف برسالة تهديد إلى الحكومة المركزية جاء فيها أنه "إذا لم تتوقَّف ھجمات قوات الأمن الخاصة خلال 40 یوما، فستبدأ عملیات جھادیة في البلاد لا یستطیع إيقافها إلا الله". لكن الحكومة قلَّلت من شأن التحذيرات، وشنَّت حملة كبرى على المسجد والمؤسسات التابعة لبوكو حرام، فردَّت الأخيرة بانتفاضة مسلحة استهدفت تدمير مراكز الشرطة والسجون والمكاتب الحكومية والمدارس والكنائس. وقد قُتل في تلك المواجهات أكثر من 700 مُسلَّح على الأقل من بوكو حرام، على رأسهم أمير الجماعة محمد يوسف الذي أُلقي القبض عليه أثناء محاولته الهرب ثم جرت تصفيته، مما أفضى إلى تحوُّل فكري في صفوف بوكو حرام جعلها تُركِّز على الانتقام والثأر في المقام الأول.

 

بمقتل محمد يوسف، تولَّى نائبه الدموي "أبو بكر شيكاو" زمام القيادة، وهو الذي دأب على وصف قائده السابق بأنه كان "معتدلا أكثر من اللازم"، لتبدأ مرحلة جديدة تميَّزت بخطاب دموي وسياسات أشد فتكا على الأرض، بالمقارنة مع خطابات محمد يوسف وسياساته السابقة التي ركَّزت على فساد الحكم، وسوء توزيع الثروة النفطية.

"أبو بكر شيكاو"
"أبو بكر شيكاو"

وبينما اتجهت الحكومة المركزية لتصفية واعتقال ما تبقى من أواصر الحركة، أصرَّ القائد الجديد على تنفيذ عملية نوعية وإنقاذ رفاقه من السجن، حيث ذهب بصحبة 50 شخصا يحملون مدافع رشاشة، وأجبروا قائد السجن على إخلاء سبيل المئات، منهم أكثر من مئة عضو بالجماعة يواجهون أحكاما بالإعدام. وبحلول عام 2013، صنَّفت الولايات المتحدة بوكو حرام جماعة إرهابية بسبب تدميرها عشرات السجون، ومئات مراكز الشرطة، وقتلها الآلاف من الأشخاص. واشتهرت بوكو حرام آنذاك باختطاف الفتيات، وتجنيدهن، وإجبارهن على تنفيذ عمليات انتحارية في الأسواق وبين الحشود لقتل أكبر عدد ممكن.

 

حتى ذلك الوقت لم تُعرف الحركة عالميا رغم دمويتها بسبب وقوعها في جزء منسي من العالم، بيد أنها نالت شهرة واسعة في إبريل/نيسان 2014 عقب اختطافها 276 طالبة من إحدى المدارس في ولاية برنو كن يتلقّين تعليما حديثا، وقالت الحركة إنها ستعاملهن باعتبارهن إماء وغنائم حرب. وبحسب تقديرات "اليونيسيف"، تسبَّبت بوكو حرام حتى عام 2015 في إغلاق أكثر من ألف مدرسة، وأجبرت مليون شخص على ترك المدارس، كما تسبَّب تمرُّدها المسلح في مقتل نحو 17 ألفا، وتشريد مليونَيْ شخص.

جاء التحوُّل الكبير في مسيرة بوكو حرام في مارس/آذار 2015 بعد إعلانها البيعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وتغيير اسمها ليصبح "ولاية غرب أفريقية". وقد عيَّن التنظيم بعد عام واحد أبو مصعب البرناوي أميرا جديدا للحركة -أُطيح به في انقلاب داخلي أبيض عام 2019- الذي وعد بعدم مهاجمة الأسواق والمساجد التي يرتادها المسلمون في شمال نيجيريا. حفَّز انضواء بوكو حرام، أخطر تنظيم إرهابي في أفريقيا الآن، تحت لواء داعش، مع سيطرته الفعلية على عدة مدن في الشمال الشرقي، تشكيل تحالف إقليمي مُكوَّن من قوات الجيش النيجيري ومتطوعين وقوات من التشاد والكاميرون لشن حرب نظامية استخدمت فيها الطائرات، وتمكَّن التحالف أثناءها من استعادة أربع مدن، بينما ظل التنظيم يسيطر على أربع من أصل عشر مناطق في شمال ولاية بورنو قُرب بحيرة تشاد. (5)

 

بعد مرور عقدين على تأسيس بوكو حرام، وعقد على حربها المُتطرِّفة باسم الإسلام، أصبح التنظيم أكثر فتكا وقوة وأفضل تسليحا، بل وأعلن في عام 2019 حصوله على طائرت مُسيّرة ليست في حوزة الجيش النيجيري نفسه؛ ما دفع نيجيريا لطلب مساعدة الولايات المتحدة في نشر طائراتها المُسيّرة هناك. ورغم أن الرئيس الحالي لنيجيريا، الجنرال محمد بخاري، وصل إلى سدة الحكم عام 2015 استنادا إلى برنامج انتخابي تعهَّد بهزيمة التنظيم في غضون عامين، فإن قواته لم تستطع اقتحام مدن الريف في الشمال الشرقي، حيث تتمركز بوكو حرام وتستمر عملياتها للاختطاف بدأب دون رادع. لا تتوفر بيانات رسمية حول أعداد المقاتلين في صفوف الحركة، ولم تُقدِّم الحكومة من جانبها أي تنازلات ناجحة للتفاوض مع الحركة، والوصول معها إلى صيغة تفاوض لترك السلاح، وهي مؤشرات تقودنا إلى دلالة واحدة وهي أن سيطرة بوكو حرام على شمال نيجيريا سوف تستمر لفترة طويلة قادمة.

——————————————————————————-

المصادر

  1. 2019 Report on International Religious Freedom: Nigeria
  2. الصليبية والجهاد حرب الألف سنة بين العالم الإسلامي وعالم الشمال
  3. Spiraling Violence.. Boko Haram Attacks and Security Force Abuses in Nigeria
  4.  BokoHaram a prognosis
  5. Split in ISIS-Aligned Boko Haram Group
المصدر : الجزيرة