شعار قسم ميدان

معركة النفوذ.. هل يحول الانسحاب الأمريكي الأراضي الأفغانية لجحيم منتظر؟

ميدان - الجيش الأمريكي في أفغانستان
اضغط للاستماع

   

يمكن توقع الكثير مما يدور برأس "غاني" في طريقه إلى إقليم غزنة، جنوبي غرب العاصمة كابول، كالحرب الإعلامية الدائرة منذ أكثر من شهر بينه وبين حركة "طالبان"، أو الاتهامات المتبادلة بين الباكستانيين في "إسلام أباد" وكابول حول الهجوم السابق على الأخيرة، وهو هجوم يزعم الأفغان أن العاصمة الباكستانية باركته ومنحت منفذيه طريقا مفتوحا بطول حدودها معهم، وتُنكره باكستان بكل طريقة ممكنة؛ يمكن على الأرجح توقع أغلب ما في رأس "غاني" في رحلته تلك، إلا أنه يمكننا الجزم بأن ما لم يتوقعه الرئيس الأفغاني "أشرف غاني" في تلك الزيارة هو تحوّله لموضع هجوم "طالبان" الجديد، نهاية سبتمبر/أيلول الماضي، بثلاثة صواريخ أُطلقت(1) على قصر حاكم المدينة، سقط أحدهم على مسافة مئتي متر فقط من القصر، لتعلن الجماعة مسؤوليتها عن الهجوم، ومعه قدرتُها على الوصول لعمق النظام الأفغاني الحالي.

 

وبالرغم من أن إعلانا كهذا يتطلب جرأة غير معهودة من أي جماعة مسلحة، فإن طالبان كانت قد استبقت بالفعل هذه الحادثة بشكل عملي، في منتصف أغسطس/آب الماضي، بهجوم جديد من نوعه على أي مدينة أفغانية؛ تنسيقا وعدّة وعتادا، حيث وضعت طالبان كلًّا من القوات المسلحةِ الأفغانية المتمركزة بـ "غزنة" ومعها قوات خاصة من الجيش الأميركي وسلاح الطيران التابع له في موقف لا يُحسدون عليه، حين فرضت سيطرتها على المدينة ذات الأهمية الإستراتيجية في وسط أفغانستان في أقل من 24 ساعة، وعلى غفلة من القوات الأفغانية المدربة على يد نخبة قوات العمليات الخاصة الأميركية. إلا أن ما أثار عُجب الحكومة الأفغانية وسخطها فيما بعد هو اختفاء قوة الشرطة والجيش المكونة من 100 أفغاني، والمتمركزة بمنطقة "أغرستان" في الجنوب الغربي من الإقليم، بشكل كامل بعد الهجوم على المدينة، والذي قادته طالبان بنحو ألف مقاتل وفرضت به سيطرتها الكاملة على 19 مقاطعة داخل "غزنة".

   

   

ظهرت الحامية الأفغانية، أو ما تبقى منها (لم يتجاوز العدد المتبقي 25 جنديا)، بعد يومين في ميامور، إحدى مقاطعات إقليم دايكندي وسط أفغانستان، في الوقت الذي كانت فيه قافلة المدرعات المصفحة المحملة بثلاث مجموعات من القوات الأميركية الخاصة تعاني لاستعادة السيطرة العسكرية على المدينة، بجانب قوات إضافية أرسلتها "كابول"، وهو ما تم بالفعل بعد ثلاثة أيام من الحرب العنيفة مع مقاتلي طالبان، وبمساعدة القوات الجوية والبحرية الأميركية.

 

يروي أحد الجنود الأميركيين الذي شاركوا في القتال بـ "غزنة" ما حدث لمجلة "التايم" الأميركية قائلا إن الأمر لم يكن سوى "استعراض للقوة"(3) من طالبان، وهو ربما ما كان صحيحا بشكل أو بآخر، حيث أنهى الهجوم على غزنة المفاوضات التي لم تبدأ بعد بين الحكومة الأفغانية وطالبان، لكن جولة جديدة من المفاوضات كانت على وشك البدء هذه المرة بين طالبان وواشنطن في الدوحة، جولة تسعى طالبان لأن تمتلك فيها اليد العليا، خاصة مع تهميش الحكومة الأفغانية في تلك الجولة، وهو ما لم تكن الأخيرة راضية عنه، لكنّ عسكريي واشنطن أبدوا استعدادهم لتسيير الأمر، حتى قلب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الطاولة على الجميع، ليُعلن في ديسمبر/كانون الأول الماضي نيته سحب جنود بلاده من الأراضي الأفغانية(4)، وإنهاء غزو الولايات المتحدة الأطول في تاريخها هناك.

 

بدأت مفاوضات الدوحة بالفعل، وهي في طريقها لتحقيق نجاح ملحوظ، حسب تصريحات المبعوث الأميركي لطالبان "زلماي خليل زاد"، خاصة بعدما وصل الطرفان لاتفاق مبدئي حول خطة سلام مشتركة، وفي خضم ذلك، فإن النظام الأفغاني يؤمن أن الانسحاب يعني بالضرورة تسليم البلاد لـ "طالبان" بشكل كامل، وهو أمر يخشاه بطبيعة الحال كونه نظاما تراه طالبان على أنه "مجموعة من الدمى في أيدي الأميركيين"، ما يعني أن الانسحاب الأميركي هو انهيار على الأرجح للحاجز الأخير بين طالبان واستعادة السيطرة على الأراضي الأفغانية بشكل عملي وكامل.

  

   

الخطة

لم تكن رغبة ترامب برسم خطة لخروج قواته من الأراضي الأفغانية هي الأولى من نوعها لرئيس أميركي منذ غزوها، فقد سبقه أوباما بسنوات حين أعلن عام 2011، وبعد مقتل "أسامة بن لادن" بعدة أشهر في غارة مشتركة بين القوات الأميركية والباكستانية، عن خطة لسحب القوات الأميركية من هناك تدريجيا وصولا للانسحاب الكامل عام 2014(5)، ثم تأجل الأمر مع ضغط من نافذي البنتاغون ليتحوّل الجدول الزمني لخطة انسحاب بحلول 2016، وهو ما لم يتم خاصة مع دخول "تنظيم الدولة الإسلامية" في الصورة بجانب "طالبان"، من بدأت في تدارك قوتها السابقة من جديد، وسارت في طريق استعادة نفوذها على مناطق أفغانية عديدة.

 

لم يتم الانسحاب بشكل كلي، وإن بدأت أعداد القوات الأميركية والدولية على الأراضي الأفغانية تتقلص عاما بعد عام(6)، واقتصر وجود القوات المتبقية على تدريب القوات المحلية النظامية والمساعدة في بعض العمليات ضد الأفراد المتبقين من تنظيم "القاعدة". وفيما يعتقد بعض المدافعين عن استمرار الوجود الأميركي هناك أن الانسحاب التدريجي للقوات قد فتح الباب لدخول "تنظيم الدولة" في الصورة إلى جانب تنامي وجود طالبان في المناطق البعيدة عن متناول القوات المحلية أو الدولية، فإن طالبان لم تأل جهدا لإثبات أنها أكثر قوة ونفوذا من ذي قبل، ولترسيخ فكرة أن إزاحتها عن المشهد كما حدث من قبل حينما غزت القوات الأميركية البلاد في 2001 وأزالت حكم الجماعة، وأن ذلك لن يتكرر مجددا.

 

في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت طالبان مسؤوليتها عن اغتيال الرجل الأقوى في إقليم قندهار الجنوبي(7)، والذي كان من قبل معقلا لـ "القاعدة" ومنطلق نفوذها ثم طالبان بعدها، "عبد الرازق أشاكزي" قائد الشرطة ورجل الجنوب الأقوى وأحد أكبر مناوئي طالبان، وكان "عبد الرازق" أثناء بدايات الغزو الأميركي أحد الجنود الذين ساهموا في الحرب ضد الجماعة في الإقليم. ثم أصبح الجنرال عبد الرازق فيما بعد أحد أهم رجال واشنطن في قندهار، إلى جانب كونه قائدا لقوات الأمن الوطنية الأفغانية هناك، ولم يأل جهدا لمطاردة رجال طالبان حيثما قاده الطريق، إلى أن أُطلق عليه النار يوم 18 من الشهر المذكور مباشرة بعد خروجه من اجتماع مع الجنرال أوستن سكوت ميللر، قائد القوات الأميركية الأفغانية السابق والقائد الحالي لقوات الناتو هناك.

      

undefined

  

لم يكن ثمة دليل على أن مطلق النار هو أحد رجال الجماعة، ومع ذلك أضافتها طالبان بفخر لعملياتها، وهي عمليات يراها البعض قد أصبحت أكثر توسعا في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الأفغانية النظامية، وأكثر اقترابا من العاصمة، كما أنها أصبحت أكثر تأثيرا إن لم يكن أكثر "دموية"، وكانت العملية ضد إحدى قواعد الاستخبارات الأفغانية في كابول(8)، في 21 يناير/كانون الثاني الحالي، دليلهم على ذلك حين أعلنت طالبان مسؤوليتها عن التفجير الذي دمر القاعدة بالكامل وقتل أكثر من 70 عنصرا نظاميا فيها.

 

أعلنت طالبان استكمالها المحادثات مع القوات الأميركية بعد ساعات قليلة من التفجير، وهو ما اعتُبر استعراضا آخر للقوة من قِبل طالبان، فكما كانت قوة الشرطة في مدينة غزنة مسلحة بأحدث المعدات والأسلحة الأميركية، ثم وقعت فريسة لهجوم طالبان حينها، لم يكن الأمر ليختلف كثيرا في قاعدة الاستخبارات التي حوت عناصر من القوات المحلية الأفغانية المدربة هي الأخرى على أيدي قوات النخبة الأميركية، والمسلحة بمعداتها وأسلحتها، الأمر الذي أثار التساؤل المعتاد عما تفعله القوات الأميركية في أفغانستان بالفعل إن لم تكن قادرة على إيجاد بديل قادر على حماية وحفظ الحكومة والدولة بعد انسحابها، كما تروج لدواعي وجودها دائما.

 

في أواخر عام 2017، ومع محاولة واشنطن إنهاء وجودها على الأراضي الأفغانية، بدا الحل الأكثر قدرة من وجهة الأميركيين على إيجاد مخرج لهم من هذا الصراع هو إيجاد بديل يمكنه أن يحل محلهم ويتمتع بالولاء للعاصمة الأميركية رأسا، وكان هذا البديل من وجهة نظر صقور البنتاغون هو تدريب وتسليح جماعات محلية قبلية قادرة على مساعدة القوات الأفغانية الموجودة بالفعل، ومن جانب آخر فإن هذه الجماعات المرادة ستمتلك القدرة على النفاذ إلى عمق مناطق لا تستطيع القوات الحكومية الوصول إليها.

   

    

بدأت خطة واشنطن واضعة نصب أعينها تدريب وتجهيز ما يقرب من 20 ألفا من الأفغانيين(9) للقتال مع الشرطة والجيش، لكنها وللمفارقة لم تضع في حسبانها أن بعضا، إن لم يكن أعدادا كبيرة من هذه القوات، ستنضم إلى "طالبان" أو إلى "تنظيم الدولة" فيما بعد، وستحمل معها تدريباتها وأسلحتها إلى المناطق ذاتها التي كانت القوات الحكومية والأميركية تحلم بالسيطرة عليها، وبدلا من أن تكون الخطة المزعومة سبيلا لخروج آمن للجيش الأميركي من أفغانستان، أصبحت هي الأخرى أزمة كبرى تحاول واشنطن إيجاد حل لها، إلا أن هذه لم تكن المعضلة الأخيرة أمام أساطين العاصمة الأميركية، حيث أتى اقتراح "ترامب" غير المدروس بتقديم الهند يد المساعدة لأميركا على الأراضي الأفغانية ليفتح بابا آخر من أبواب الجحيم، فقد كان هذا الاقتراح هو القشة التي قصمت ظهر إسلام أباد، الحليف الأكبر لواشنطن في أفغانستان لسنوات طويلة ماضية، والبلد الذي لا غنى عن معاونته لاستقرار أي جزء من الأخيرة.

   

العصا والجزرة

فيما يُشبه القمة المصغرة التي انعقدت مطلع مارس/آذار للعام الماضي، أعلن قادة أربع دول في جنوب آسيا انطلاق أعمال المشروع المعروف اختصارا بـ TAPI(10)؛ خط الأنابيب الدولي للغاز الطبيعي والذي سيمتد من تركمانستان إلى الهند رابطا في طريقه بين أفغانستان وباكستان، ليمد كل دولة بآلاف من فرص العمل وملايين الدولارات سنويا من عوائد المشروع البالغ قيمته ما يُقارب عشرة مليارات دولار، عارضا معه تجاوز كل من باكستان والهند عن عدائهما، ولو مؤقتا، لأجل انتهاء العمل على المشروع. ثم جاءت المفاجأة التي رفعت آمال الدول الأربعة في العمل سريعا على المشروع مُتمثّلة في إعلان المتحدث باسم طالبان موافقة الجماعة على مرور المشروع في الأراضي الخاضعة لها ضمن الحدود الأفغانية، بل وتعهد بحماية خطوط الأنابيب المارة داخل حدود سلطتها.

 

شكّل المشروع، المتوقع أن تصل عائدات أفغانستان منه إلى نحو 500 مليون دولار سنويا، العصا التي دفعت الحكومة الأفغانية للتفاوض مع طالبان لأجل الوصول إلى اتفاق لتهدئة الأمور(11)، لكنه على جانب آخر يبدو وأنه سيُشكّل حجر عثرة في علاقة كل من نيودلهي وإسلام أباد، في وقت تواجه فيه الأخيرة اتهامات من كل من الحكومة الأفغانية والأميركية بـ "رعاية الإرهاب" على حدودها مع كابول، بينما ترحب واشنطن عن طريق ترامب بدخول نيودلهي حليفا لها ليس فقط في "حربها على الإرهاب" بكابول، بل وفي إعادة بناء أفغانستان تمهيدا للخروج الأميركي منها.

  

    

لطالما واجهت كل من إسلام أباد ونيودلهي معاركهما الخاصة حول كابول، فلم ترغب أيّ منهما في حكومة مناهضة وطموحة لأيهما على رأس أهم دولة مجاورة(12)، لكن المعركة حول كشمير هي الأخرى جعلت من أفغانستان موطئ قدم تخشى كل منهما أن تفوز به الأخرى، وبالنسبة للهند، فإن خروج الولايات المتحدة وعودة طالبان المحتملة بعد ذلك إلى الحكم قد يُعيد إلى الحاضر رغبة الانفصال لدى الأغلبية المسلمة في الإقليم المتنازع عليه.

 

أما بالنسبة إلى الحكومة الأفغانية، فإن الانسحاب الأميركي المفاجئ من أراضيها قد ترك الكثير من الأمور المعلقة التي يُخشى ألا يكون باستطاعتها التعامل معها فيما بعد الانسحاب، وفيما قد تُمثّل الأزمة غير المعلن عنها بين إسلام أباد ونيودلهي أحد أشكال هذا الصراع، فإن القلق يساور كلًّا من إيران وروسيا والصين حول عودة طالبان إلى الحكم، وانتشار الجماعات المسلحة، على اختلاف انتماءاتها، دون أن تكون لدى القوات الأفغانية القدرة على السيطرة عليها، ودون أن تضع القوات الأميركية في الاعتبار ما قد ينتج عن تحوّل انتماءات (13) بعض القوات المحلية التي قامت القوات الأميركية بتدريبها ومدّها بأحدث الأسلحة والمعدات، وتخشى هذه الدول أن تمتلئ حدودها بـ "الجهاديين"، كما تخشى أن تغزو المخدرات المهربة من أفغانستان أراضيها.

 

لا يبدو حتى الآن وكأن هناك خطة كاملة للانسحاب التدريجي من أفغانستان، يمكن من خلالها خروج القوات الأميركية والدولية، دون أن يترك هذا الانسحاب عواقبه على القوات المتمركزة هناك أو على أفغانستان ذاتها، فعلى الرغم من أن الحرب الأميركية كانت تهدف لمحو "القاعدة" من الوجود كما هو معلوم، فإن طالبان الآن تبدو وكأنها تستلم راية "القاعدة" وتزدهر من جديد في موطنها، بنفوذ تسيطر به على أكثر من نصف الأراضي الأفغانية، أو 70% منها للدقة، إلى جانب ازدهار تجارة المخدرات والسلاح خارج وداخل أفغانستان وبين الجماعات المختلفة فيها.

  

    

يفتح ذلك الباب لصناعة توازنات للقوى بين دول الجوار وطالبان أغلب الأمر، توازنات تضمن بها هذه الدول حماية حدودها وأراضيها، ويعزز من هذا احتمالية مغادرة القوات الدولية أفغانستان مباشرة إذا ما أقدمت واشنطن بالفعل على تنفيذ خطة بالانسحاب الجزئي أو الكامل.

 

وفيما تبدو الحكومة الأفغانية عاجزة عن ملء الفراغ الذي قد يتركه انسحاب القوات الدولية، فإنه يبدو وكأن الولايات المتحدة هي الأخرى تُعيد اختراع صراعها المزعوم على الإرهاب من جديد في أفغانستان، دون أن تكون قادرة على إيجاد حل للأزمة التي خلقتها منذ أكثر من 17 عاما، ودون أن تستطيع تركها مرة واحدة وللأبد في أيدي دولة أخرى صديقة أو معادية.

المصدر : الجزيرة