شعار قسم ميدان

القسام تدعو لاستخدامها.. هل يمكن أن تكسر العملات الرقمية سطوة الدول؟

ميدان - القسام والعملات الرقمية
تقديم

في مفارقة أثارت تعجب المراقبين، دعت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في غزة، جموع مؤيديها وداعميها في العالم إلى تقديم دعمهم للكتائب عبر "العملات الرقمية" والتي تستخدم تقنية البلوك تشين الشهيرة في التشفير، حيث تعد أهم الطرق الآمنة لنقل القيمة المالية في العالم، ما يعيد للواجهة التساؤلات الهامة المتعلقة بقدرة العملات الرقمية على تخطي حواجز الدول والأنظمة الأمنية.

    

النص

في أواخر شهر أغسطس/آب عام 2015، تمت محاكمة الشاب "علي شكري أمين" البالغ من العمر 17 عامًا، في إحدى محاكم مدينة الإسكندرية بولاية فيرجينيا الأمريكية، بتهمة «تقديم دعم مادي لمنظمة إرهابية»، وتلقى حكمًا بالسجن لـ 11 عامًا كاملة(1)، إلا أن الشاب الذي كان يعيش في مدينة ماناساس بنفس الولاية لم تكن تهمته غريبة على المحاكم الأمريكية، أو أي محاكم لدولة بها قوانين مكافحة إرهاب، لهذه الدرجة، وإنما ما لفت الانتباه بالفعل وقتها كان اعترافه أمام مساعد المدعي العام الأمريكي للأمن القومي.

      

قبلها بأكثر من شهرين، وتحديدًا في 11 يونيو/حزيران لنفس العام، اعترف أمين بضلوعه في «التآمر لتوفير الدعم المادي والموارد لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، المعروف بـ "داعش"، عن طريق تعليم بعض أفراده كيفية استخدام العملة الافتراضية الشهيرة المعروفة باسم "بتكوين"(2). وحينها، اعترف أمين أيضًا باستخدامه موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، تحت اسم مستخدم "الشاهد الأمريكي"، لإرسال تعليمات نظرية لأفراد في التنظيم لكيفية استخدام البتكوين لإخفاء الأموال التي يتم تمويل التنظيم بها، والقيام بالعمليات المالية عن طريق العملة، وحتى تسهيل سفر أنصاره لسوريا للقتال في جبهته.

   

الشاب علي شكري (مواقع التواصل الاجتماعي)
الشاب علي شكري (مواقع التواصل الاجتماعي)

    

في نفس العام أصدرت مؤسسة "راند RAND" الأميركية البحثية ذائعة الصيت، الذراع البحثي الفعلي لمجتمع الاستخبارات الأميركي، دراسة هامة حول تأثير العملات الإلكترونية على الأمن القومي. وبحسب البحث، المعنون ب "آثار العملات الافتراضية على الأمن القومي: البحث في إمكانية انتشار جهة فاعلة غير حكومية"(3)، وفيما يتعلق باستخدامات العملات الافتراضية، فإن هناك أدلة كثيرة تتوافر على كون الجهات غير الحكومية، وخاصة المنخرطين شديدي الفاعلية في شبكة الإنترنت المظلمة "دارك ويب"، يستخدمون العملات الافتراضية، وأن الكثير من العمليات التي تم استخدام عملة إلكترونية فيها مثل البتكوين؛ كانت عمليات غير مشروعة، وعلى رأسها وأكثرها شيوعًا عمليات الحصول على فدية من ضحايا اختراق بياناتهم وتشفيرها.

  

ولعل هجوم "وانا-كراي" الإلكتروني الذي أصاب 230 ألف جهاز كمبيوتر في 12 مايو/أيار عام 2017، وتسبب في تجميد بيانات الحواسب في مستشفيات وشركات أكثر من 150 دولة(4)؛ كان أحدث النماذج البارزة على صحة ما سبق وتوصل له بحث راند وقتها، إذ طالب المهاجمون بدفع فدية على كل حاسوب قيمتها تتراوح بين 300 إلى 600 دولار ولكن بالبتكوين بعد أن أعطوا عناوين المحافظ الرقمية للضحايا. وبالفعل فقد دفع كثير منهم أكثر من 138 ألف دولار في صورة بتكوين، وتم سحبها من المحافظ الرقمية من قبل المخترقين(5).

   

تستخدم العملات الافتراضية كذلك في شراء البضائع غير المشروعة كالمخدرات بواسطة بعض الألعاب الشهيرة مثل Silk Road، وهي لعبة بها عوالم افتراضية كاملة تم استغلالها خصيصًا وقت انتشارها منذ 4 سنوات في ذلك، إلا أن مدى استخدام مرتكبي أعمال العنف للعملات الافتراضية يظل أقل بالمقارنة بالمنظمات الإجرامية وفقًا لـ "راند"، رغم محاولات التنظيمات المسلحة للاعتماد بشكل أكبر والتوسع في مجال أنظمة النقد الإلكتروني.

  

خارج الأنظمة

يشير بحث راند إلى أن المستوى الذي لا يزال محدودًا لاستخدام العملات الافتراضية من قبل التنظيمات المسلحة والفاعلين غير الحكوميين؛ قد يتغير في المستقبل إذا شعرت تلك الجهات أن لديها الكثير لتكسبه سياسيًا واقتصاديًا أو على مستوى سلاسة العمليات المالية، مما سيدفعها للتحرك نحو زيادة استخدام العملات الافتراضية.

     

undefined

    

لم تتوقف استخدامات العملات الافتراضية عند هذا الحد، وإنما تم استخدامها بدوافع سياسية من أجل أن تحل محل العملات الحقيقية المتداولة في الدول سواء بموافقة الحكومات أو بدونها. فوفقًا للبحث، وفي مارس/آذار عام 2014، تم نشر عملة "أوروراكوين Auroracoin" في أيسلندا من قبل شخص مجهول كوسيلة لتوفير عملة من شأنها أن تكون أقل عرضة للتضخم وغير خاضعة للأنظمة الحكومية. وفي اسكتلندا قام شخص يدعى "ديريك نيسبت" بإطلاق عملة "سكوتكوين Scotcoin" كعملة أسكتلندية جديدة مستقلة.

  

تمتلك العملات الافتراضية إذا قدرة على تهديد الأنظمة السيادية للدول عن طريق استبدال العملات التقليدية بالعملات الافتراضية. فالسيطرة الحكومية على العملات المركزية هي مفتاح التنظيم من نواحي عدة، بعكس العملات الافتراضية التي لن تتمكن الحكومات من السيطرة عليها أو التعامل بصددها، فمن ناحية سوف تتم المعاملات المشفرة بكفاءة حكومية أقل نظرًا لعدم قدرة النظام على معرفة حجم العملات التي يجب طباعتها استجابة للضغوط الاقتصادية الخارجية والداخلية، وبدلًا من ذلك، فإن إنتاج العملات الافتراضية سوف يعتمد على عمليات التعدين المستقلة(7).         

  

ويستنتج البحث شرطين لكي تكتسب العملة الافتراضية رواجًا كخيار لتصبح العملة المفضلة لدى الجهات الفاعلة في السوق؛ الأول هو ألا توفر السلطة المركزية بيئة مستقرة للاقتصاد الكلي، ونتيجة لذلك تصبح العملة الورقية الإقليمية غير موجودة أو تصبح قيمتها غير مستقرة بحال، وينبع عدم الاستقرار دومًا في أراضي دولة مفككة بدون حكومة فاعلة، أو جزءً من بلد غارق في خضم حرب أهلية، أو حتى في دولة ذات حكومة مستقرة ولكنها بسياسات اقتصادية غير مستقرة أو تعيق المشاركة الاقتصادية من قبل جزء كبيرة من سكانها. أما الشرط الثاني فهو إن قدمت العملات الافتراضية دورًا هامًا في حالة بناء المجتمعات والحفاظ عليها.

   

ورغم محاولات بعض المجموعات الانفصالية اعتماد عملات خاصة بها، فلا يتوقع أن تكون العملة الافتراضية هي الشكل المفضل لتلك المجموعات في القريب العاجل لأسباب هي نفسها المشكِّلة لصعوبة انتشار العملات الافتراضية بشكل أكبر من العملة الورقية والسلع الأساسية كالذهب مثلًا. ويعود السبب الأول لافتقار معظم المنظمات المتمردة إلى المهارات الضرورية للتعامل بعملة افتراضية، والثاني لأن القوانين النقدية التي تقوم عليها العملة الافتراضية تحتاج لتحديد وتطبيق مستمر، وتحدد هذه القوانين خصائص تلك العملة والكيفية التي سيتم بها تحفيز الجهات الفاعلة لتعدينها وتأمينها، أما الثالث فلأن ثقة المستخدمين في عملات جديدة خارج الأنظمة الرسمية لا تزال في أدنى مستوياتها، وهو ما أثبتته الموجة الماضية رغم ارتفاع سعر وحدة البتكوين خلالها لأسعار قياسية، إلا أن الإقبال الشعبي ظل ضعيفًا، وظلت دائرة التعامل تحتفظ بشيء من الخصوصية كعادة عالم النقد الافتراضي.

    

    undefined

     

حتمًا لا يقتصر استخدام العملات الافتراضية على الجهات الفاعلة غير الحكومية فقط، وإنما هناك أنظمة سياسية تقوم باستخدام العملات الإلكترونية لأغراض تعضد حكمها ونفوذها وسيطرتها على الدولة. وربما لا تكتفي الدولة باستخدام عملة افتراضية موجودة مسبقًا، ولكن قد تقوم بإصدار عملة افتراضية خاصة بها. فمن الدول التي شرعت في محاولات استخدام العملات الافتراضية؛ روسيا وفنزويلا(8)، حيث قاما بإنشاء نظامي تشفير خاصين بهما للالتفاف حول العقوبات الأمريكية، وفي فبراير/شباط من عامنا الحالي 2018 أصبحت فنزويلا أول حكومة وطنية تصدر عملة إلكترونية جديدة، إذ أصدرت أول 735 مليون دولار من العملة الإلكترونية "بترو" المخطط لطرحها بقيمة 6 مليار دولار. أما بالنسبة لموسكو فلم تنشئ عملة إلكترونية خاصة بها من الصفر، وإنما بدأت مجموعة من البنوك الروسية العام الماضي بتجربة تقنية "الإيثريوم"، بعد فترة قصيرة من لقاء الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مع مؤسس التقنية "فيتاليك بوتيرين"(9).

   

"البلوك تشين" الصالحة

ورغم أن هذا الطرح قاد سلسلة من الدراسات التي تحاول فهم العملات الافتراضية وعلاقتها بالأمن القومي، بشكل أكثر عمقًا، لهدف رئيس هو مقاومة تلك العملات ومنع وقوع الأضرار الناشئة عن انتشارها؛ إلا أن طرحًا آخر ظهر لكنه لا ينال حظه من الذيوع يرى في انتشارها فائدة للأمن القومي، إذ صاحب ظهور العملات الرقمية ظهور تقنية "البلوك تشين Blockchain"، وهي عبارة عن سجل إلكتروني تُعالج وتدون من خلالها الصفقات والمعاملات التي تتيح التحقق منها لطرفي المعاملة فقط دون وسيط ثالث، لذا فهي تتميز بمستوى عالٍ من التشفير. ويمكن استخدامها من قبل العاملين في مجالات إنفاذ القانون والأمن القومي، فهي مفيدة بشكل خاص عند تتبع مرتكبي أعمال العنف والمتسللين والمحتالين الماليين(10)

   

لم يقف الأمر عند تلك النقطة، وإنما هناك من ذهب لأبعد من ذلك لينتقد رؤية الولايات المتحدة في محاربة العملات الرقمية، فبموجب القانون، يجب على رئيس الولايات المتحدة أن يُعد بشكل دوري وثيقة تسلط الضوء على مخاوف الأمن القومي للولايات المتحدة لتسلم للكونجرس، حيث تحدد تلك الوثيقة المنظور العام للسلطة التنفيذية عن التهديدات التي تواجه أميركا، وفي أول تقرير لإستراتيجية الأمن القومي National Security Strategy "NSS" قدمه "دونالد ترامب" للكونجرس نهاية العام الماضي، 18 ديسمبر/كانون الأول 2017، جاء فيه أن الإدارة الأميركية الجديدة سوف تستخدم أدواتها المتطورة لتعطيل قدرة من أسمتهم «مجرمين» على استخدام الأسواق عبر الانترنت، والعملات المشفرة، وغيرها من أدوات الأنشطة «غير المشروعة».

   

كان ذلك مثار انتقاد لإستراتيجية إدارة ترامب، ورأى المنتقدون أن ربط العملات الافتراضية بالجريمة والإرهاب فقط؛ ينم عن "فهم بدائي" لكلًا من العملات الرقمية وتقنية البلوك تشين التي تدعمها، فقد يفقد الرئيس فرصة تاريخية لاحتضان التقنيات الناشئة التي تعيد تشكيل الكثير من المصالح الأمنية المذكورة في التقرير. كما أن التركيز على رؤية الآثار السلبية للثورة النقدية وعدم اهتمام الدولة بالعملات الافتراضية وتقنية البلوك تشين قد يصنع مستقبلًا يضع الولايات المتحدة في وضع تنافسي غير ملائم بالنسبة لدول مثل الصين وروسيا، وهي التي لديها مبادرات وطنية للاستفادة من العملات الافتراضية وتقنية البلوك تشين والسيطرة عليهما قبيل انتشارهما المتوقع على نطاقات متسعة(11)

       

    

في مارس/آذار من عامنا الحالي 2018، كشف موقع ذي إنترسبت(12) عن وثائق سرية تعود لشهر مارس/آذار عام 2013 تم تسريبها من قبل "إدوارد سنودن"، الذي عمل لدى وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) والمتعهد السابق لحكومة الولايات المتحدة، وجاء فيها أن وكالة الأمن القومي تمكنت من تحديد مواقع مرسلي ومستقبلي البتكوين، في جميع أنحاء العالم، عن طريق إنشاء نظام لديه القدرة على الوصول لحركة الإنترنت العالمية وتحليلها ومعالجتها باستخدام برنامج مزيف يدعى "MONKEY-ROCKET"، ظهر على أنه برنامج يقوم بإخفاء الهوية ويقدم خدمة شبيهة بالشبكات الافتراضية الخاصة التي تفتح المواقع المحجوبة (VPN)، ولعب هذا البرنامج، الذي تم إطلاقه في صيف عام 2012، دورًا حاسمًا في تحديد مستخدمي البتكوين كأهم عملة افتراضية وأوسعها انتشارًا على الإطلاق، فبدلًا من إخفاء بيانات المستخدم، قام البرنامج بالاستفادة من بياناته في مناطق أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأمريكا الجنوبية. وتظهر الوثائق أن الوكالة كانت مهتمة أيضًا بمراقبة العملات الافتراضية المتنافسة ولكنها ركزت بشكل أساسي على البتكوين. ونتيجة لذلك جمعت وكالة الأمن القومي كمية ضخمة من بيانات المتعاملين بالبتكوين مثل كلمات المرور، وسجل التصفح، وحتى عنوان ماك MAC address الخاص بالحواسيب، ومعلومات محافظ البتكوين المشفرة كاملة.

   

كانت وكالة الأمن القومي تركز أيضًا، مع البتكوين، على العملة الرقمية "ليبرتي ريزيرفLiberty Reserve" والتي تم إنشاؤها بعد البتكوين بغرض ارتكاب أعمال غير قانونية، وكان مقرها في كوستاريكا حيث قام آرثر بودوفيسكي بإطلاقها قبل أن يتم اعتقاله وإدانته ب 20 عامًا من السجن بعد ضبطه في عملية غسيل أموال بمبلغ 6 مليار دولار(13). ويبدو أن إغلاق موقع لعبة طريق الحرير كان من ثمار مراقبة الوكالة، إذ قام عملاء فيدراليون أمريكيون بعدها بخمسة أشهر بإلقاء القبض على "روس أولبريخت"، الرجل الذي وقف وراء اللعبة، أضخم سوق في الانترنت المظلم وقتها.

       

كانت وكالة الأمن القومي تعمل على إحباط النظام المالي التقني الوليد آنذاك، لتتضح حقيقة أن صراع أجهزة الأمن القومي في شتى أنحاء العالم مع العملات الرقمية لم يكن حديث عهد بانتشار وتنوع العملات الرقمية الآن، وإنما هو صراع بقاء لم تحسم جولاته الأولى بعد، ومن المتوقع أن تعيد نتائجه هيكلة النظام المالي العالمي الفترة القادمة، وبشكل كامل. 

المصدر : الجزيرة