شعار قسم ميدان

دوسان تاديتش.. من سلة مهملات البريميرليغ إلى أغنى مهاجم وهمي بالعالم

ميدان - دوسان تاديتش.. من سلة مهملات البريميرليغ إلى أغنى مهاجم وهمي بالعالم

كان أداء مثاليا أكثر من اللازم، للدرجة التي جعلته يحصل على العلامة الكاملة (10/10) في تقييم صحيفة "ليكيب". قد تراه تقييما عاديا للاعب كان في يومه، لكنه كان فقط اللاعب العاشر في تاريخ الصحيفة الفرنسية الذي ينال هذا التقييم. على أرض الملعب، صنع الهدف الأول ثم الثاني، ثم أحرز الثالث بنفسه. (1)

  

في صناعته للأول، قدم لمحة فنية ذكّرتهم بما كان يُقدِّمه نجم الجلاكتيكوس السابق، زيدان. حركة "الروليتا" الشهيرة، ثم تمريرة حريرية بالدقة اللازمة واضعا زميله في مواجهة المرمى. وقبل أن تحار في تخمين لاعبنا، فنحن نتحدث عن لاعب أياكس أمستردام، "دوسان تاديتش"، في مباراته التاريخية أمام ريال مدريد على ملعب سانتياجو برنابيو بدوري أبطال أوروبا 2018-2019.

  

حقّق أياكس المفاجأة بإقصاء حامل اللقب لـ 3 مواسم متتالية، إلا أن ما قدّمه اللاعب الصربي كان بمنزلة حبة الكرز التي زيّنت الكعكة. لذلك، استحق "تاديتش" عن جدارة أن يكون أحد مظاليم عام 2019، لأنه من وجهة نظرنا لم ينل ما يستحق من الإنصاف، مقارنة بما قدمه في مركزه الجديد، ورحلته الغريبة من سلة مهملات البريميرليغ إلى نصف نهائي دوري أبطال أوروبا.

    

   

تاديتش الوهمي

هذه المرة سنبدأ الرحلة من آخر مشاهدها، فمعظمنا رأى ما قدّمه أياكس في 2019، وقد كان "تاديتش" جزءا مهما من هذه المنظومة، التي قادت الفريق لإحراز الأهداف بمعدل لم تره جماهير النادي منذ أيام الأسطورة "ماركو فان باستن".

   

في بداية الموسم، اعتاد الصربي على شغل مركز الجناح الأيسر، مع التمركز داخل الملعب بين قلب الدفاع والظهير، لإفراغ المساحة لتقدُّم الظهير الأيسر "نيكولاس تاليافيكو". بعدها قرّر المدرب "تين هاخ" تحريك "تاديتش" أكثر إلى الداخل ليشغل المركز 9، لكن كمهاجم وهمي. وجد "تاديتش" نفسه في مركزه الجديد بسبب الحرية التي منحها مدربه للاعبي الخط الهجومي "positional fluidity".

      

   

وعليه، كان لاعب ساوثهامبتون السابق العقل المُدبِّر لفريقه في المناطق الأمامية، حيث كانت تحركاته مرسومة وفقا لتحركات زملائه، ما بين الهبوط لوسط الملعب لاستلام الكرات والربط مع زملائه، وإفراغ المساحة للاعب الوسط "فان دي بيك" عند تحوّله إلى مهاجم ثانٍ، أو الميل ناحية اليمين لعمل زيادة عددية على هذا الجانب، مفسحا المجال للجناح الأيسر "نيريس" بالدخول إلى العُمق.

  

بدون الكرة، كان أياكس يضغط على ريال مدريد مبكرا، وكان "تاديتش" هو رأس الحربة في هذا الضغط، فكان يبدأ الضغط متمركزا في عمق الملعب محاولا توجيه هجمة ريال مدريد. عند تسلّم "ناتشو" الكرة، يتحرك "تاديتش" بشكل مائل للضغط عليه، مع إغلاق قناة التمرير بينه وبين فاران. وإذا كانت الكرة بحوزة "كورتوا"، كان يضغط بميل من جهة اليمين أيضا، كي يغلق عليه زاوية التمرير لناتشو ويُجبره على اللعب بقدمه الأضعف (اليمنى)، وهنا أُجبر الحارس على إرسال كثير من الكرات الطويلة، والتي استطاع أياكس الفوز بمعظمها. (2)(3)

   

لكن تظل التفصيلة التي جعلت أداء اللاعب رقم 10 عبقريا في تلك الليلة هي قدرته على التعامل في كل لقطة حاول فيها لاعبو ريال مدريد قراءة تحركاته والضغط عليه. في كل مرة تقريبا كانت لمسته الأولى تعطيه الوقت والمساحة اللازمين لاتخاذ القرار المناسب. وكلما قام المدافعون بتعديل أوضاع أجسامهم وفقا لمراوغاته، كان يدرك ذلك على الفور، ويأتي بآلية جديدة للهرب. تطلّبت هذه التحركات دقة تقنية عالية للغاية، مع هامش خطأ منخفض لا يصدر إلا عن اللاعبين الكبار، وليس عن لاعب مثله. لا أحد يدري كيف صعد على المسرح ليُقدِّم مثل هذا العرض؟

    

  

رحلة بلا هدف

لم يكن مشوار "تاديتش" يُنذر أبدا بوصوله إلى البرنابيو إلا في حالة واحدة وهي انضمامه لأحد الفِرَق الصغيرة بإسبانيا. فقد كان مشواره عاديا ورحلته في كرة القدم بلا هدف تقريبا، مجرد لاعب أعسر موهوب، يُجيد اللعب في مركزَيْ صانع الألعاب والجناح. لم يتوقّع أحد انفجار موهبته، ولم يتوقع فشله أيضا، مسيرة منطلقة بلا وجهة محددة؛ بدأت من نادي "فويفودينا" الصربي، حيث تدرّج بفئاته العمرية وصولا إلى الفريق الأول، حتى أتته الفرصة للخروج من موطنه عبر بوابة "غرونينغين" الهولندي.

  

لم يكن "دوسان" قد أدرك بعد الرابط بينه وبين هولندا، وكان فقط يقضي وقته كلاعب محترف. بعد موسمين رفقة "غرونينغين"، وتحديدا في عام 2012، حاول "أياكس" ضمه، لكن المحاولة لم تكتمل، لينتقل بعدها إلى صفوف "تيفينتي" ليقضي فيه موسمين حتى حصل على فرصة للانتقال إلى البريميرليغ. (4)(5)

   

أنهى تاديتش فترته الأولى بهولندا بإحراز 46 هدفا، وصناعة 68 في 161 مباراة، ليغادر صوب نادي ساوثهامبتون، الذي كان يدربه الهولندي "رونالد كومان". أتى الصربي معوِّضا للإنجليزي "آدم لالانا" المنتقل لتوّه إلى ليفربول، لكنه لم يتأقلم سريعا في موسمه الأولى وكانت أرقامه متواضعة. لكنه قدّم أفضل مواسمه في الموسم الثاني (2015-2016) بإحراز 8 أهداف وصناعة 13، ليقود ساوثهامبتون لاحتلال المركز السادس بسلّم الترتيب. (6)

   

لكن الأيام الوردية انتهت سريعا برحيل "رونالد كومان"، الذي كان يُقدِّم كرة هجومية لاقت استحسان الجماهير، و"تاديتش" أيضا. بعدها، لم يجد الصربي نفسه مع المدربين اللاحقين، سواء ماوريسيو بليغرينو أو كلود بويل أو مارك هيوز. ومع غلبة الصبغة الدفاعية على الأول والثاني، فقد "دوسان" شغفه بالبريميرليغ، وبإنجلترا كلها. ليُفاجِئ الجميع بانتقاله إلى أياكس، دون أن يفهم أحد كيف فكر فيه أياكس وهو بسن الـ 30 وليس في أفضل أحواله؟ (7)

     

   

استفتِ قلبك

لا يوجد سبب منطقي ليُجرِّب أياكس حظه من جديد مع "تاديتش" خاصة بعد مرور كل تلك السنوات. والأغرب أن الصربي أصر على الانتقال إليهم، ليُجبر ساوثهامبتون على الانصياع لرغبته والموافقة على مبلغ هزيل بلغ 11.4 مليون يورو. أفصح "دوسان" عن حبه لأياكس منذ صغره، وإعجابه الشديد بفلسفة النادي، وعلى ما يبدو أنه اكتشف أخيرا أن مسيرته ستتحسّن إذا ذهب للمكان الذي يحبه.

  

"أعتقد أنهم احتاجوا إليّ كما احتجت إليهم. لقد وجدنا بعضنا بعضا".

دوسان تاديتش عن نادي أياكس. (5)

    

كأنه يصف علاقة غرامية، هيّأ نفسه لها بتصريحاته لموقع جول في سبتمبر/أيلول 2018، حين عبّر عن ارتياحه الشديد للعيش بهولندا عن إنجلترا. (8) هذه المشاعر وهذه الراحة ساهما بشكل كبير في حدوث ذلك الانفجار الذي لم يتوقعه أحد. فاللاعب الذي اكتفى بإحراز 9 أهداف وصناعة 8 بآخر موسمين في إنجلترا، أحرز مع أياكس في الموسم الأول 38 هدفا، وصنع 24 في البطولات كافة.

    

   

كان "تاديتش" محظوظا بالانضمام إلى أياكس أثناء تولي المدرب الشاب "إيريك تين هاخ" المهمة. فالأخير كان قد تولى قيادة الفريق الثاني لبايرن ميونيخ في فترة وجود غوارديولا بالنادي الألماني، وأُتيح له مراقبته والتواصل معه، ليعود بعد سنوات ويقود أياكس لتقديم أفضل كرة قدم شهدها عام 2019، والتي وصفها البعض بالموجة الثانية من الكرة الشاملة(9) (Total Football 2.0).

   

ساهمت أفكار "تين هاخ" بتلميع لاعبيه، وعلى رأسهم الدولي الصربي. لكننا نظن أن ذلك لم يكن ليحدث لولا قدرات المدرب الهولندي غير العادية على مستوى التحضير الذهني، فهو يحرص على مراقبة تعابير وجه لاعبيه أثناء توجيهم في التدريبات سواء بالسلب أو الإيجاب، وكذلك في اللحظات المؤثرة من المباراة، بعد إحراز أو تلقي هدف، أو التعرض لعرقلة وخلافه. وعليه يتمكّن من فهم لاعبيه بصورة أكبر، وتحديد مخاوفهم، واختيار الطرق الأنسب لتحفيز كل منهم، وكانت النتيجة إحياء مسيرة لاعبنا صاحب الـ 30 عاما. (10)

      

  

لم يكن المغزى أبدا في مركز المهاجم الوهمي أو أفكار"تين هاخ" الفنية والنفسية، إنما كان حول نموذج قلما نجده هذا الأيام؛ لاعب يركض خلف النادي الذي يحب، والكرة التي يحبها، وليس الأموال. مؤخرا، جدّد "تاديتش" عقده حتى عام 2026، رافضا الكثير من العروض المغرية، ومانحا إيانا التعليق التالي والذي لم نجد أفضل منه لختام قصته:

 
"لقد تلقيت عروضا جيدة من الصين عدة مرات، لكن أحيانا عليك الاستماع إلى قلبك. أعتقد أن المال ليس كل شيء؛ السعادة شيء لا يمكنك شراؤه، وفي داخلي أشعر أنني غني".

المصدر : الجزيرة