شعار قسم ميدان

قد تستبدل بها المسلسلات قريبا.. لماذا تفقد كرة القدم متعتها؟

ميدان - كرة القدم تفقد متعتها!
اضغط للاستماع

   

لطالما اصطدم هذا النوع من المقالات بتعليق طريف يُعبِّر فيه صاحبه عن دهشته من تضييع كل هذا الوقت، وكتابة هذا الكمّ من السطور من أجل لعبة ككرة القدم. وسواء معه الحق أم لا، فنحن لا ندري كيف ستكون ردة فعله إذا علم أن أحدهم يرى كرة القدم مهددة بفقدان شعبيتها لصالح منصات المحتوى المرئي مثل "نتفليكس"، أو ألعاب الفيديو مثل "فورتنايت" (Fortnite

  

بالطبع نحن لسنا هنا لترتيب الأولويات، لكننا سنبدأ انطلاقتنا من هذه المقارنة الغريبة. إذا كنت من مشاهدي "نتفليكس" ومحبي كرة القدم في الوقت نفسه، فهل ترى منافسة بينهما؟ هل تتوقّع أن تصير كرة القدم بهذا الملل مستقبلا، للدرجة التي تدفعك لتعويض ما ينقصك من المتعة عبر الأفلام والمسلسلات؟

  

من أين يأتي التهديد؟

دعنا نوضح لك أن صاحب التخوّف السابق هو "أندريا أنييلي" رئيس نادي يوفنتوس. (1) نعم، هو الشخص نفسه الذي ظل "ماكسيميليانو أليجري" مدربا لفريقه على مدار خمسة مواسم، لكنه اليوم استشعر بشكل أو بآخر أن كرة القدم الضعيفة المملة ستفقد شعبيتها، ولن تستطيع جذب المشجعين الصغار. (2) يريد "أنييلي" أن يخلق من ذلك القلق ذريعة لتغيير نظام دوري أبطال أوروبا إلى آخر يضم صفوة الأندية فقط تحت اسم "European Super League".

   

  

لكن إذا تجاوزنا ذلك المشروع الطبقي الذي قد لا يحدث من الأساس، فالمتعة لا تتوقف أبدا عند الفِرَق الكبيرة. أولا، لأن التشجيع يشمل معاني أخرى تتجاوز المكسب والخسارة. وثانيا ستفهمه بسهولة إذا كنت أحد مشجعي أرسنال الذين غُرِّر بهم للوقوع في غرام الفريق في العصر الذهبي لأرسين فينغر، والآن تضطر لمشاهدة الفريق نفسه لكن بنسخته المملة رفقة أوناي إيمري. الحال نفسه ينطبق على مشجعي برشلونة رفقة إرنستو فالفيردي، ولا ننسى مشجعي مانشستر يونايتد، وغيرهم وغيرهم ممن ينتظرون دورهم في طابور المتعة.

  

وسواء كان فريقك يُعاني كهؤلاء أو يمتلك مشروعا واضحا، فإن هذه المعاناة ستصيب الجميع. لأن الأمر يتجاوز تفصيلة المشروع أو المدرب، ويتعلق بنظرتنا للرياضة من الأساس. فهذه الرياضة لم تَعُد كما كانت، والمتعة التي تريد لم تَعُد من شروطها.

  

رياضة لم تَعُد رياضة

مشاهد كرة القدم هو نفسه مشاهد السينما، الذي يدفع مقابل التذكرة متوقِّعا مشاهدة فيلم ممتع، على الأقل حتى لا يشعر أن نقوده ذهبت هباء. وهذا بالضبط ما ننتظره من الرياضة، وإذا لم نحصل عليه نبدأ بتوزيع الانتقادات على الجميع. لكن حقيقة الأمر هي أننا لم نستطع بعد التعامل مع الفكرة الجديدة؛ الرياضة لم تَعُد رياضة وحسب. فنحن نشاهد منتجا يُشرف على صناعته عدد كبير من الموظفين الخاضعين لمجموعة من القواعد التعسفية التي تخضع لترقيع مستمر للوصول لأقصى درجات التكافؤ الظاهري. لكن وجود مثل هذه القواعد يعني ضمنيا أن بعضا من هؤلاء الموظفين يسعون لتقديم المنتج الأفضل عبر كسر القواعد، التحايل، الرشاوى، التهرب من الضرائب، وغيرها مما يجعل الصورة الكلية غير نقية بالمرة. لكننا حتى الآن نتجنّب قدر الإمكان التعامل مع الرياضة من هذا المنطلق.

    

الروتين بآثاره الجانبية كفيل بالقضاء على المتعة تدريجيا، بل إنه كفيل بتدمير مسيرة اللاعبين. ويُعَدُّ لاعب إنتر ميلانو التشيلي
الروتين بآثاره الجانبية كفيل بالقضاء على المتعة تدريجيا، بل إنه كفيل بتدمير مسيرة اللاعبين. ويُعَدُّ لاعب إنتر ميلانو التشيلي "أليكسيس سانشيز" أبرز الأمثلة على ذلك
   

ذلك التعبير لمايكل برادلي في مقاله لشبكة "ABC" الإخبارية يختصر كل شيء:

"لقد وضعنا ثقلا هائلا على الرياضة، وهذا هو السبب في أننا ما زلنا نشعر بالصدمة في كل مرة يتم تدنيس أحد معابدها بسبب المال".(3)

  

إذن لماذا هذه النظرة البريئة إلى عالم الموظفين ورجال الأعمال؟ لماذا تطلب منهم الحرص على متعتك كحرصِهم على زيادة أموالهم؟ حتى إذا تجاوزنا هذه المخالفات العلنية منها والسرية، فإن الروتين الوظيفي وحده سيكون كافيا.

    

  

الروتين الوظيفي

يخضع اللاعب، أو بالأحرى موظف كرة القدم، مضطرا لقوانين شركته وخططها المستقبلية لتطوير الشركة. هذه الخطط مكوّنة من جملة واحدة فقط: "كلما لعبنا أكثر، ربحنا أكثر". لا ذكر لكلمة "إجازة" أو "جودة" أو ما يعادلهما.

  

كان الكوري الجنوبي "سون" موظف نادي توتنهام أحد أبرز الموظفين المثاليين في الموسم الماضي، حيث خاض 78 مباراة في الفترة بين 25 مايو/أيار 2018 و13 يونيو/حزيران 2019، أي في 384 يوما تقريبا. بحسبة بسيطة ستكتشف أن "سون" خاض مباراة كل 5 أيام، لكن إذا علمت أنه حصل على 22 يوما كراحة سلبية في فصل الصيف، فسيصبح المعدل مباراة كل 4.5 يوم. أضف إلى ما سبق، عدم الحصول على فترة الراحة الشتوية بسبب عادات البريميرليغ، والطيران لمسافة تُعادل 110 ألف كيلومتر لتمثيل منتخب بلاده، وهو ما يعادل 135 ساعة طيران، بإمكانك إضافتها إلى الحسبة السابقة مع الأخذ بالاعتبار ضرب فرق التوقيت والساعة البيولوجية عرض الحائط. (4)

      

   

لم يكن "سون" الموظف الوحيد الملتزم بنسبة الحضور المرتفعة، بل هنالك الكثير من الزملاء وفقا لتقرير مؤسسة اللاعبين المحترفين "FIFPRO". موظف ليفربول "ساديو ماني" لعب 70 مباراة مع ناديه ومنتخب بلاده في الفترة نفسها تقريبا دون الحصول على الراحة الشتوية والاكتفاء بإجازة فصل الصيف المُقدَّرة بـ 22 يوما، أضف إلى ذلك الطيران لمسافة 100 ألف كيلومتر لتمثيل منتخب السنغال. (4)

  

"أليسون بيكر" خاض 72 مباراة، "محمد صلاح" 66 مباراة، "لاس شونه" 62 مباراة مع أياكس ومنتخب الدانمارك، "إيدين هازارد" 73 مباراة، "إيفان راكيتيتش" 68 مباراة، وغيرهم وغيرهم ممن يدفعون ثمن استمرار أنديتهم ومنتخبات بلادهم في المنافسة.

  

المنطقة الحمراء

خلص التقرير إلى أن معظم لاعبي المستوى الأعلى يلعبون ما يُقارب 80 مباراة في السنة، تكون المدة الفاصلة بين معظمها أقل من 5 أيام، وبالتالي لا يحصل هؤلاء الموظفون على الراحة الكافية. لكني كمشاهد لا أكترث لكل هذا، بل أرى أن كل موظف من هؤلاء يحصل على أموال طائلة، ومن حقي أن أحصل على عرض ممتع مقابل تشجيعي، ومقابل ثمن التذكرة، وعلى الموظف أن يُقدِّم ما يجعله يستحق هذه الأجور.

  

دعنا نخبرك أن الأمر أصبح خارجا عن السيطرة، لأن هؤلاء اللاعبين لا يحصلون على الراحة الكافية التي تُمكِّنهم من الاستشفاء والاستعداد لما هو قادم. كما أن اللعبة أصبحت أكثر حِدّة وأكثر تعقيدا على المستويين الفني والخططي، مما يجعل معدل إرهاق اللاعبين واستنزافهم بدنيا وذهنيا أسرع من السابق. ما يزيد الطين بلة هي رحلات الطيران الكثيرة التي تحمل اللاعب من دولة إلى أخرى دون أن يحصل على فرصة للتأقلم مع فروق التوقيت، والذي يؤدي بالتبعية إلى اضطراب وقلة ساعات النوم، والذي يؤثر على دقة اللاعب، وقراراته داخل الملعب، كما يجعله أكثر عُرضة للإصابات. وفقا لدراسة أجرتها "American Academy of Sleep Medicine" على 80 لاعب بيسبول، تبيّن أن قلة النوم تُعجِّل بانتهاء مسيرة اللاعبين، على الأقل في المستوى العالي من المنافسة. (5)

     

   

ذلك الروتين بآثاره الجانبية كفيل بالقضاء على المتعة تدريجيا، بل إنه كفيل بتدمير مسيرة اللاعبين. يُعَدُّ لاعب إنتر ميلانو التشيلي "أليكسيس سانشيز" أبرز الأمثلة على ذلك. ففي ديسمبر/كانون الأول 2014، أي منذ خمس سنوات تقريبا، حذّر مدربه في ذلك الوقت "أرسين فينغر" من تعرّض لاعبه للاحتراق. (6) بين عامي 2014 و2020 حصل "سانشيز" على إجازة صيفية واحدة، كانت بسبب فشل منتخب بلاده في الوصول لكأس العالم 2018. ومن دونها، كان "سانشيز" يأخذ الأمور بجدية ويُقدِّم مستويات لافتة مع أرسنال وتشيلي، وحصد مع منتخب بلاده بطولتين لكوبا أميركا 2015 و2016. أشار "فينغر" إلى أن لاعبه يلعب في ما يُسمى المنطقة الحمراء، أي الخطرة، ولا أحد يدري إلى أي مدى يمكن دفع اللاعب أكثر من ذلك. وكانت النتيجة انهيارا مفاجئا في مسيرته، وكأنه تحوّل إلى لاعب آخر. (7)

  

نحو مزيد من المباريات

ما ينطبق على "أليكسيس" ينطبق على معظم لاعبي أميركا الجنوبية، الذين اضطروا للتعايش مع المسرحية الهزلية لاتحاد قارتهم، والذي أقام 4 نسخ لكوبا أميركا في 6 سنوات فقط (2015 – 2016 – 2019 – 2020). (8) ورغم رداءة المستوى عاما بعد آخر، فإن الاتحادات الأخرى تحذو حذو اتحاد أميركا الجنوبية (CONMEBOL) بزيادة عدد المباريات، وتغيير نظام البطولات، وتخترع أخرى بنظام لا يستطيع المشجعون فهمه، فقط لزيادة الروتين، واستعباد الموظفين، دون أخذ متعتك في الاعتبار.

  

الاتحاد الأوروبي لكرة القدم زاد عدد المشاركين في اليورو من 16 إلى 24، وقرر إقامة نسخة 2020 في 12 مدينة بـ 12 دولة مختلفة. (9) ناهيك بالطبع عن استحداث بطولة دوري الأمم الأوروبية التي فازت بها البرتغال مؤخرا. الاتحاد الدولي لم يقف مشاهدا هو الآخر، فقرر استحداث نظام جديد لبطولة كأس العالم للأندية بمشاركة 24 ناديا (3 أضعاف عدد الفِرَق في النظام القديم). (10) حتى فترات الإعداد للأندية، باتت تأخذ شكلا أكثر تنافسية، للحصول على مزيد من الأموال.

    

  

ذلك يعني أن المستقبل به المزيد من المباريات، المزيد من الروتين الوظيفي، وبالطبع القليل من المتعة، لأن القائمين على اللعبة الذين يتجاهلون الجودة عن عمد يعولّون فقط على الانتماء. كلٌّ مرتبط بناديه وسيظل يشاهده مهما حدث، لكن في المستقبل قد لا يبقى الوضع كما هو عليه، وعندما تأتي لحظة الاختيار فإن منصة "نتفليكس" وغيرها ستكون بالانتظار، وحينها سيكون السيد "أنييلي" عبقريا لقراءته المستقبل.

المصدر : الجزيرة