شعار قسم ميدان

هل أنت ذكي بسبب اجتهادك أم جيناتك؟

تُعزَى العديد من الصفات النفسية التي نتّسِم بها إلى الفطرة المتأصلة بداخلنا. بالإضافة إلى ذلك، ثمة أدلة دامغة، مستمدّة من الدراسات التي تناولت التوائم وكذلك الدراسات العائلية والعامة، على أنّ جميعَ السماتِ الشخصية، وغيرها من الصفات الأخرى مثل الذكاء والميول الجنسية وخطر الإصابة بالاضطرابات النفسية، تُشير إلى أن جميعها يُمكن توارثها بدرجة كبيرة. وبعبارة محددة، فإن هذا يعني أن السمات التي يتمتع بها نسبة كبيرة من الناس، والتي تتفاوت قيمها مثل معدلات الذكاء أو المقاييس الشخصية، تُعزى إلى الاختلافات الجينية بين الناس؛ إذ إنّ قصة حياتنا لا تبدأ بكل تأكيد من الفراغ.

بيد أن هذا الأمر يُثير العديد من التساؤلات: كيف تؤثر صفاتنا الجينية المتوارَثة على سماتِنا النفسية بالتحديد؟ هل هناك روابط مباشرة تصل بين الجزيئات التي تتكون منها تلك الجينات والطريقة التي تفكر بها العقول؟ هل هناك وحدات جينية وعصبية مُخصّصة لمختلِف الوظائف المعرفية؟ وماذا يعني أن نقول إننا اكتشفنا الجينات المسؤولة عن "الذكاء" أو الانبساط النفسي أو انفصام الشخصية؟ مع الأسف، لم توفّق هذه العبارة شائعة الاستخدام -بأن "جينا معينا يساهم في إكساب صفة محددة"- في الإشارة إلى أن هذه الجينات مخصصة لأداء وظيفة محددة: أي إن الغرض منها هو إكساب حاملها تلك الصفة. ليس الأمر كذلك على الإطلاق. من المثير للاهتمام أن هذا الالتباس ينشأ نتيجة الخلط بين مفهومين مختلفين تماما لكلمة "جين".

من وجهة نظر الوراثة، فإن الجين هو وحدة مادية ترتبط بسِمة ما أو عرض معين، يمكن تناقلها من الآباء إلى أبنائهم.

من وجهة نظر علم الأحياء الجزيئي، أو البيولوجيا الجزيئية، يتكون الجين من شريط طويل من الحمض النووي يحمل الشفرة الوراثية لبروتين معين. ولذا فإن هناك جينا محددا لبروتين الهيموغلوبين، الذي يحمل الأوكسجين في الدم، وجينا آخرَ للأنسولين، المسؤول عن تنظيم نسبة السكر في الدم، وغيرَها من الجينات الأخرى المسؤولة عن الأنزيمات الأيضية، ومستقبلات الناقلات العصبية والأجسام المضادة، وما إلى ذلك. يحتوي جسم الإنسان على ما يقرب من 20 ألف جين جرَى تحديدها على هذا النحو. من الصواب الاعتقاد أن الغرض من هذه الجينات هو حمل الشفرة الوراثية الضرورية لإنتاج تلك البروتينات المخصصة للقيام بتلك الوظائف الخلوية أو الفسيولوجية.

ولكن من وجهة نظر الوراثة، فإن الجين هو وحدة مادية ترتبط بسِمة ما أو عرض معين، يمكن تناقلها من الآباء إلى أبنائهم. على سبيل المثال، هناك جين مسؤول عن الإصابة بمرض فقر الدم المنجلي، يفسر كيف ينتشر المرض في بعض العائلات. الفكرة الرئيسية التي تربط بين هذين المفهومين المختلفين للجين هي "التنوع": إذ إنّ "الجين" المسؤول عن الإصابة بمرض فقر الدم المنجلي هو في الواقع مجرد طفرة أو تغيُّر في تسلسل الحمض النووي الذي يحمل الشفرة الوراثية المسؤولة عن إنتاج الهيموغلوبين. وفي حين أن هذه الطفرة لا تتّسم بغَرض محدَّد، فإن لها تأثيرا ملموسا.

وعلى ذلك، عندما نتحدث عن جينات مسؤولة عن الذكاء، مثلا، فإنّ ما نعنيه حقا هو المتغيرات الجينية التي تسبِّب اختلافات في الذكاء. تظهر الآثار المتأتيّة من تلك الجينات بطرق غير مباشرة تماما. فعلى الرغم من أننا جميعا نشترك في المحتوى الوراثي -مع وجود خطة مشتركة لتشكيل جسم الإنسان والدماغ البشري- الذي جرَى تركيبه لإكسابنا طبيعتنا البشرية العامة، فإنّ حدوثَ التنوع الجيني في تلك الخطة أمر لا مفر منه، إذ تتسلّل الأخطاء في كل مرة يتم فيها نسخ الحمض النووي لإنتاج حيوانات منوية وبويضات جديدة. تؤدي التغيُّرات الجينية المتراكمة إلى تبايُن في كيفية تطور وعمل أدمغتنا، وفي النهاية إلى الاختلاف في طبيعتنا الفردية.

هذا الوصف ليس مجازيا، إذ يمكننا أن نرى مباشرة آثارَ التنوع الجيني على أدمغتنا. فقد كشفت تقنيات التصوير العصبي اختلافات فردية كبيرة في حجم أجزاء مختلفة من الدماغ، بما في ذلك مناطق محددة وفقا لوظيفتها في القشرة الدماغية. إذ كشفت عن كيفية تنسيق هذه المناطق وترابطها، والمسارات التي تنشط من خلالها وتتواصل مع بعضها البعض في ظل الظروف المختلفة. تتسم جميع هذه العوامل بأنها على الأقل قابلة للتوريث جزئيا، بينما يُمكن انتقال بعضها وراثيا إلى حد كبير.

لا يرتبط الذكاء بأي من العوامل الدماغية المحددة. بل يرتبط بحجم الدماغ الكلي وبالعوامل الشاملة التي تُحدد قدرة المادة البيضاء على التوصيل وكذلك كفاءة شبكات الدماغ.

من هذا المنطلق، تتسم العلاقة بين هذه الأنواع من الخصائص العصبية والصفات النفسية بأنها معقدة للغاية. ثمة تاريخ طويل من البحث عن الارتباطات بين العوامل الفردية لبنية الدماغ -أو وظيفته- وسمات سلوكية محددة، وبالفعل فقد ظهر في الأبحاث المنشورة عدد كبير من تلك الارتباطات الإيجابية التي تؤكد وجود علاقة بين تلك العوامل والسمات السلوكية المحددة. إلا أن معظم تلك الأبحاث لم تخضع لمزيد من الدراسة والتدقيق.

لقد تبين أن الدماغ لا يخضع ببساطة لهذا النهج النمطي: فحتّى الوظائف الإدراكية المحددة بدقّة لا تعتمد على المناطق المنفردة فحسب، بل على أنظمة الدماغ الفرعية المترابطة. والأدهى من ذلك، لا يمكن حتّى ربط الخصائص المُتقدمة للغاية -التي نعتبرها سمات نفسية مستقرة- بوظيفة نُظم فرعية محدَّدة، بل -بدلا من ذلك- تَظهر نتيجة للتفاعل فيما بينها.

على سبيل المثال، لا يرتبط الذكاء بأي من العوامل الدماغية المحددة. بل يرتبط -بدلا من ذلك- بحجم الدماغ الكلي وبالعوامل الشاملة التي تُحدد قدرة المادة البيضاء على التوصيل وكذلك كفاءة شبكات الدماغ. ولذا يُمكن القول بأنه لا يوجد جزء واحد محدد في الدماغ يستخدمه الإنسان في عملية التفكير. فبدلا من أن يرتبط الذكاء بوظيفة جزء واحد من الدماغ، يبدو أنه يعكس التفاعلات بين العديد من الأجزاء المختلفة، تماما مثلما نفكر عند تقييم الأداء الكلي للسيارة، بدلا من مجرد تقييم كفاءة المحرك أو المكابح فقط.

ينطبق هذا الافتقار إلى النهج النمطي المنفرد على المستوى الجيني أيضا. فقد ارتبط الآن عدد كبير من المتغيرات الجينية الشائعة بين الناس بالذكاء. إذ يُسهِم كل متغير من هذه المتغيرات الجينية بمفرده في إحداث تأثير ضئيل فحسب، ولكن هذه المتغيّرات مجتمعة تُسهِم بما يقرب من 10% من التباين في مستويات الذكاء بين الأشخاص الذين شملتهم الدراسات. ومن اللافت للنظر أنّ العديد من الجينات التي تتأثر بهذه المتغيرات الجينية هي التي تحمل الشفرة الوراثية المسؤولة عن إنتاج البروتينات التي تلعب دورا في نمو وتطوّر الدماغ. إلا أنه ليس من الضروري أن يحدث الأمر على ذلك النحو، فقد يتبيّن أن الذكاء يرتبط بمسار ما من مسارات الناقلات العصبية، أو بكفاءة التمثيل الغذائي للخلايا العصبية أو بعض العوامل الجزيئية المباشرة الأخرى. بدلا من ذلك، يبدو أن الذكاء يعكس بشكل أعمّ مدى قدرة أجزاء الدماغ المختلفة على التفاعل مع بعضها البعض.

وبالمثل، تعتبر تأثيراتُ التنوع الجيني على الصفات المعرفية والسلوكية الأخرى عرضيّة وغيرَ مباشرة. إذ تتسم هي الأخرى عادة بأنها ليست محددة للغاية. علاوة على ذلك، تتميز الغالبية العظمى من الجينات التي توجِّه عمليات التطور العصبي بأنها متعددة المهام: إذ إنها تشارك في عمليات خلوية متنوعة في العديد من مناطق الدماغ المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، ونظرا لأن الأنظمة الخلوية مترابطة بشكل كبير، فإن أي عملية خلوية معينة ستتأثر -بشكل غير مباشر- بالتنوع الجيني الذي يؤثر على العديد من البروتينات الأخرى ذات الوظائف المتنوعة. ولذلك، نادرا ما تقتصر التأثيرات الناجمة عن أي متغير جيني بمفرده على جزء واحد فقط من الدماغ أو وظيفة إدراكية واحدة أو صفة نفسية واحدة.

يشير كل ذلك إلى أنه لا ينبغي لنا أن نتوقع أن يقوم اكتشاف الاختلافات الجينية التي تؤثر على سمة نفسية معينة بتسليط الضوء المباشر على الأسس الجزيئية الافتراضية المسؤولة عن الوظائف المعرفية التي وقع عليها هذا التأثير. بل في الواقع، من الخطأ أن نفكر في الوظائف الإدراكية أو الحالات العقلية باعتبار أن لها أسسا جزيئية، بل الأصح أن لها أسسا عصبية.

تتسم العلاقة بين بنياتنا الجينية الوراثية وخصائصنا النفسية، على الرغم من كونها كبيرة، بأنها علاقة غير مباشرة وعَرَضية بشكل كبير. إذ إنها تشمل التفاعل بين تأثيرات الآلاف من المتغيرات الجينية، وهو ما يحدث من خلال عمليات التطور المعقدة، مما يؤدي في النهاية إلى حدوث اختلاف في العديد من العوامل التي تؤثر على بنية الدماغ ووظائفه، والتي تؤثر مجتمعة على الوظائف الإدراكية والسلوكية المتقدمة التي تعزز الفروق الفردية في طبيعتنا النفسية.

وذلك هو مآل سير الحياة، إذ إن الطبيعة ليست ملزَمة بتبسيط الأمور لنا. عندما نفتح غطاء الصندوق الأسود (أيّ نظام يتميّز بالغموض فيما يتعلق بالعمليات التي تحدث داخله)، لا ينبغي أن نتوقع رؤية المزيد من الصناديق السوداء الصغيرة المقسمة بدقة، بل توجد حالة من الفوضى بالداخل.

————————————————————————

ترجمة (فريق الترجمة)

هذا التقرير مترجم عن: Aeon ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة