شعار قسم ميدان

شرودنجر.. أينشتاين.. شيشر! وما علاقة الفيزياء بالقطط؟

اضغط للاستماع

في أوائل خريف العام 1975 قام كل من جاك هيثرنجتون، الفيزيائي من جامعة ميتشجين، مع آخر يُدعى ف. د. س. ويلارد، بنشر ورقة بحثية(1) في مجال فيزياء درجات الحرارة المنخفضة بالدورية الشهيرة فيزيكال ريفيو ليترز (Physical Review Letters)، لكن كانت هناك مشكلة واحدة متعلقة بتلك الورقة البحثية، لم تكن في مادتها العلمية، ولكن في هذا الفيزيائي الآخر الذي كتب الورقة البحثية مع هيثرينجتون، من هو؟ وكيف ظهر فجأة من لا مكان ليكتب ورقة بحثية بهذا التعقيد؟

 

تنكشف حقيقة ذلك اللغز بعد ثلاث سنوات، أثناء حضوره للمؤتمر الدولي الخامس عشر لفيزياء درجات الحرارة المنخفضة، بمدينة غرونوبل الفرنسية، حينما قدم هيثرينجتون نسخا من مقاله البحثي موقّعة من قِبل اثنين، الأول هو هيثرينجتون نفسه، والثاني هو مخالب قطه(2) "تشيستر"، وتبين أن هيثرينجتون كان، في ورقته البحثية، قد استخدم بالخطأ صيغة المتكلم للجمع، فتجده قد كتب مثلا (ورأينا، وتبين لنا، واكتشفنا، ثم استنتجنا، إلخ)، وهو في اللغة الإنجليزية يستخدم للتحدث من قِبل مجموعة تضم اثنين فأكثر، هنا قامت لجنة مراجعة الأوراق البحثية في الدورية بإرجاع الورقة لهيثرينجتون لتعديل لغتها بصيغة المتكلم المفرد لأن اسمه المفرد فقط موجود عليها.

مخالب تشيستر على الورقة البحثية! (مواقع التواصل)
مخالب تشيستر على الورقة البحثية! (مواقع التواصل)

ويبدو أن السيد هيثرنجتون قد أصابه الكسل، وقرر ألا يعدل كل تلك الأخطاء اللغوية، وبدلا من ذلك لجأ إلى حيلة لطيفة، حيث كان لديه قط سيامي يُدعى تشيستر، تحديدا من النوع "Felis domesticus"، وكان أبوه، القط السيامي أيضا، يُدعى ويلاد، هنا استقى هيثرينجتون الحروف الأولى من كل ذلك ليطلق على رفيقه الجديد مؤلف الورقة البحثية اسم "F. D. C. Willard"، ثم أعاد الورقة لقسم المراجعة فقُبلت على الصورة الجديدة بصيغة الجمع مع وجود مؤلفين لها، وأصبح السيد تشيستر هو أول قط في التاريخ يؤلف ورقة بحثية في مجال معقد يُدعى فيزياء درجات الحرارة الباردة، أو أي مجال علمي آخر على أي حال!

 

الزمكان والقطط

صورة هابل لقطة أينشتاين! (مواقع التواصل)
صورة هابل لقطة أينشتاين! (مواقع التواصل)

وعلى الرغم من الكوميديا التي نلتقيها في حادثة القط السيامي تشيستر، فإنها تفتح لنا بابا للتساؤل عن تلك العلاقة الغريبة بين الفيزياء والقطط، لفهم ذلك دعنا، على سبيل المثال، نتأمل تلك الصورة الغريبة، والتي التقطها التلسكوب العظيم هابل قبل عدة سنوات، ويظهر فيها ما يشبه القطة الضاحكة. هذه ليست خدعة فوتوشوبية ما، وإنما هي صورة حقيقية بالفعل لعنقود(3) (تجمّع) من المجرات يُدعى "SDSS J1038+4849″، للوهلة الأولى قد تتصور أن شيئا مخيفا يحدث بالأعلى، خاصة وأن هذه الابتسامة المرعبة ذات عرض يساوي ملايين من المجموعات الشمسية كتلك التي نعيش فيها، ما الذي يحدث هناك بالأعلى بين المجرات؟

 

لفهم تلك الفكرة الرائعة دعنا نتأمل معا كوب ماء صافٍ، الآن انظر خلال هذا الكوب إلى الجهة الأخرى، هل تلاحظ ذلك؟ تتشوهت الصورة تماما بفعل تأثير المياه في كوب الماء والتي تعمل كعدسة (لكنها غير منتظمة) فتحني أشعة الضوء القادمة من الخلفية لتظهر الصورة بهذا الشكل، في الفضاء يحدث الشيء نفسه تقريبا، حيث تتوقع النسبية العامة أن شعاع الضوء ينحني بتأثير وجود المادة، كنجم أو مجرة مثلا، في الفضاء.

undefined

لا يحدث ذلك لأن شعاع الضوء نفسه ينحني بالفعل؛ لكن ما ينحني حقا هو نسيج الزمكان المحيط بالجرم نفسه، هذا هو بالضبط ما تم تأكيده على يد الفيزيائي البريطاني "آرثر أيدنجتون"(4) سنة 1919 حينما التقط صورا لمجموعة من النجوم في خلفية الشمس أثناء كسوف شمسي، وصور أخرى للنجوم نفسها في وقت لم تكن الشمس موجودة فيه، ليرصد تغير موضع تلك النجوم بسبب تأثير جاذبية الشمس على أشعة الضوء الصادرة منها ناحيتنا، كانت تلك التجربة هي سر شهرة "ألبرت أينشتاين" الواسعة فيما بعد.

 

تعلمنا النسبية العامة أنه كلما ازدادت كتلة الجرم السماوي تزداد قوة جاذبيته بسبب قدرته الأكبر على "ثني" نسيج الزمكان، وذلك "الثني" أمر صعب الفهم قليلا، لكن تخيل معي أن هذا الكون هو قطعة قماش لينة لكن ضخمة جدا مشدودة الأطراف من كل الجوانب، الآن يمكن أن تمسك بكرة حديدية كتلتها خمسة كيلوغرامات وتضعها في أي مكان بهذه القطعة، ما سوف يحدث هنا هو أن ينحني نسيج القماش للأسفل بفعل ثقل الكرة الحديدية. تلك الكرة هي أي جرم له كتلة، نجم مثلا أو ثقب أسود أو حتى كوكب ما، أما تلك القماشة فهي نسيج الزمكان.

 

لذلك فإن عنقودا مجريا ضخما يحتوي في تركيبته كتلة مئات المجرات قد يتسبب في انحناء أكثر وضوحا للزمكان، ما يتسبب في أن تتأثر أشعة الضوء القادمة من خلفيته بشكل أكثر وضوحا أيضا، وحينما ننظر إليه نجده يشوه صورة ما يقع خلفه، بالضبط مثل كوب الماء الذي تحدثنا عنه منذ قليل، فتظهر تلك التشوهات في شكل أقواس وحلقات كبيرة حينما نلتقط صورا لها بتلسكوبات كـ"هابل"، ما يحدث هنا نسميه "عدسة جاذبية"(5) (Gravitational Lens)، وهو السر في ضحكات تلكك  القطة التي نراها في صورة هابل.

 

وتُعدّ أحد أهم الاستخدامات لتلك الظاهرة هو قدرتها على إعطائنا كمًّا جيدا من البيانات حول واحدة من أعظم أسرار الكون الذي نعرفه، إنها المادة المظلمة، تلك التي تمثل 25% من تركيب الكون؛ بينما تمثل كل المادة التي نعرفها أقل من 5% فقط، فنحن لا نستطيع فك شفرة تلك المادة المظلمة بعد، ذلك لأنها لا تشع أي قدر من الطيف الكهرومغناطيسي، لكن فقط يمكن لنا رصد تأثيرها الجذبوي على الأجرام السماوية المحيطة بها، والفكرة هنا أنه يمكن لنا عبر رصد عدسة الجاذبية أن نربط بين كتلة التجمعات المجرية وبين درجات انحنائها في الصور، فإذا كان الانحناء أكبر مما تدل تلك الكتلة الظاهرة عليه نستنتج أن هناك كتلة أخرى غير مرئية موجودة في المكان ولها تأثير على الزمكان، ونفترض أن تلك هي المادة المظلمة.

 

العالم على موجة بحر!

من جهة أخرى فإن أشهر قطة في عوالم الفيزياء هي، لا شك، قطة شرودنجر، لكن البعض يفهم بالخطأ أن إرفين شرودنجر، الفيزيائي الألماني، نفسه قد ابتكر تلك التجربة الفكرية لتوضيح طبيعة ميكانيكا الكم، بينما السبب الحقيقي هو أن شرودنجر أراد فقط أن يوضح مدى سخافة تفسير كوبنهاغن للميكانيك الكمومي ومناقضته لأي واقع نعرفه، من خلال التأكيد على أن هذا العالم الصغير جدا، عالم الذرات والإلكترونات، مرتبط حتما بالعالم الكبير الذي نعيش فيه، وبالتالي فإن تأثير الميكانيك الكمومي يمتد ليشتمل على كل شيء.

 

لكن لفهم فكرة قطة شرودنجر يجب أن نرجع للوراء قليلا لنتأمل ما أطلق عليه ريتشارد فاينمن بـ "الأحجية المركزية في الميكانيك الكمومي"، إنها تجربة الشق المزدوج(6). في عالمنا العادي، الذي نتعامل فيه مع بعضنا بعضا ونشاهد برامج المساء المملة، الجسيم ككرة قدم، إذا وقفت أمام جدار ما، به بابان متجاوران، يمكن للكرة أن تدخل فقط من أحدهما حينما تضربها بقدمك، إما يمينا وإما يسارا، أو بينهما فترتد عن الجدار ولا تدخل.

 

أما الموجة فهي كموجة بحر، يمكن لها أن تدخل من البابين في الوقت نفسه لتصنع في الجهة الأخرى ما نسمّيه "أنماط التداخل"(7) (Interference Pattern)، يمكنك أن تصنع تلك الأنماط بأن تلقي بصخرتين صغيرتين في الماء بجانب بعضهما، تتداخل الموجات الناتجة منهما معا، وتجربة الشق المزدوج هي -ببساطة- عبارة عن تمثيل تجريبي لفكرة الجدار ذي البابين، فإذا مر خلال فتحتيها كيان موجي، كالضوء مثلا، سوف تظهر أنماط التداخل، أما إن مر خلالها جسيم فسوف يمر إما من اليمين وإما من اليسار.

 

لكن ما الذي يحدث حينما ننزل بهذه التجربة الخاصة بنا إلى عالم الجسيمات دون الذرية، الإلكترونات مثلا؟ نحن نعرف أن الإلكترون جسيم (Particle)، لذلك من المفترض، حينما نحاول إطلاقه في تجربة الشق المزدوج الموجودة في الفيديو بالأعلى، ألا تنتج أنماط تداخل، لكن التجربة سوف تكذب ذلك الافتراض، وتلك بالطبع مفاجأة عجيبة، لذلك سنحاول أن نفهم السر بأن نراقب التجربة عن كثب عبر أجهزة قياس خاصة (نضع مراقبا add observer)، هنا تظهر المفاجأة الأكبر، وهي أن الإلكترون كأنما وعى وجودنا في التجربة ثم تعامل كجسيم لإعطاء نمط عادي.

undefined

في تلك المرحلة سوف يظن بعض العلماء أن الإلكترونات تتداخل بشكل ما له علاقة باصطداماتها معا مثلا أو بتدخل أدوات المراقب للتجربة، لذلك سنصمم تجربة جديدة كليا يمكننا معها إطلاق جسيم واحد فقط في كل مرة، حيث سوف نطلق إلكترونا واحدا، ثم نرى أثره على الشاشة في خلفية التجربة، ثم نطلق إلكترونا آخر، ونرى أثره كإلكترون واحد في خلفية التجربة، ثم سوف نستمر في ذلك. هنا يظهر -في البداية- أنه لا توجد أنماط تداخل، لكن شيئا فشيئا يظهر نمط تداخل.

 

حتى لو أطلقت إلكترونا واحدا كل سنة مثلا، حتى لو بدلته بفوتون أو بذرّة أو حتّى بجزيء متعدد الذرات، سوف يتعامل كموجة، ويعني ذلك أن أول إلكترون أطلقناه كان يعرف -بشكل ما- أي الأماكن في الشاشة بالخلفية يجب أن يسقط فيه كموجة، لكن، ماذا يعني أن يكون الإلكترون الواحد موجة؟ يعني ذلك أن هذا الإلكترون تداخل مع نفسه عبر شقي التجربة كأنه موجة ما أنتج أنماط التداخل، لكن ذلك يعني كارثة إضافية، وهي أن الإلكترون –إذن- قد وُجد في مكانين مختلفين في الوقت نفسه، دخل من شقي التجربة معا، وهو إلكترون واحد. كانت تلك الجملة الأخيرة هي مصدر كل الغموض في العالم الكمومي إلى الآن.

 

أعاجيب الكم

بالتالي، وحسب تفسير كوبنهاغن، إذا أردنا وضع تفسير واحد يسمح بمرور الإلكترون عبر الشقين معا فيجب اعتبار أن الفاصل بين إطلاق الجسيم دون الذري ووصوله إلى اللوحة في نهاية التجربة يحتوي على كل الاحتمالات الممكنة لهذا الجسيم، احتمالات يمر خلالها من الفتحة الأولى وأخرى يمر خلالها من الفتحة الثانية، لكن ذلك يعني أيضا أن الموجة التي تحدث بين انطلاق الجسيم ووصوله ليست فقط موجة احتمالات رياضية نستخدمها لوصف العالم الذري، بل يمكنها -بشكل ما- أن تتمثل داخل التجربة حينما لا نقوم بالملاحظة.

 

تلك هي الحالة التي نسميها التراكب الكمي(8) (Quantum Superposition)، وهي الحالة التي يوجد فيها الجسيم الكمومي بكل حالاته الممكنة معا، إنها القطة الميتة والحية في الوقت نفسه في تجربة شرودجر الفكرية الشهيرة، سنضع قطة(9) في صندوق مغلق مع كمية صغيرة من مادة مشعة يُحتمل بمقدار 50% مثلا أن تتحلل ذرة منها خلال مدة محددة، إذا تحللت سوف تتسبب في عمل عداد جايجر والذي يقيس الإشعاع، هنا سوف يُفلت العداد المطرقة لتسقط على زجاجة السم فينتشر في المكان وتموت القطة.

undefined

الآن نقف أنا وأنت أمام ذلك الصندوق قبل أن نفتحه لنسأل: هل القطة حية أم ميتة؟ هنا يتدخل تفسير كوبنهاغن للإجابة بـ: كلا الحالتين معا، حية وميتة؛ لأن تلك الذرة ذات موجة احتمالية تصفها في كل الحالات؛ أي كـ متحللة وغير متحللة في الوقت ذاته، ذلك ما يعنيه مفهوم التراكب الموجي في الحالة الكمية. نظريا، يُفترض أن الإلكترون -أو أي جسيم آخر- يوجد في عدة حالات كمية في الوقت نفسه، ذلك هو ما سمح للإلكترون بالمرور من الفتحتين معا في تجربتنا الأولى.

 

أما حينما نفتح الصندوق لن نجد أي مفاجآت، تكون القطة إما حية وإما ميتة. هذا هو ما حدث حينما حاولنا إدخال أجهزة قياس لتجربة الشق المزدوج حيث تعاملت الإلكترونات كجسيمات وليس كموجات، وذلك لأن الجسيم يفقد وضعه الكمومي -وضع كل الحالات فيه توجد معا- لوضع ذاتي -حالة واحدة محددة-. تلك القفزة المفاجئة من عالم الكم إلى عالمنا الطبيعي غير مفهومة بعد. ويقول تفسير كوبنهاغن لميكانيك الكم إنه خلال الملاحظة يتفاعل النظام الفيزيائي مع أدوات القياس، وبسبب هذا التفاعل تنهار الحالة الموجية إلى الحالة التي يمكن ملاحظتها.

 

الآن لنفصل ضحكتك.. عنك!

من جهة أخرى تنزل لأرض الملعب قطة كمومية أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها. في أحد مشاهد قصة لويس كارول الكلاسيكية للأطفال "أليس في بلاد العجائب"، يختفي شيشَير القط تدريجيا تاركا فقط ابتسامته، هنا تقول آليس جملتها الشهيرة(10): "حسنا، لقد رأيت قبل ذلك قطة بدون ابتسامة، لكن ابتسامة بدون قطة؟! إنها أكثر الأشياء التي رأيتها في حياتي عجبا!"، وذلك لأنه في العالم المألوف لنا، ذلك الذي يحتوي على الناس والسيارات والشوارع ونادي بيراميدز، دائما ما يرتبط الكائن وخصائصه ببعضهما بعضا، لا يمكن مثلا فصل كائن حي عن خصائصه كالهضم، أو التكاثر، أو الحركة، لا يمكن -مثلا- أن نفصلك عن صوتك.

 

ربما، في تلك المرحلة، قد تبدأ بالتساؤل عن سلامة كاتب التقرير العقلية، كيف مثلا يمكن لك أن تنفصل عنك ابتسامتك أو صوتك أو حركتك؟ وهذا بالطبع غريب، لكنه ليس كذلك بالنسبة للعالم الكمومي، في عام 2014 تمكن فريق بحثي بجامعة فيينا من فصل(11) جسيمات النيوترون عن أحد خصائصها، وهي الدوران (Spin)، يشبه دوران الجسيمات دوران الأرض حول نفسها، ليس الأمر كذلك تحديدا؛ لكنه أقرب مثال نعرفه، مع فارق مهم، وهو أن الأرض تدور لأنها دُفعت للدوران في بداية حياتها في المجموعة الشمسية، أما دوران الجسيم فهو خاصية جوهرية محددة له، لا يدور؛ لأن أحدهم دفعه للدوران؛ لكنه مستمر دائما في ذلك، يشبه الأمر صوتك أو ضحكتك، إنه أمر في تركيبك كبشري، وهكذا بالنسبة للجسيمات، لكل جسيم نمط دوران محدد لا يتغير أبدا، ما يتغير هو اتجاه دورانه، مع أو عكس عقارب الساعة.

undefined

وبذلك فإنه حينما نتمكن من فصل تلك الخاصية الجوهرية عن الجسيم التي يحملها، فتتخذ البروتونات مسارا في التجربة، ويتخذ الدوران وحده مسارا آخر (نلاحظه عبر رصد أثره المغناطيسي)، ثم يلتقيان من جديد، فإننا لا شك أمام إحدى أغرب التجارب في تاريخ البشرية، يشبه الأمر بالفعل أن تفصل بين شخص ما، وضحكته، فيذهب الشخص من شارع، وهنا نلاحظ جسده يتحرك، وتذهب ضحكته من شارع آخر، فنسمعها تجلجل ولا نرى أحدا، لهذا السبب سمّيت تلك الظاهرة بقطة شيشَير (Cheshire Cat)، لتعلمنا أن ما يخبئه لنا الميكانيك الكمومي هو دائما أغرب من أغرب حكاياتنا، أليس في بلاد العجائب.

 

في تلك النقطة يمكن أن نتذكر ريتشارد فاينمن، في محاضرته الأولى(12) عن الإلكتروديناميكا الكمومية، والتي اختار أن تكون في نيوزيلندا، حينما أنهى شرحه المبسط للطريقة التي استطاع من خلالها التوصل إلى نظريته قائلا: "الآن جاء دورك كي تسألني: لماذا تعمل تلك الطريقة؟ أنا لا أعرف"، ثم يواصل حديثه قائلا: إن "الطبيعة غريبة بقدر استطاعتها أن تكون كذلك، وهي غريبة بشكل يجعل من القوانين التي تفسرها تبدو مجنونة للدرجة التي لا يمكن تصديقها، ومع ذلك حينما نتتبع نتائج تلك القوانين نجد أنه يمكن فهم كل الظواهر العادية".

 

هنا يطلب فاينمان منك أن تتقبل ذلك أو يمكن لك أن تذهب إلى المنزل، ولذلك فهو يشير دائما إلى أن العلم هو -إن أردنا تعريفا بسيطا- الاعتقاد بجهل الخبراء، وفاينمان هنا لا يقلل من شأن الباحثين ذوي الخبرة، ولا من شأن خبراتهم التي رفعت درجات العلم يوما بعد يوم، ولكنه يقلل من أهمية إيمانك -كفيزيائي- بتلك النتائج بحيث تتوقف عن السير للأمام باحثا عن الجديد. في تلك النقطة يمكن، ربما، أن نتفهم قليلا تلك العلاقة الغريبة بين الفيزياء الحديثة والقطط، فكلاهما مشاغب، يتساءل عن مفاهيم كانت يوما ما بديهية لا حاجة إلى النبش في أصولها، وكلاهما يعبث بالأشياء من حوله لا يعبأ كثيرا لأهميتها، لكنه فقط يود أن يستكشف الطبيعة من حوله، أيًّا كانت قوانينها، وكيفما جاءت النتائج.

المصدر : الجزيرة