هكذا تحدَّث ماكس بلانك

ميدان - ماكس بلانك

دعنا نبدأ هذه المرة -على عكس العادة- بالزمن من الخلف للأمام، يقول الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (Max Planck)، في نهاية الفصل الأول من كتابه الرائع "سيرة ذاتية علمية، وأوراق أخرى":

 

"لم يولد أي رجل بحق قانوني يعطيه السعادة والنجاح والازدهار في الحياة، بالتالي يجب علينا تقبل كل قرار من العناية الإلهية، كل ساعة سعادة، باعتبارها هدية غير مكتسبة تفرض علينا التزاما. أما الشيء الوحيد الذي قد ندّعي أنه ملكنا بضمانةٍ مطلقة، أعظم خير، والذي لا يمكن لأية قوة في العالم أن تأخذه منّا، وهو ما يمكن أن يعطينا السعادة الدائمة أكثر من أي شيء آخر، هو نزاهة الروح، والذي يتجلى في أداء واجبنا بضمير"
 

رجُل التقاليد

لكي نفهم الاقتباس السابق، حيث ربما هو ما سيعطينا انطباعا أكثر عمقًا عن كاتبه، فإنه يجب علينا أن نتعلم قليلا عن حياة رجل عاش عددًا من المآسي1، ماتت زوجته الأولى في سنة 1909، وقد مات كل أبنائهم في ظروف مأساوية، وفي أثناء حياة بلانك، مات كارل الأكبر متأثرا بجراحه في الحرب العالمية الأولى، والأصغر إيروين أُعدم من قبل النظام النازي سنة 1944 بعد اتهامه -مع آخرين- بمحاولة اغتيال هتلر، بينما التوأم إيما وجريت ماتتا عند مولدهما، أما عن ابنه هيرمان من زوجته الثانية ميرجا، فقد صاحبته مشكلات عقلية.

عالم الفيزياء الألماني
عالم الفيزياء الألماني "ماكس بلانك" (مواقع التواصل)

نحن إذا أمام رجل عاش كابوسين في حياته، الحربين العالميتين والنظام النازي، ورغم أنه استنكر كل شيء فعلته النازية، إلا أنه اختار أن يبقى وعائلته في ألمانيا بينما هرب الآخرون منها مع أوّل فرصة. حيث بقي على أمل أن يجمع قطع الدولة المكسورة معًا ليعيد بناءها بعد أن تهدّمت بالكامل، وقد ساعد زملاءه العلماء من اليهود، وطالب الدولة بالتوقف عن مطاردتهم، ونُحّي عن وظيفته أكثر من مرة بسبب ذلك. فلا عجب إذا أن يكتب رجل مر بكل تلك الأحداث وامتلك كل ذلك القدر من القوة كلامًا كهذا، أن يقول لنا ما خلاصته "استغلوا الفرص ما دامت قائمة"، وأنّ "سلامة الروح في أداء الواجب".
 

لذلك، فعالَم ماكس بلانك، كشخص في حياته العامة وكعالِم، هو رحلة ممتعة، تعطينا فكرة عن الوجود من زاوية مختلفة تماما، فكما تعلمنا القليل عن جموح ألبرت أينشتاين الشديد في تقرير سابق، خروجه الدائم عن كل الإطارات الممكنة، رفضه للسائد، ووقاحته في مواجهة التقاليد، فإننا هنا أمام شخصية مغايرة تماما، غاية في التميّز، وعلى نفس الدرجة من الإبداع والعبقرية، إذ يقول ماكس بورن2 الفيزيائي الأشهر عنهما:
 

"من الصعب تخيّل رجلين أشد منهما اختلافًا، فأينشتين مواطن عالمي، لا يتعلق كثيرًا بالمحيطين به، مستقل عن الخلفية العاطفية للمجتمع الذي يعيش فيه، أما بلانك فشديد التأثر بتقاليد عائلته وشعبة، ووطني غيور، فخور بعظمة تاريخ ألمانيا، وبروسي واع في مواقفه تجاه الدولة"
 

ثورة الكوانتم

ولفهم أفضل لشخصية ماكس بلانك دعنا نتعرف إلى "الكارثة فوق البنفسجية"3 (Ultraviolet Catastrophe)، بدأ الأمر حينما باءت محاولات الفيزيائيَيْن   لورد رايلي (Lord Rayleigh) وجيمس جينز (James Jeans) "معادلة رايلي- جينز" لتفسير طيف الأشعة الكهرومغناطيسية التي يصدرها الجسم الأسود -وذلك عن طريق الميكانيكا التقليدية- بالفشل، لأنه وفقا لتلك المعادلة فإن كثافة الإشعاع الصادر من الجسم الأسود ترتفع بزيادة تردد الإشعاع، حتى تصل إلى ما لانهاية عندما يصل التردد إلى ما لانهاية، ولكن ذلك لا يحدث على أرض الواقع، فالتجارب تؤكد عكس ذلك تمامًا، حيث أنه عندما يصل تردد الإشعاع لنطاق الأشعة فوق البنفسجية فإن كثافة الإشعاع تقل بشكل كبير حتى تقترب من الصفر، من هنا جاء اسم الكارثة.

 

في تلك الأثناء كان ماكس بلانك يعمل على مشروع مختلف، كلفته به بعض شركات المرافق كي يحسّن أداء فتيلة المصابيح الكهربائية بحيث نحصل على أفضل إنتاج ممكن للطاقة بأقل تكلفة، مما عرّضه لمشكلة الإشعاع فوق البنفسجي، بدأ ماكس بلانك بتحري صيغة رايلي-جينز بكل صورة ممكنة لكن الأمر لم يفلح، حيث بدأ ييأس بشدة، لكنه توصل بعد جهد طويل، عبر ما سماه "تخمين موّفق"، إلى معادلة4 تعيد تشكيل كل ذلك التنظير السابق، لكنه اضطر فيها إلى أن يستخدم ثابت، رقم ينبغي إضافته للمعادلة كي تتفق الأمور مع النتائج التجريبية، رقم ما بقيمة (6.62607004 × 10-34 m2 kg / s)، لم يكن يعرف بعد أنه سوف يصبح أحد ثوابت الطبيعة الأساسية، إنه الرمز الأشهر في فصول الفيزياء، ثابت بلانك5.

 

في الحقيقة طالت قسوة ميكانيكا الكم ألبرت أينشتاين أيضا فأصابته بنفس الدرجة من اليأس، فرغم أنه أظهر ربما شجاعة أكبر من بلانك، إلا أنه لم يكن بالشجاعة الكافية للاستمرار في دعم تلك الفكرة
في الحقيقة طالت قسوة ميكانيكا الكم ألبرت أينشتاين أيضا فأصابته بنفس الدرجة من اليأس، فرغم أنه أظهر ربما شجاعة أكبر من بلانك، إلا أنه لم يكن بالشجاعة الكافية للاستمرار في دعم تلك الفكرة
 

أصرّ بلانك أن نظريته لا تنطبق على طبيعة الضوء ذاته ولكنها ترتبط بامتصاص مادة ما له أو انبعاثه منها فقط، وأن ثابته هو مجرد حيلة حسابية تساعدنا كي نحصل على نتائج صحيحة لا أكثر، فقد تسبب هذا الثابت في نقل صورتنا عن الضوء من طيف مستمر إلى كمّات متساوية محدودة من الطاقة، وكان ذلك سخيفا في معناه بالنسبة لفيزيائي كلاسيكي محافظ على التقاليد كبلانك، فالأمر يشبه -ليس بالضبط لكنه يشبه- أن يختفي كوكب المشترى ليظهر في مدار زحل، يقول6 بلانك عن توتره تجاه اكتشافه ذلك: "وكان فعلًا يائسًا، كان عليّ الحصول على نتيجة إيجابية تحت أي ظرف من الظروف، وبأي ثمن"، كان هذا الفعل اليائس هو مولد ميكانيكا الكم، أعظم انجاز للفيزياء في تاريخها، يقول7 نيلز بور عن عظمة اكتشاف بلانك:

"بالكاد يمكن أن يتواجد اكتشاف آخر في تاريخ العلم كله قد أنتج هذه النتائج الاستثنائية خلال فترة قصيرة من جيلنا مثل تلك التي نشأت مباشرة من اكتشاف ماكس بلانك للفعل الكمّي الأولي" 
 

هذا هو ماكس بلانك شخص متحفظ دائما، يحترم التقاليد، متشكك قدر الإمكان في كل جديد وطارئ، لكنه في المقابل كان يعتنق الالتزام كنهج أساسي لحياة أي إنسان سليم

توقّف بلانك هنا، لكن أينشتاين، بشجاعة أكبر قليلا، قرر خوض المغامرة بحذر، فهو يعرف أن تلك الفكرة تهدد بالفعل أحد أركان الفيزياء الكلاسيكية، لكنه استخدم نتائج صيغة ماكس بلانك مع بحث آخر لفيليب رينارد لكي يشرح بدقة الظاهرة الكهروضوئية8، ويظهر لنا في النهاية أن الضوء بالفعل يتكون من كمّات، إنها الفوتونات، وهي جزء من طبيعة الضوء نفسه وليست مجرد حيلة حسابية، لقد أوضح أينشتاين المغزى الفيزيائي الحقيقي لمعادلة بلانك، وحصل بسبب ذلك على نوبل في الفيزياء.

حتى بعد نشر أينشتاين لبحثه لم يقبل بلانك به، وظل يعتقد أن الكم مرتبط فقط بامتصاص أو انبعاث الضوء وليس بطبيعته، حتى أنه قبل وفاته بوقت قليل كتب9 "استمرّت لسنوات عديدة محاولاتي العقيمة لوضع كم الفعل الأوّلي بطريقة أو بأخرى في إطار نظرية كلاسيكية، وكلّفني ذلك جهدا كبيرا، ورأى الكثير من زملائي في ذلك شيئا أقرب للمأساة"، في الحقيقة طالت قسوة ميكانيكا الكم ألبرت أينشتاين أيضا فأصابته بنفس الدرجة من اليأس، فرغم أنه أظهر ربما شجاعة أكبر من بلانك، إلا أنه لم يكن بالشجاعة الكافية للاستمرار في دعم تلك الفكرة، هنا جاء نيلز بوهر وفيرنر هيزنبرج، ثم ديراك، ثم فاينمن، ليُخرج كل منهما ما في باطن عالم الكم من عجائب لازلنا نصطدم بمدى غرابتها حتى اليوم.
 

كل الطرق تؤدي إلى

undefined

في الحقيقة، يعطينا هذا الاختلاف الشديد بين هذين المبدعِين فرصة لتأمل ما تعنيه العبقرية، حيث أنه فيما يبدو ليس هناك نموذج ما، أو خطّة على طريقة كتب التنمية البشرية، يمكن اتبّاعها بحذافيرها لكي نصبح عباقرة، لقد أبدع فقراء وأبدع أغنياء، أبدع جامحون وأبدع ملتزمون بالتقاليد، أبدع البشر من كل التوجهات والثقافات، ويشبه ذلك قول نجيب محفوظ في خطاب الحصول على نوبل:

"لعلكم تتساءلون، هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟ وهو تساؤلٌ في محله، فأنا قادمٌ من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها.. ولكن من حسن الحظ أن الفن وربما الإبداع بكل أنواعه كريم عطوف"، وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلّى عن التعساء، ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجول في صدره"، ويبدو هنا إذن أن العبقرية هي -كما يقول صديقنا بلانك- نزاهة الروح، والعمل الدؤوب حتى يرضى ضميرك.
 

كان هذا هو ماكس بلانك، شخص متحفظ دائما، يحترم التقاليد، متشكك قدر الإمكان في كل جديد وطارئ، لكنه في المقابل كان يعتنق الالتزام كنهج أساسي لحياة أي إنسان سليم، لا يعرف شيئا أهم من العمل الدؤوب، لا لأجل المال، أو لأجل المكانة، ولكن لأجل السعادة، فقد وجد من معاناته أن السعادة هي شيء نحصل عليه بما نستكشف من حقائق، فيقول في كتابه سالف الذكر10:
 

"وهذا الذي سمح له حسن الحظ بالتعاون في بناء هذا الصرح العظيم من العلم الدقيق، سوف يجد ارتياحه وسعادته الداخلية، مع شاعرنا العظيم جوته، في معرفة أنه قد استكشف ما يمكن استكشافه، وتبجيل ما لا يمكن تفسيره بعد بهدوء"
 

لا تدرس الفيزياء

undefined

 

دعنا الآن نعود للبدايات، حيث بدأنا المقال بالرجوع للخلف عبر الزمن، إحدى الحكايات التي تدعو للتأمل -ربما-، هي أنه في سنة 1874 حينما تقدم ماكس الشاب لدراسة الفيزياء في جامعة ميونخ نصحه أحد مدرسيه هناك في البداية، ويدعى فيليب فون يولي، قائلا11 عن الفيزياء أن "هذا المجال تم اكتشاف كل شيء فيه تقريباً، وكل ما تبقى هو قليل من الثغرات"، كان الشائع وقتها هو أن نيوتن قال أن (F-ma) وكانت البقية مجرد تفاصيل وتطبيقات، وأن كل شيء قد انتهى، وأن العلم قد وصل لذروة مجده، لكن ماكس يرُد على الأستاذ أنه لا ينوي اكتشاف أشياء جديدة لكنه يود أن يتعمق في فهم أساسيات الفيزياء.
 

قد يكون هذا المراهق/الشاب من دولة ما، من مدرسة/جامعة ما، هذا الذي تقول له: "لا تدرس الفيزياء، لا تخوض تلك المغامرة"، هو ماكس بلانك القادم، لكن لا تقلق، إن كان هو بلانك بالفعل.. لن يستمع للنصيحة

يستمر ماكس بلانك في طريقه ليدرس الفيزياء التي أحبها، بجانب اللعب على البيانو والذي لم يتركه طوال عمره، ثم في نهاية الحكاية نكتشف أن هذا الشاب الصغير الملتزم سيكون هو مؤسس ذلك العلم الجديد الذي -بعد أعوام قليلة- سيقلب الطاولة على كل الفيزياء السابقة، وليفتح مجالا بحثيا جديدا تماما في الفيزياء، ويخرق كل ما يمكن أن نضعه تحت عنوان "كتاب الفيزياء الكلاسيكية المقدس".
 

لقد أعيد علم الفيزياء بشكل ما إلى "وضع المصنع"، بعدما كان الجميع يقول إننا قد انتهينا بالفعل. حيث أصبحنا نفتقد للمعرفة اليقينية أثناء تحديدنا لأبسط الموضوعات الكلاسيكية كالموضع والزخم، وبتنا نفتقد لفهم الفروق الواضحة بين الموجة والجسيم، وتحددت مفاهيم قوية وثابتة كالموضوعية والمحلية والاستمرارية والحتمية السببية بعلاقات عدم اليقين والطبيعة الاحتمالية للميكانيك الكمومي، ولتدخل الملاحظة كجزء من عملية الرصد بشكل أو بآخر فينهار الوضع الكمومي لحالة محددة مما يمنعنا من فهم جوهره.
 

حسنًا، لا زلنا نجد تلك النصيحة التي تقول "لا جديد في الفيزياء" تجوب أروقة المدارس الثانوية والجامعات على مستوى العالم اليوم، لكن لسبب مختلف، فالفيزياء في حالة تخبط شديد، وقد أصبحت -بحد قول الكثير من الباحثين12– أمرا غاية في الصعوبة كمهنة وكمجال بحثي، حيث لا جديد تحت الشمس، والافتراضات المتنافسة لا تجد بعد دلائل تجريبية ترجح إحداها على الأخرى، لكن من يدري؟ في النهاية قد يكون هذا (المراهق/الشاب) من دولة ما، من (مدرسة/جامعة) ما، هذا الذي تقول له: "لا تدرس الفيزياء، لا تخوض تلك المغامرة"، هو بلانك القادم، لكن لا تقلق، إن كان هو بلانك بالفعل.. فلن يستمع للنصيحة.

المصدر : الجزيرة

إعلان