شعار قسم ميدان

بعد حوادث مقتل الفتيات.. لماذا لا يتقبل البعض الرفض إلى حد العنف الشديد؟

بعد حوادث مقتل الفتيات.. لماذا لا يتقبل البعض الرفض إلى حد العنف الشديد؟

بالطبع لا أحد يحب الشعور برفض الآخرين، ولا يمكن إنكار أننا -نحن البشر- مخلوقات اجتماعية للغاية، نحتاج إلى الشعور بالانتماء والقبول من قبل الأشخاص المهمين بالنسبة إلينا. ومع ذلك، إذا كان رد فعل أحدهم على الرفض عنيفا، فإن ذلك قد يدل على وجود مشكلة ما. في الواقع، تسلط الحوادث الأخيرة لمقتل الفتيات مثل "نيرة أشرف" و"سلمى بهجت" على إشكالية "فرط الحساسية للرفض" (RS)، وهي الميل إلى الاستجابة بشكل حاد وعنيف لإشارات الرفض في سلوك الآخرين(1).

 

الأفراد الذين لديهم حساسية عالية تجاه الرفض يكونون خائفين للغاية وكارهين للرفض لدرجة أنه يؤثر على حياتهم اليومية. وبسبب مخاوفهم وتوقعاتهم، يميل الأشخاص المصابون بحساسية الرفض إلى إساءة تفسير ما يقوله ويفعله الآخرون وتشويهه والمبالغة فيه، حتى إنهم قد يستجيبون للغضب ويقومون بإيذاء الآخرين.

 

مثلا، قد يسيء الأشخاص الذين يعانون من حساسية الرفض تفسير تعابير الوجه المختلفة للأشخاص الآخرين، كذلك فهم يبالغون في رد فعلهم تجاه المعنى الذي فسروه، والذي قد لا يكون حقيقيا من الأساس. وجدت إحدى الدراسات أن الأفراد الأعلى في مقياس حساسية الرفض أظهروا تغيرات في نشاط الدماغ عندما رأوا وجها يبدو وكأنه قد يرفضهم مقارنة بالأفراد الذين لا يعانون من حساسية تجاه الرفض. وقد يظهرون حتى سلوك القتال والمواجهة أو الهرب، كأنهم يواجهون حدثا حقيقيا مثيرا للخوف والقلق(2).

 

القلب المكسور معنويا

القلب المكسور معنويا

في عام 1998، طوّر الباحثون بنية لشرح الحساسية المتزايدة التي يشعر بها بعض الأفراد حول تجربة الرفض. وصف الباحثون "داوني" و"بونيكا" و"رينكون" المراهقين الذين يعانون من هذه الحالة بأنهم يشعرون بالاستجابات العاطفية الثلاث التالية: توقع الرفض بشكل دفاعي، الميل إلى تصور سلوكيات الآخرين على أنها رفض، وأخيرا المعاناة من ردود فعل سلبية شديدة على الرفض الرومانسي(3).

 

أوضح الفريق أن الألم الناتج عن تجربة الرفض قد يكون مشابها بدرجة كبيرة للألم الجسدي، حيث إن الرفض ينشط العديد من مناطق الدماغ نفسها المتورطة في الشعور بالألم. لدراسة الرفض تم استخدام جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، حيث يلعب الشخص -محل التجربة- لعبة كرة على الإنترنت مع لاعبين آخرين، في النهاية، يبدأ اللاعبان الآخران في رمي الكرة لبعضهما بعضا فقط وتجاهل اللاعب الثالث محل التجربة(4). أوضحت التجربة أن المبحوثين الذين تم تجاهلهم في اللعبة يُظهرون نشاطا متزايدا في بعض مناطق الدماغ، وهي المناطق ذاتها التي تُظهر نشاطا متزايدا استجابة للألم الجسدي. أوضح الباحثون أن الشعور بألم الرفض يتعلق أكثر بالدماغ، لذا فهم يرون أن القلب المكسور لا يختلف كثيرا عن الذراع المكسورة(5).

 

توصل عالم النفس بجامعة ميشيغان، "إيثان كروس"، وزملاؤه؛ إلى النتيجة السابقة ذاتها حينما فحص أدمغة المشاركين الذين انفصل شركاؤهم الرومانسيون عنهم مؤخرا. أضاءت مناطق الدماغ المرتبطة بالألم الجسدي عندما شاهد المشاركون صورا لأنشطة قاموا بها مع شركائهم السابقين(6). يرى الباحثون أن الارتباط بين الألم الجسدي والاجتماعي قد يبدو مفاجئا، لكنه منطقي من الناحية البيولوجية. ويشرحون ذلك بأنه بدلا من إنشاء نظام جديد تماما للاستجابة للأحداث المؤلمة اجتماعيا، اختارت عملية التطور ببساطة استخدام نظام الألم الجسدي(7).

 

العائلة قد تكون هي السبب الأول

العائلة قد تكون هي السبب الأول لعدم قبول الرفض

رصد الباحثون أيضا أن المواقف العائلية غير الصحية المبكرة من المحتمل أن تسهم بشكل أساسي في فرط الحساسية للرفض. تبدأ هذه المعاناة لدى الفرد عند فشل مقدمي الآباء في الاستجابة بشكل إيجابي لاحتياجاته، خاصة تلك المتعلقة بالقبول والمودة، بعد مدّ الخطوط على استقامتها يصبح من المنطقي أن يكبر الفرد مُطوّرا لافتراض بأن الرفض هو الاستجابة الأكثر احتمالا لجهوده في إقامة علاقة(8).

 

أوضحت دراسة أُجريت على 271 طالبا جامعيا ونُشرت عام 2015، أن الذكرى التي يحتفظ بها هؤلاء الطلاب حول مدى قبول الأم والأب أو رفضهما لهم خلال مرحلة الطفولة قد أثرت بشكل كبير على مستوياتهم الحالية من حساسية الرفض(9). المشكلة هنا أن الرفض لا يحتاج دائما إلى أن يكون مباشرا حتى يكون له تأثير، فمجرد النشأة مع أحد الوالدين ممن يتبعون أسلوب الأبوة الصارم أو الاستبدادي باستمرار، يمكن أن يتسبب في أن يطور الطفل خوفا قويا من الرفض في العلاقات الأخرى.

 

الأخطر من ذلك أن باب العنف الذي يُفتح بسبب حساسية الرفض قد لا ينتظر حتى مرحلة البلوغ، فقد يبدأ الأمر مُبكرا، ويتصرف الأطفال الذين يعانون من حساسية الرفض بشكل عدواني. وفقا لدراسة نُشرت في "تشايلد ديفلوبمنت" (Child Development)، فإن الأطفال الذين كانوا حساسين للغاية من الرفض كانوا أكثر عرضة للتصرف بغضب، وقد أظهر هؤلاء الأطفال تعرضهم لضائقة شديدة بعد تفاعل اجتماعي غامض مع أقرانهم(10).

باب العنف الذي يُفتح بسبب حساسية الرفض قد لا ينتظر حتى مرحلة البلوغ، فقد يبدأ الأمر مُبكرا

هذا الرفض الأولي الذي قد يتعرض له الفرد خلال سنوات حياته الأولى، التي لم يتعرف خلالها حتى على نفسه أو على من حوله، يجعل الطفل يضع افتراضات خاطئة حول سلوكيات الآخرين، فإذا لم تُقدّم لنا عائلاتنا الأصلية الرعاية والمحبة التي نحتاج إليها، فقد نميل إلى افتراض أن العالم مكان غير مضياف ومليء بالرفض والعداء. يمكن لأي نوع من التعرض المسبق للرفض المؤلم أن يدفع الشخص إلى بذل جهود كبيرة لتجنب الشعور بهذا الألم مرة أخرى.

 

لا يعني هذا أن الخطأ بالكامل يقع على عاتق مُقدّمي الرعاية الأولين أو الآباء، فقد يكون لدى البعض ممن يعانون من حساسية الرفض آباء مخلصين ومحبين، لكن المزاج المتشائم قد يقودهم إلى افتراض الرفض. فيُعتقد أن بعض الأشخاص قد يكون لديهم قابلية بيولوجية للتأثر بحساسية الرفض، قد يكون هناك استعداد وراثي أو سمات شخصية معينة تزيد من احتمالية أن يكون الشخص حساسا تجاه الرفض، حتى إن بعض الباحثين ربط بين حساسية الرفض وتدني احترام الذات والعصابية والقلق الاجتماعي(11).

 

الرجال أكثر حدة

لماذا يكون رد فعل بعض الرجال تجاه الرفض أكثر حدّة؟

نشرت جريدة "الوطن" المصرية حادثة فتاة لم تتجاوز من العمر 19 عاما بعد، تعرضت للخطف والانتهاك لمُدّة أسبوع من رجل كان قد تقدّم لخطبتها سابقا ورفضه والدها. خلال لقاء مباشر مع الفتاة صرحت بتعرضها للخطف والاحتجاز تحت تهديد السلاح، وأنها ظلت أسبوعا كاملا تتعرض للضرب والانتهاك ولا تستطيع الهرب، كل ما كان يريده الخاطف، الذي يبلغ من العمر 44 عاما، هو أن تصبح الفتاة زوجته!(12)

 

هل الرجال وحدهم هم من يتعرضون للرفض من الطرف الآخر؟ الإجابة هي: بالطبع لا، النساء أيضا قد يتعرضن للرفض والشعور بالألم الناتج عنه، بل على العكس قد تحتل النساء مرتبة أعلى في حساسية الرفض، لكن طريقة التعامل مع الأمر تختلف بين الجنسين. غالبا ما يكون رد فعل النساء على الرفض هو الدخول في موجة من الاكتئاب أو العزلة بدلا من الانتقاد، ورُبما "الهجوم" كما يفعل بعض الرجال(13).

 

وجدت إحدى الدراسات أن الانفصال، والشعور بالرفض المرتبط به، قد يكون سببا أساسيا في حدوث الاكتئاب لدى النساء. خلال الدراسة، أظهرت الفتيات في سن الكلية اللائي لديهن حساسية عالية تجاه الرفض أعراض اكتئاب متزايدة بعد أن بدأ الشريك في الانفصال مقارنة بالفتيات اللاتي كانت حساسية الرفض لديهن منخفضة(14).

يمكن إرجاع السبب وراء حساسية الرفض المبالغ فيها لدى بعض الرجال إلى الصورة النمطية الموضوعة للرجال في الثقافات الإنسانية المختلفة، بأنهم يجب أن يكونوا دوما أقوياء وناجحين ومستقلين لا يحتاجون إلى أحد ولديهم ثقة كبيرة بأنفسهم(15). هذه الصورة هي التي قد تقف وراء اختلاف القدرة على قبول الرفض بين الجنسين. يستجيب الرجال والنساء للرفض بشكل مختلف بطرق معيارية ثقافيا، فيميل الذكور إلى اعتبار الرفض تحديا لرجولتهم أو إهانة لمكانهم المتصور في التسلسل الهرمي الاجتماعي.

 

فارق آخر بين الرجال والنساء فيما يتعلق بحساسية الرفض، هو أنه بالنسبة إلى الرجال الذين يعانون من حساسية تجاه الرفض، قد يكون الارتباط بعلاقة أكثر أهمية لهم من النساء (16). في النهاية، قد تُصبح المُعادلة هنا كالآتي: "حساسية الرفض + الأعراف الثقافية الذكورية + الافتقار إلى التنظيم الذاتي العاطفي = خطر العنف". من المرجح أن يرى الرجال الذين شهدوا أعمال عنف منتشرة في بيئاتهم وخلال حياتهم أن العنف وسيلة مقبولة لتحقيق الغاية، حيث تُصبح الحياة في نظرهم ساحة معركة بها فقط نوعان من الأشخاص: الفائزون والخاسرون. يمكن أن يكون وصف البعض بأنه "خاسر" بمثابة ضربة لإحساسه بذاته، يحدث هذا بشكل خاص لدى الأفراد الذين يعانون من فرط الحساسية تجاه الرفض، لذلك قد يلجأ إلى العنف بوصفه حلّا لكي يصبح فائزا في معركة هي فقط "مُتصوّرة" بالكلية في ذهنه فقط (13).

 

شرحت دراسة نُشرت عام 2003 أن الأشخاص الذين يتعرضون للرفض أو النبذ الاجتماعي يتحولون أحيانا إلى أشخاص عدوانيين ويمكن أن يصلوا إلى العنف. أُجريت دراسات حالة حول 15 حادث إطلاق نار في المدارس الأميركية بين عامَي 1995 و2001 لفحص الدور المحتمل للرفض الاجتماعي في حدوث العنف المدرسي، كان الرفض الحاد أو المزمن، والذي كان يحدث على شكل نبذ و/أو تنمر و/أو رفض رومانسي، هو السبب وراء حدوث معظم هذه الحوادث؟

 

لكن هل الرفض كان هو السبب الرئيسي والوحيد وراء ارتكاب هذه الجرائم؟ هل معنى هذا أن كل من يتعرض للرفض يتجه لارتكاب جريمة؟ أوضحت الدراسة السابقة ذاتها أن إجابة السؤال السابق هي "لا"، فبالإضافة إلى عامل حساسية الرفض، يميل مرتكبو هذه الحوادث إلى أن يتسموا بواحد أو أكثر من ثلاثة عوامل خطر أخرى، هي: الاهتمام بالأسلحة النارية أو القنابل، أو المشكلات النفسية التي تنطوي على الاكتئاب وسوء السيطرة على الانفعالات، أو الميول السادية (17).

 

التنظيم الذاتي هو السبيل

إذا كنت تشك في أنك تعاني من حساسية الرفض، فالخطوة الأولى للتعامل بفاعلية مع الأمر تكون من خلال التعرف على الأعراض، والمشكلات التي تسببها حساسية الرفض. هذه هي الخطوة الأولى التي تُمكّنك من إحداث التغيير.

 

تُشير الأبحاث إلى أن التنظيم الذاتي، الذي يتضمن مراقبة ردود الفعل العاطفية والسلوكية الذاتية والتحكم فيها، قد يكون هو المفتاح الأساسي للتعامل مع حساسية الرفض. على سبيل المثال، عندما ترى علامة محتملة للرفض، قد يساعدك التوقف والتفكير في الموقف على تنظيم ذاتك وتهدئة نفسك بدلا من الاستجابة فورا. إحدى الطرق الفعّالة للقيام بذلك هي البحث عن تفسيرات بديلة للسلوك بدلا من افتراض الأسوأ. إن لم تتمكن من إجراء هذه التغييرات بنفسك، فقد تحتاج إلى الاستعانة بمتخصص صحة نفسية(18).

 

يُمكنك أن تبدأ بالتحدث إلى طبيبك الذي يمكنه مساعدتك في تحديد الخطوات التالية المناسبة. في كثير من الأحيان يمكن أن يساعدك العلاج السلوكي المعرفي على التعامل الفعّال مع الأفكار والمشاعر والسلوكيات التي تعزز الخوف من الرفض وتجعل التعامل مع الرفض تجربة سيئة وبالغة الصعوبة.

 

هناك طريقة أخرى للتعامل مع حساسية الرفض، وهي إدارة التوتر في حياتك. تزداد احتمالية إصابتك بانهيار عاطفي عندما تشعر بالتوتر. من الخطوات الفعّالة لإدارة التوتر اتباع النصائح لحياة صحية، والتي منها تناول الطعام بشكل صحيح، والحصول على قدر كافٍ من النوم الجيد، والقيام بأنشطة تهدف إلى تعزيز الشعور بالهدوء والاسترخاء مثل اليوجا أو التأمل، وهي أنشطة من شأنها الحفاظ على هدوء عقلك وحمايتك من الاندفاع وراء الانفعال والمبالغة في تفسير الأمور بشكل سيئ(19).

 

فتَحَت حادثة قتل الطالبة المصرية "نيرة أشرف" والأردنية "إيمان رشيد" الباب لتأمل "عدم قبول الرفض" في العلاقات من مستوى مختلف تماما، فبعد أن كان مجرد موضوعا للتندر في الأفلام والنمائم التي يتبادلها الناس، أصبحنا الآن -بأسوأ الطرق مع الأسف- نعرف أن عدم قبول الرفض هو مشكلة كبرى تواجه مجتمعنا، خاصة مع التحولات الكبيرة التي شهدناها خلال السنوات الماضية.

—————————————————————-

المصادر:

1-  Implications of rejection sensitivity for intimate relationships.

2- The face of rejection: Rejection sensitivity moderates dorsal anterior cingulate activity to disapproving facial expressions

3- Rejection Sensitivity and Adolescent Romantic Relationships

4- Cyberball: The Impact of Ostracism on the Well-Being of Early Adolescents

5- The neural bases of social pain: Evidence for shared representations with physical pain

6- Social rejection shares somatosensory representations with physical pain

7- The pain of social rejection

8- Interactions Between Rejection Sensitivity and Supportive Relationships in the Prediction of Adolescents’ Internalizing Difficulties

9- Adults’ Remembrances of Parental Acceptance–Rejection in Childhood Predict Current Rejection Sensitivity in Adulthood

10- Rejection sensitivity and children’s interpersonal difficulties

11- Attachment Style and Rejection Sensitivity: The Mediating Effect of Self-Esteem and Worry Among Iranian College Students

12- رفضت تتزوجه فخطفها

13- Rejection: When It Hurts Men More Than It Should

14- Rejection Sensitivity and Depressive Symptoms in Women

15- The Multiple Dimensions of Gender Stereotypes: A Current Look at Men’s and Women’s Characterizations of Others and Themselves

16- Influence of loneliness and rejection sensitivity on threat sensitivity in romantic relationships in young and middle-aged adults

17- Teasing, rejection, and violence: Case studies of the school shootings

18- Regulating the interpersonal self: Strategic self-regulation for coping with rejection sensitivity

19- What Is Rejection Sensitive Dysphoria?

المصدر : الجزيرة