شعار قسم ميدان

التأجيل الانتقامي لوقت النوم.. كيف يؤثر ذلك على صحتنا؟

يوما بعد يوم، تضطرب مواعيد نومنا، تتأخر مسافة عشر دقائق أو ربع ساعة كل عدة أيام، فنجد أنفسنا غارقين في السهر شاعرين بالاكتئاب، نعكس مواعيد نومنا مرة أخرى لكن الاضطراب لا يكف. هناك أسباب عدة يتوقَّعها العلماء لذلك، منها مثلا أننا عادة ما نستخدم الهواتف الذكية في وقت النوم، فتمنعنا إضاءتها من استشعار الحاجة إليه، ومنها كذلك أن مجتمعاتنا المعاصرة آخذة بطبيعتها في السهر، فلقاء الأصدقاء والعائلة أو مشاهدة فيلمك المفضل أو حتى العمل قد ينتهي بعد موعد نومك بساعة أو أكثر، فتضطر لتأجيله. لكن ماذا لو كانت المشكلة ليست فقط فيما سبق، بل في أننا نؤجل النوم مُتعمِّدين نوعا من رفض السلطة؟ وكأن النوم شيء "مفروض" علينا من قِبَل فسيولوجيا أجسامنا، فنرفض الرضوخ له، وبذلك ندخل في دوّامة التأجيل والتبكير ولا ننام في موعد واحد أبدا؟ يعرض التقرير لهذه الفكرة غير التقليدية التي تستحق منا قدرا من التأمل.

 

بالنسبة للكثيرين، فإن أصعب جزء في يومهم هو الانتقال بين اليقظة والنوم، فحينما يكون عليك النوم، سرعان ما تراودك رغبة في أن تكون مستيقظا، وعندما يحين وقت استيقاظك، تُلح عليك رغبة في أن تظل نائما، لذا من السهل اعتبار النوم عذابا، لأنه ببساطة يصعب الحصول عليه، ولكن بمجرد تحقيقه يصعب التخلّي عنه، ونستمر على هذه الحال في دوامة لا تنتهي يوما بعد يوم.

وفقا لمركز السيطرة على الأمراض (CDC)، وهو المؤسَّسة الوطنيَّة الأميركية الرائدة في مجال الصحة العامَّة والمهتمة برفع مستوى الوعي بمشكلات النوم، فإن 70 مليون أميركي يعانون من مشكلات نوم مُزمنة، إذ يؤثِّر الأرق على نسبة تتراوح بين ثلث إلى نصف البالغين في الولايات المتحدة بين الحين والآخر، ولا تقتصر هذه المعاناة على الأميركيين فقط، فقد أفادت دراسة أُجريت عام 2016 أن في جميع أنحاء العالم، يعاني البشر من الأرق بنسبة تتراوح ما بين 10-30%، بل توصَّلتْ بعض الدراسات الأخرى إلى معدلات تتراوح ما بين 50-60%.

 

لكن خلف هذا العذاب توجد دائما فرصة لتحسين جودة حياتنا إنْ استطعنا تغيير علاقتنا بالنوم، فبدلا من القلق بشأن كيفية تحفيز أنفسنا على النوم بكفاءة أعلى، نحتاج إلى التوقُّف عن مقاومة النوم من الأساس. ولتحقيق ذلك، علينا أن نتوقَّف عن رؤية النوم بصفته عملية فسيولوجية بحتة، والبدء في رؤية أهميته السامية.

 

لا يُدرك معظم البشر أن النوم الكافي يُحسِّن من الصحة النفسية، إذ توصلتْ إحدى الدراسات الحديثة التي أُجريت على أكثر من 30 ألف شخص في المملكة المتحدة إلى أن الأشخاص الذين رفعوا مقدار نومهم خلال فترة أربع سنوات تمتعوا تقريبا بسعادة تُعادِل ثمانية أسابيع من العلاج النفسي، أو فرحة تشبه ربح مبلغ يصل إلى 280 ألف دولار في اليانصيب.

لذلك فإن الأشخاص الذين يحظون بنوم هانئ ومريح يتمتعون بعلاقات أكثر اجتماعية وإيجابية مع زملاء العمل وشركائهم في الحياة. على الجانب الآخر، نكتشف أن الحرمان من النوم يُقلِّل من سعادتنا من خلال إضعاف القدرة على استرجاع الذكريات العاطفية، كما يُشجِّع أيضا عقلية الندرة (scarcity mindset) (يؤمن الأشخاص الذين يفكرون بهذه العقلية باستحالة أن يربح الجميع، فلكي يربح شخص يجب أن يخسر البقية، وبالتالي يجد هؤلاء صعوبة كبيرة في التقدير والمنح)، ما يجعل الناس في حالة صراع وصدام دائم مع الآخرين.

 

ربما نتساءل: لماذا لا نُخصِّص وقتا أكبر للنوم ما دمنا نعرف أنه ينطوي على كل هذه الفوائد الواضحة؟ في تلك الحالة سنجد أن الظروف المادية، وروتين النوم غير الصحي، وضغوط العمل، والشعور بالإجهاد، وبالطبع وجود أطفال، كل هذه الأشياء تقف حواجز شائعة تمنعنا من أن نهنأ بنوم سليم. لكن مع ذلك، ثمة عائق آخر أعمق بكثير ينبع من داخلنا، وهو ما يسميه العلماء "المماطلة في وقت النوم"، الذي يعني ببساطة تأجيل الذهاب إلى الفراش وفي اعتقادنا أننا نقوم بأشياء أخرى تبدو أكثر أهمية في الليل (التي سرعان ما نندم عليها عندما يحين وقت الاستيقاظ).

 

اكتشف الباحثون أن هذه الظاهرة شائعة للغاية، إذ يصل عدد ساعات النوم لثلث البالغين تقريبا إلى أقل من ست ساعات كل ليلة، بل اعترف أكثر من 40% أنهم ينامون عدد ساعات قليلة للغاية، أو يعانون من الإرهاق خلال ساعات النهار لمدة ثلاثة إلى أربعة أيام في الأسبوع أو أكثر.

يُطلَق على أحد الأشكال الخبيثة لهذا السلوك "التأجيل الانتقامي لوقت النوم" (revenge bedtime procrastination)، إذ يتخلَّى بعض الناس عن النوم باعتباره أحد أشكال التمرُّد ضد سلطة أصواتهم الداخلية. في هذا السياق، وصفت الكاتبة والشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث هذه المعاناة بدقة بالغة حينما كتبتْ تقول: "أتساءل لماذا لا أذهب إلى الفراش وأخلد إلى النوم؟ يُجيبني عقلي أنني ذات يوم سأنام للأبد، لذا قررتُ أنه بغض النظر عن مدى تعبي وإرهاقي، سأتخلى دائما عن ساعة أخرى من نومي لأحيا أطول". أليس غريبا بعد كل ذلك أن نحرم أنفسنا من النوم لإظهار نوع من الاستقلال لذواتنا!

 

إنْ تفكَّرنا قليلا، فسنجد أن التأجيل الانتقامي لوقت النوم يبدو غير منطقي ما دام الجاني وضحية الانتقام هما الشخص ذاته، لكنَّ التفسير واضح إلى حدٍّ ما: يحدث هذا عندما يكون لدى الشخص بعض المقاومة العميقة لفكرة أن تُفرَض عليه تصرفات معينة في حياته الشخصية، مثل وقت الذهاب إلى الفراش، وذلك لأنه على الأرجح يستاء أيضا من أن يُملِي عليه أحد ما يجب القيام به في أجزاء أخرى من حياته، فيقاوم المرء كل ذلك بممارسة سلطته الخاصة والبقاء مستيقظا.

ترتبط سيطرتنا على حياتنا -أو حتى وهم السيطرة عليها- ارتباطا عميقا بتوازننا العاطفي، فوفقا لدراسة أُجريت عام 2019 في مجلة "إيموشن" (Emotion) (وهي مجلة علمية أميركية تنشر مقالات تتعلَّق بدراسات العاطفة)، فإن إدراكنا لفقدان السيطرة على محيطنا يتسبَّب في تراجع مشاعرنا الإيجابية، لذا نتعمَّد ممارسة المزيد من السيطرة في محاولة للتقليل من وطأة المشاعر السلبية التي تجتاحنا.

 

ولأن النوم شيء يمكننا التحكُّم فيه مباشرة، فربما ننتهك قواعد الفطرة السليمة بشأن الذهاب إلى الفراش، لأننا نسعى دون وعي منا للاستقرار العاطفي بداخلنا، ونستمر في هذه الدوامة حتى يحلّ الصباح، وتملأ المنبهات اللعينة نفوسنا بحس الكراهية والندم.

 

عادة ما تكون نصائح النوم مثل؛ لا بد أن تتعامل مع أي مشكلات صحية جسدية أو نفسية قبل ذهابك إلى النوم، ولا تُهمل النوم لأنك مشغول، وحاول تخصيص ساعات أطول للنوم، جميعها واضحة وبسيطة للغاية، وقد تبدو منطقية، لكنَّها مع الأسف لا تعالج جذور المشكلة. لذا إليك أمرين عليك مراعاتهما لتحسين سلوكيات النوم المُهمَلة وتسهيلها.

 

تُشير حقيقة أننا لا ندرك حتى عبثية التأجيل الانتقامي لوقت النوم ومحاولة تصحيحه إلى أن الصراع كله خاضع لنظرية عالم النفس والأستاذ الفخري بجامعة برنستون بالولايات المتحدة دانيال كانيمان، تنص النظرية على وجود نظامين للدماغ؛ النظام 1، وهو دماغنا التلقائي التفاعلي، والنظام 2، دماغنا وراء المعرفي الذي نستخدمه للتفكير في قراراتنا وتحليلها وإدارتها بوعي، ولحل المشكلة، علينا نقل قرار وقت النوم من النظام 1 إلى النظام 2.

 

مجرد التفكير في المشكلة والاعتراف بالطرق التي قد تُفسِد نومك سيمنحك بداية قوية، خاصة إن كنت قد فشلتَ في حل هذه المشكلة سابقا. ابدأ باتخاذ بعض القرارات مثل تحديد موعد واقعي ومعقول للنوم، وقبل نصف ساعة من هذا الموعد أخبِر نفسك أنك المتحكِّم في جدول أعمالك، وأنت مَن اخترت الذهاب إلى الفراش في هذا الوقت. قد يبدو لك أن هذا الحديث مع النفس طفوليا، لكنّه طريقة فعّالة للتعامل مع الموقف بنضج من خلال تهدئة الأصوات الصغيرة الثائرة بداخلك.

 

في الخطوة التالية، ضع قائمة بالمجالات الأخرى في حياتك التي بإمكانك أن تمارس عليها سيطرة أكثر وعيا. اسأل نفسك إن كنت تُطبِّق هذا السلوك "الانتقامي" عند تناولك الوجبات السريعة، أو عند التأخُّر على مواعيدك، أو إنفاق المال بلا وعي منك. قد تكون هذه فرصة جيدة لتحقيق السلام مع نفسك بطريقة جديدة كليا.

 

حتى إذا أدركت أن طريقة النوم الصحيحة تساعدك على الشعور بالسعادة، فقد تستمر في رفضها باعتبارها شيئا مفيدا فقط، أي إنها مجرد استثمار ضروري ولكنّه مُمل، يشبه الأمر تناول الخضراوات مثلا، أو ادخار المال في حساب تقاعدي، لكن هذا الرفض يُضيِّع عليك فرصة لفهم النوم على أنه مصدر جوهري للحكمة والسعادة، وهو ما فعله المعلمون الروحيون منذ آلاف السنين.

 

نجد على سبيل المثال أن حكماء الهندوس القدامى ركَّزوا على الوضوح الفريد الذي يمكن أن يجلبه النوم، فقد توصَّل المعلم الهندوسي رامانا ماهارشي في أوائل القرن العشرين إلى أن النوم هو "الحالة النقية" التي نكون فيها بوعينا كاملا، على عكس "الجهل التام الذي يغمرنا ونحن مستيقظون".

 

نكتشف أن تعاليم مثل هذه، وهي منتشرة في ثقافات عدة، تُناقض فهمنا التقليدي للوعي، الذي يفترض أننا واعون حينما نكون مستيقظين، لا أثناء نومنا. لتطبيق هذه الرؤية غير التقليدية، حاوِل أن تُخصِّص بضع دقائق للتفكير في مشكلات الحياة التي تريد حلّها قبل الخلود إلى النوم، ثم اذهب إلى الفراش، واشهد بعد ذلك على نتائج هذه الحالة الصافية من اللا وعي. حينما تستيقظ، ابدأ فورا بتدوين ما تعلَّمته أثناء نومك عن هذه المشكلات (الأفكار التي تجول بدماغك عنها الآن). احتفظ بدفتر يوميات لمتابعة تقدُّمك، ولاحظ مقدار ما تتعلَّمه أثناء النوم.

حسنا، ألن يكون من المُغري حقا تطبيق هذه الأفكار بطريقة عملية في محاولة لحل مشكلات النوم التي تزعج الكثير منا؟ في ضوء جميع الدراسات المذكورة سابقا، التي توضِّح الفوائد المعرفية والعاطفية التي ستعود علينا من النوم المناسب، قد تستهويك فكرة أن البحث الحديث يلحق ببساطة بالحكمة الروحية القديمة، ويُعَدُّ هذا حقيقيا إلى حدٍّ كبير. لكن عليك الانتباه من تفويت المغزى الرئيسي من كل ذلك؛ وهو أن النوم فرصة جيدة للنضج، ووسيلة لحل المشكلات غير المتعلِّقة بالنوم، وللارتقاء روحيا.

 

ابتداء من الليلة، تَعامَل مع وقت النوم مثل الليتورجيا (الطقوس الدينية) التي تتخذ فيها قرارا بالسعي نحو مزيد من العمق الفلسفي والوضوح حول الحياة، وربما تتطلَّع ذات يوم إلى مغامرتك الليلية (السهر حتى وقت متأخر)، لكن سرعان ما ستجد نفسك تستسلم إلى النوم في الوقت المحدَّد.

————————————————————————————————————————-

هذا الموضوع مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : مواقع إلكترونية