شعار قسم ميدان

كثير من المعاناة قليل من المساعدة.. المرضى النفسيون يواجهون تداعيات الوصم الاجتماعي

تشكل الاضطرابات النفسية تحديا كبيرا للمُصاب بها، لكنه مع الوقت يتعلّم كيف يستطيع التعامل معها ويديرها بشكل لا يؤثر سلبا أو يُعرقل سير حياته بشكل كبير، إلا أن الوصم المجتمعي الذي ينال المصابين بهذا النوع من الاضطرابات يجعل المرور بهذا التحدي أكثر صعوبة، بل ويضغط على المريض ليؤخر العلاج أو لا يُفكر فيه من الأساس، خوفا من الوقوع تحت مقصلة الاتهامات والتصنيفات القاسية.

 

صابر.ع، شاب ثلاثيني، كان يُعاني من حالة اكتئاب شديد، تقول نيرمين.ع، أخته: "أخي كان في حالة أكثر من سيئة، الاكتئاب جعله أشبه بميت في جسد يتحرك، نكاد لا نراه وهو يتحرك أمامنا، كان فاقد الرغبة حتى في أن يقول لأحد منّا [صباح الخير]، لا يريد أن يفعل شيئا، لا يريد أن يرى أحدا أو يتحدث مع أحد، كان يحتاج إلى علاج، لم يكن لديّ ولا لدى أخواتي شك في هذا، لكن أمي كانت ترفض حتى الاعتراف بأن صابر لديه مُشكلة، تنهرنا بانفعال، نخشى عليها من تبعاته، تقول: [هل تتهمون أخاكم بالجنون؟!]. هو الابن الوحيد لأمي، وله مكانة خاصة في قلبها، تراه السند والحماية لها ولبناتها الثلاث، كل هذا يجعل من الصعب عليها الاعتراف حتى بأن لديه مشكلة".

 

تحدثت نيرمين وأخواتها إلى والدتهم، أخبرنها أنها إن كانت تحب أخاهن حقا فعليها أن تُساعد في علاجه، ليستطيع المُضي قُدما في حياته، صارحتهم الأم بخوفها البالغ من نظرة الناس، ومن احتمالية وقوف فكرة العلاج عقبة في حياته تمنعه من العمل أو الزواج بشكل طبيعي، قالت لهن: "سيقول الناس [مجنون]، ويرفضون تزويجه بناتهم، ولن يجد فرصة عمل بسهولة".

رضخت الأم بعد كثير من محاولات الإقناع، وكانت هي وحدها من تستطيع دفع الأخ للذهاب إلى الطبيب النفسي، تقول نيرمين: "لا أريد أن أبالغ، لكن تأثير العلاج كان أشبه بالسحر حقيقةً، شخصيته اختلفت تماما، حرفيا أصبح حيّا بعد حالة الموات الطويلة التي مرّ بها. تؤنب أمي نفسها أن أفكارها كانت سببا في عدم مساعدته، ونحاول حتى اللحظة إقناعها بألا تُثقل على نفسها فقد فعلت ما ينبغي فعله على أية حال، حتى وإن كان هذا متأخرا".

 

يعتبر الاكتئاب أكثر من مجرد نوبة من الحالة المزاجية السيئة التي يُمكنك تغييرها بممارسة نشاط ما أو هواية تُحبها، الاكتئاب ببساطة هو أمر لا يمكنك "الخروج" منه بسهولة، يؤثر على الطريقة التي تشعر وتفكر وتتصرف بها. بسبب الاكتئاب، قد تواجهك صعوبة في القيام بالأنشطة اليومية العادية، وأحيانا قد تشعر بفقدان الرغبة في الحياة من الأساس. ربما يتطلب الاكتئاب العلاج على المدى الطويل، لكن الخبر الجيد هنا أن معظم الأشخاص المصابين بالاكتئاب يتحسنون بالأدوية أو العلاج النفسي السلوكي أو كليهما.(1)

 

وفقا لجمعية الطب النفسي الأميركية، فإن أكثر من نصف المصابين بمرض نفسي لا يتلقون المساعدة في علاج اضطراباتهم، لأن الكثيرين يتجنبون أو يؤخرون طلب العلاج بسبب مخاوف بشأن معاملتهم بشكل مختلف أو مخاوف من فقدان وظائفهم وسبل عيشهم، وذلك لأن وصمة العار والتحيز والتمييز ضد الأشخاص المصابين بمرض عقلي لا تزال تُمثل مشكلة كبيرة.(2)

 

تُظهر مراجعةٌ بحثية حول وصم المرض العقلي أنه في حين أن الجمهور قد يقبل الطبيعة الطبية أو الجينية لاضطراب الصحة العقلية والحاجة إلى العلاج، إلا أنه لا يزال لدى العديد من الأشخاص نظرة سلبية عن المصابين بمرض عقلي(3)، يُشير اصطلاح "وصم المرضى النفسيين" إلى الموقف السلبي، بما في ذلك الشعور بالخزي الداخلي، الذي يشعر به الأشخاص المصابون بمرض نفسي حول حالتهم الخاصة وكيف يراها الآخرون.

 

نفسي

"هل تعتقدين أن العلاج سحري؟ العلاجات النفسية تدفع للجنون، تُغير حالتك النفسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، قد تجدين نفسكِ تضحكين بلا سبب ولا تستطيعين السيطرة على نفسكِ، ثم كيف تأمنين أن تذهبي وتتحدثي عن أدق أسرارك مع شخص لا تعرفينه جيدا؟! ثم ماذا سنقول لزوجكِ؟! هو يُسيء مُعاملتكِ دون شيء، كيف سيصبح الوضع عندما يعرف أنكِ تُعالَجين نفسي؟!ا"، عشرات العثرات وضعتها والدة هبة.س، المرأة الثلاثينية، في وجهها، فقط حينما صرحت برغبتها في الذهاب لطبيب نفسي.

 

تُردد هبة لنفسها أن كلام والدتها به بعض المنطق، خاصة فيما يتعلق بزوجها، الذي رُبما يُخبر عائلته بأمر بدء علاجها النفسي، تُحاول هبة تخيل ردة فعل والدة زوجها حينما تعرف هذا، تنفر من الفكرة فورا، تُخبر نفسها أن الأمر مُعقد وبه الكثير من الجوانب التي يجب مُراعاتها، تقول لميدان: "لكني لست بخير، أنا دوما بالفعل بين طرفي نقيض، لا أحتاج إلى الأدوية لكي تفعل بي هذا كما تُخبرني أمي، أنا دوما بين حالتي حزن عميق لا أعرف سببه، يُفقدني القدرة حتى على الذهاب لعملي وممارسة أنشطتي ومهامي المُعتادة، وحالة من فرط النشاط والطاقة والمشاعر الإيجابية، لا أجد توازنا في حياتي، ولا أعرف كيف أعيش أو أتعامل مع الحالتين السابقتين".

 

كثرت الخلافات بين هبة وزوجها، وازدادت مشكلات العمل، وأصبح التعامل مع طفليها اللذين لم يتجاوز عمر أكبرهما خمسة أعوام بعدُ أكثر صعوبة. كل هذه الضغوط تدفع هبة دوما للبحث عن حل، هي لا تعرف طريقة مُناسبة للتعامل مع كل هذا، فقط لأنها دوما ما تكون أسيرة لحالة نفسية متطرفة لا تعرف كيف تخرج منها.

 

شجعتها صديقتها أن تذهب إلى الطبيب النفسي دون أن تُخبر أحدا، وذهبت معها، وشُخِّصت بعد عدّة جلسات بأنها مُصابة باضطراب ثنائي القطب، لكنها لم تقو على الاستمرار في العلاج، كان يؤذيها الشعور بأن لديها سرا كبيرا تُخفيه حتى عن أمها، كما أنها خشيت من تأثير الأدوية إلى الحد الذي جعلها لم تبدأ حتى في تجربتها من الأساس.

الاضطراب ثنائي القطب، المعروف في السابق باسم الاكتئاب الهوسي، هو حالة تتأرجح خلالها المشاعر بشدة بين الاكتئاب والهوس. هناك ثلاثة أنواع من الاضطراب ثنائي القطب، تتضمن جميعها تغييرات واضحة في المزاج والطاقة ومستويات النشاط. تتراوح هذه الحالات المزاجية من فترات السلوك المبتهج، إلى فترات الكآبة أو الحزن أو اللامبالاة أو اليأس.(5)

 

بالنسبة إلى حالة هبة، فإن العلاج بالفعل سيساعدها على ضبط مزاجها والتصرف بدرجة أكبر من الاتزان، ومن ثم ستواجه استقرارا في حياتها، لكن مع الأسف فإن الخوف من الوصم يمنعها من اغتنام هذه الفرصة، شعور هبة بأنها تخفي شيئا ما أو أنها أقل من محيطها يدفعها للتخفي، وربما تفويت فرصة أفضل للتعايش مع المرض بسلام. كانت دراسة قد أُجريت عام 2016 عن وصمة العار تجاه المرض العقلي قد خلصت إلى أنه "لا يوجد بلد أو مجتمع أو ثقافة -في العالم كله- يتمتع فيها الأشخاص المصابون بمرض عقلي بالقيمة المجتمعية نفسها التي يتمتع بها الأشخاص غير المصابين بمرض عقلي".(4)

 

"أشعر كأنني أفعل شيئا مشينا، شيئا لا ينبغي أن يعرف أحد عنه، أخفي أي أثر يمكن أن يشي بسرّي، سري هو أنني أُعالَج نفسيا، أخفي أدويتي بحيث لا تصل لها يد، أخفي روشتات الطبيب، وأتحجج بمئة حجة لكي أتمكن من الذهاب إليه"، هكذا بدأت الفتاة الثلاثينية سارة.م، اسم مُستعار، حديثها مع ميدان.

 

تحيا سارة مع أختها الكبرى بعد وفاة والديهما، لم تستطع بعد تخرجها في الجامعة أن تحصل على فرصة عمل، ولم تقابل بعدُ الشخص المناسب للزواج، وجدت سارة نفسها تُعاني من أعراض واضحة للوسواس القهري، تقول عن هذا: "بدأ الأمر بسيطا، ثم بدأ يتطور، أشعر أنني أفقد قدرتي على السيطرة على حياتي، قد أمكث في الحمام أكثر من ساعة أُكرر -فقط- غسيل يدي، لا أرغب في فعل هذا، أريد أن أمنع نفسي، لكنني لا أستطيع، لست سعيدة، أحيانا أتهم نفسي بالجنون، قررت أنني لن أمكث في هذا الجحيم".

حاولت سارة أن تُحدث أختها في أمر الذهاب للطبيب، لكنها أخبرتها بأن هذا من شأنه أن يقضي على أي أمل لها في الزواج، فَمَن الشخص الذي يقبل الزواج بفتاة كانت تُعالَج نفسيا؟! صديقة مقربة لسارة نصحتها أن تُعالج سرا، حتى لا يُصدر عليها أحد أحكاما قاسية. بالفعل، بدأت سارة في العلاج، واحتفظت بالأمر سرا، بمقدار ما يُسعدها تحسن حالتها بعد سنوات من العلاج، لكن يؤلمها أنها تشعر بالخوف والقلق دوما من اكتشاف سرها".

 

يعاني المصابون باضطراب الوسواس القهري (OCD) من أفكار متكررة غير مرغوب فيها أو أفكار أو هواجس تجعلهم يشعرون بأنهم مدفوعون لفعل شيء ما بشكل متكرر، رغما عنهم وبشكل قهري، يمكن أن تتداخل السلوكيات القهرية المتكررة، مثل غسل اليدين أو فحص الأشياء أو التنظيف، بشكل كبير مع الأنشطة اليومية للشخص والتفاعلات الاجتماعية. يتطلب تشخيص الوسواس القهري وجود وساوس و/أو إكراهات تستغرق وقتا طويلا، أكثر من ساعة في اليوم، وتعرقل سير الحياة أو الأداء الاجتماعي بشكل طبيعي.(6)

 

الأمر الجدير بالانتباه أن السينما والدراما، وبدلا من أن تساعد في توعية الناس بالمرض النفسي وأهمية تقبل المرضى وتشجيعهم على طلب المساعدة والعلاج، فإنها أسهمت في وصمهم مجتمعيا وجعل حياتهم أكثر صعوبة. في هذا السياق، تشرح دراسة تحليلية ميدانية تحت عنوان "الصورة النمطية للمرض النفسي بالدراما التلفزيونية وعلاقتها بالوصم الدرامي والاجتماعي لدى الشباب المصري"، صادرة عن كلية الإعلام-جامعة الأزهر بمصر، دور الدراما التلفزيونية في وصم المرض النفسي.

 

خَلُصت الدراسة إلى أن بعض الأعمال الدرامية قد أسهمت على مدى سنوات طويلة في إعطاء صورة غير واقعية عن الطب النفسي بشكل عام، فصورة من يعانون من مشكلات الصحة العقلية تُعدّ مادة ثرية لكتّاب الدراما، ما أدى إلى اختلاط الحقيقة بالخيال والواقع بالوهم في ذهن المتلقي.

فيلم "split"

عملت الدراسة على اختبار العلاقة بين مستوى التعرّض للدراما التلفزيونية المعنية بالمرض النفسي، ومستوى الوصم الدرامي والوصم الاجتماعي للمرض النفسي لدى أفراد العينة. أشارت النتائج إلى وجود علاقة ارتباطية ذات دلالة إحصائية بين کثافة التعرّض للدراما التليفزيونية المعنية بالمرض النفسي ومستوى الوصم الدرامي والاجتماعي لهذا المرض.(7)

 

فكرة أن من يُعانون من مشكلات الصحة العقلية هي مادة ثرية لكُتاب الدراما، جعلت الكتاب يُعملون خيالهم في تقديم صورة المرض النفسي، ومن أجل زيادة الحبكة والتشويق الدرامي، تُقدَّم صورة مغلوطة ومبالغ فيها عن المرض، ويتم تجاهل التوعية بأعراضه الحقيقية وكيفية التعامل معه.

 

نالت بعض الاضطرابات النفسية، مثل "الفصام"، شهرة واسعة بسبب السينما، لكن من ناحية أخرى، كانت الصورة التي نقلتها عن المعرض تفتقر إلى أدنى درجة من الدقة. في الفيلم الشهير "بئر الحرمان" تلعب سعاد حسني دور فتاة مصابة بالفصام، تعيش حياتين معا، بالنهار هي "ناهد"، الفتاة اللطيفة الهادئة، وفي الليل هي "ميرفت"، الفتاة اللعوب، خلال الفيلم تتعقد حكايتها ليكتشف الطبيب المعالج، والذي يؤدي دوره الفنان محمود المليجي، أن ما تعاني منه يتعلق بعقدة طفولة تركتها في بئر من الحرمان العاطفي، حيث اكتشف والدها خيانة أمها، ما جعله قاسيا بشدة على بطلة القصة، وهو ما دفعها للانهيار بهذا الشكل.

 

"بئر الحرمان" هو واحد من أشهر أفلام الدراما النفسية العربية، على الرغم من ذلك فإن ما تحدث عنه الفيلم ليس اضطراب "الفصام"، وإنما "اضطراب الهوية التفارقي"(8)، والذي كان قديما يُعرف باسم ازدواج أو تعدد الشخصيات، وهو أمر مختلف. المفارقة في هذه الحالة هو أن فيلم بئر الحرمان مأخوذ عن رواية لإحسان عبد القدوس، لكن الأخير كان دقيقا من الناحية العلمية أثناء كتابته للرواية، فقد كان تشخيص ناهد في الرواية هو "اضطراب ازدواج الشخصية"، أما مخرج الفيلم وفريق العمل فوجدوا أن تبديل "ازدواج الشخصية" إلى "الفصام" سيعطي الفيلم درجة كبيرة من الإثارة، وهو ما سيزيد من إقبال الجمهور، ومن ثم نجاح الفيلم وأرباحه.

"بئر الحرمان" هو واحد من أشهر أفلام الدراما النفسية العربية

من ناحية أخرى، قدّم الفيلم المصري "خلي بالك من عقلك" -بطولة شيريهان وعادل إمام، الصادر عام 1985- فكرة الوصم الاجتماعي لمن يُعانون من مشكلات الصحة العقلية، فقدّم الفيلم قصة البطلة الشابة التي عانت في وقت من حياتها من مشكلة عقلية اضطرتها لدخول مصحة نفسية، ليعرقل المجتمع بعد خروجها من المصحة استكمالها لحياتها بشكل طبيعي بوصفها زوجة، فمُجرد معرفة الجيران وأهل الزوج أن الزوجة الشابة كانت تُعاني من أزمة نفسية، تعرضت للوصم والنبذ.(9)

 

أظهرت دراسة نُشرت في أبريل/نيسان 2020، أُجريت على الفيلم الشهير "Joker" -الصادر عام 2019- والذي يُصور حياة شخص مُصاب بمرض عقلي جعله عنيفا للغاية، أن مشاهدة الفيلم ارتبطت بمستويات أعلى من التحيز ضد المصابين بأمراض عقلية. بالإضافة إلى ذلك، يقترح مؤلفو الدراسة أن فيلم "الجوكر" قد يؤدي إلى تفاقم وصمة العار الذاتية لأولئك الذين يعانون من مرض عقلي، ما يؤدي إلى تأخرهم في طلب المساعدة.(10)

 

"منذ بدأنا نعي، أنا وإخوتي، ونحن نعرف جيدا أن والدي لديه مشكلة ما، لا نستطيع تحديدها، فهو يُعاني من التهيؤات، يسمع أصواتا ويرى أشخاصا غير موجودين واقعيا. الآن أصبحنا كبارا بما يكفي لنتخذ خطوة لمساعدته، فحالته تطورت على مدى السنوات الماضية نحو الأسوأ بدرجة كبيرة، أصبح يُثير الشجارات مع الجيران، للدرجة التي جعلته يضرب ذات مرة رأس أحدهم لأنه اعتقد أنه قال عنه شيئا".

 

هكذا بدأت الفتاة الثلاثينية مها.س، حديثها مع ميدان، بدأت مها وإخوتها في التردد على المستشفيات الحكومية النفسية، أخبرهم الأطباء أن حالة والدهم هي درجة مُتقدمة من الفصام وتحتاج إلى الحجز بالمستشفى، وأن عليهم اللجوء إلى المصحات النفسية الخاصة.

في الوقت الذي كانت مها وإخوتها يُحاولون تدبر أمرهم بشأن النفقات، فوجئوا بزيارة غاضبة من أعمامهم، الذين يقطنون بإحدى محافظات صعيد مصر، يتهمونهم بأنهم يريدون التخلص من والدهم وإلقاءه في مصحة نفسية، ويُخبرونهم أنهم لو كانوا مُستعدين أن يُقال أن والدهم مجنون، فَهُم -أي الأعمام- غير مُستعدين أن يُقال أن أخاهم كذلك. تقول مها: "وجدنا عمي الأكبر يقول إنه سيأخذ أبي معه ولن يجعلنا نراه ثانية إذا كُنّا قد ضقنا به، حاولنا إفهامه أي شيء عن حالة أبي، لكنه رفض حتى الاستماع، رفضنا أن يأخذوا أبي معهم، لكن عمي هددنا أنه لو علم من عمي الآخر الذي يُقيم في الطابق الأسفل لنا أن أبي خرج من منزله ليذهب إلى مصحة فسوف يُنفذ تهديده ولن يجعلنا نراه ثانية".

 

الفصام هو اضطراب عقلي شديد يُفسر خلاله الأشخاصُ الواقعَ بشكل غير طبيعي، قد ينتج عنه مجموعة من الهلاوس والأوهام، بالإضافة إلى الاضطراب البالغ في التفكير والسلوك وهو ما يعرقل أداء الوظائف والمهام اليومية. يحتاج المصابون بالفصام غالبا إلى علاج مدى الحياة. ويمكن للعلاج المبكر أن يساعد في السيطرة على المرض قبل ظهور الأعراض الخطيرة.(11)

 

فيما يلي بعض المفاهيم الخاطئة الشائعة لدى الناس حول المرض النفسي، والتي نشرها موقع التحالف الوطني الأميركي للأمراض العقلية:(12)

 

  • الخرافة: إصابتك بمرض عقلي يعني أنك "مجنون"
  • الحقيقة: الإصابة بمرض عقلي لا يعني أنك "مجنون"، هذا يعني أنك ضعيف، وأن لديك مرضا له أعراض صعبة، مثل شخص مُصاب بمرض ما كمرض السكري. في حين أن المرض العقلي قد يُغير تفكيرك أو حالتك المزاجية أو يُحرف إدراكك للواقع، إلا أن هذا لا يعني أنك "مجنون"، هذا يعني أنك إنسان ومعرض للمرض، مثل أي شخص آخر.

  • الخرافة: الأشخاص المصابون بمرض عقلي عنيفون وخطيرون
  • الحقيقة: عندما تحدث حالة عنف في مكان ما، فإن وسائل الإعلام تُسرع في الحكم على المشتبه بهم ووصفهم بأنهم "مضطربون عقليا" أو "مرضى عقليون". لكن الحقيقة هي أن المصابين بمرض عقلي هم أكثر عرضة لأن يكونوا ضحايا للعنف من أن يكونوا هم الجناة. لا يوجد سبب للخوف من شخص مصاب بمرض عقلي فقط بسبب تشخيصه.

 

  • الخرافة: الأدوية النفسية لها تأثيرات سيئة
  • الحقيقة: يميل الناس إلى الاعتقاد بأن الطب النفسي ضار، أو يعتقدون أن الأدوية النفسية هي -ببساطة- كالمُهدئات أو العقاقير التي تدفع للشعور بالسعادة الزائفة، فتصبح ببساطة مخرجا سهلا لأولئك الذين يعانون من مشكلة ما لتجنب التعامل مع مشكلاتهم. هذا ببساطة ليس صحيحا.

 

في المرض العقلي، مثل أي حالة طبية أو مرض آخر، يكون تناول الدواء ضروريا للشفاء، تماما كما هو الحال بالنسبة إلى مرضى السكر الذين يتناولون الأنسولين. وأكثر من ذلك، بالنسبة إلى بعض الأفراد المصابين بمرض عقلي، قد يكون الدواء ضروريا للبقاء على قيد الحياة. بالنسبة إلى الآخرين، مثل أولئك الذين يعانون من الاكتئاب الخفيف إلى المتوسط ​​أو القلق أو اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه، يمكن أن تساعد الأدوية في تخفيف الأعراض حتى يتمكنوا من الحياة بشكل طبيعي.

 

  • الخرافة: طلب المساعدة المتخصصة سيؤدي إلى النبذ، فلا يجب طلبها
  • الحقيقة: لا تدع تصورات الآخرين تخيفك من الحصول على المساعدة التي تحتاج إليها. قد يُدمر المرض حياتك، قد تدفع بعض الاضطرابات النفسية أصحابها للانتحار. اطلب المساعدة المتخصصة واحصل عليها، لا تكتم ألمك خوفا من أحكام الآخرين وقسوتهم.

 

  • الخرافة: المرض النفسي هو نقص في التدين
  • الحقيقة: أظهرت الأبحاث أن صدمات الحياة والصفات الوراثية والبيولوجية هي المسؤولة عن المرض العقلي، وليس تقصير الشخص في الجانب الديني أو الروحي من حياته.

 

  • الخرافة: الأشخاص المصابون بمرض عقلي لديهم أمل ضئيل بالشفاء
  • الحقيقة: أظهرت الأبحاث أن معظم الأشخاص الذين يتلقون العلاج يتحسنون بالفعل، بما في ذلك أولئك الذين يعانون من حالات خطيرة، مثل الاضطراب ثنائي القطب والفصام.(13)

 

جورج.ع، اسم مُستعار، طبيب أمراض نفسية، يقول لميدان: "أسوأ ما قد يتعرض له إنسان أن يسلبه الآخرون حقه في التغلب على مرضه بأن يُعالَج، أن يلجأ إلى مُتخصص يُساعده ويوجهه، النتيجة أنك تجد شخصا يُعاني ويتألم وقد تُدمر حياته أو قد يصل الأمر إلى انتحاره، في حين أن الآخرين الذين لم يجربوا أو يختبروا ألمه هذا من قبل، يحكمون عليه ويصمونه إذا قرر العلاج. هذه قسوة بالغة، لن تتغير إلا إذا زاد الوعي، وعرف الناس أن المرض العقلي هو مجرد مرض مثل الأمراض الجسدية التي يُعانون منها، ويحتاج إلى علاج وأدوية لكي يتغلب عليه المريض".

 

يُضيف جورج قائلا: "أنا أتعامل مع مرضى يُخبرونني أنهم يخافون من الإتيان إليّ، يكتمون آلامهم بين ضلوعهم حتى لا تزيد إذا علم بها الآخرون، رأيت أشخاصا مُصابون بالفصام لا يعترفون بهلاوسهم السمعية والبصرية حتى لأنفسهم إلا بعد أن تخرج عن السيطرة، ويكون لا حل لها سوى حجزهم في المصحات النفسية، الخاص منها كُلفته باهظة، والحكومي المُدعم لا مكان متوافر به -في الأغلب- لحالات جديدة، فلا يجدون لهم مكانا في المستشفيات الحكومية، على الأرجح لن تسع هؤلاء المرضى حتى بيوتهم بعد وصول الاضطراب لمراحل مُتقدّمة، فيكون الشارع هو مكان وجودهم مع الأسف".

 

يمكن أن يُسهم الوصم والتمييز تجاه المُصابين بالأمراض العقلية في تفاقم الأعراض وتقليل احتمالية تلقي العلاج. وجدت مراجعة لمجموعة من الدراسات أن وصمة العار الذاتية تؤدي إلى آثار سلبية على الشفاء بين الأشخاص الذين شُخِّصت إصابتهم بأمراض عقلية حادة. يمكن أن تشمل التأثيرات السلبية أيضا تراجع الأمل، وتدني احترام الذات، وزيادة الأعراض النفسية، وصعوبات في العلاقات الاجتماعية، وانخفاض احتمالية المواظبة على العلاج، والمزيد من الصعوبات في العمل.(14)

————————————————————————————————-

المصادر

  1. Depression (major depressive disorder)
  2. Stigma, Prejudice and Discrimination Against People with Mental Illness
  3. The health crisis of mental health stigma
  4. The stigma of mental disorders
  5. Bipolar Disorder
  6. What Is Obsessive-Compulsive Disorder?
  7. الصورة النمطية للمرض النفسي بالدراما التلفزيونية و علاقتها بالوصم الدرامي والاجتماعي لدى الشباب المصري دراسة تحليلية ميدانية
  8. Split".. لماذا تخطئ السينما في تقديم المرض العقلي؟
  9. خلي بالك من عقلك
  10.  Association of Viewing the Films Joker or Terminator
  11. Schizophrenia
  12.  Six Myths and Facts about Mental Illness
  13. Myths-and-Stereotypes-about-Those-with-MH-Disorders
  14. The impact of illness identity on recovery from severe mental illness
المصدر : الجزيرة