شعار قسم ميدان

كيف تخرّب الرأسمالية البحث العلمي؟

midan -267-1-main

لقد أُنشئت الجامعات الأولى قبل ظهور الرأسمالية بقرون. في بعض الأحيان، قاومت هذه الصروح ضغوط وإملاءات السوق الرأسمالية، فسعت وراء الحقيقة والمعرفة عوضا عن الربح. لكن الرأسمالية تلتهم في نهاية المطاف كل ما يقف في طريقها، ومع اتساع نطاق سيطرتها، فإنه ليس من المستغرب أن الجامعة الحديثة اليوم تخضع بصورة متزايدة لما تسميه إيلين ميكسين وود "متطلبات السوق الرأسمالية، أي المنافسة والتراكم وتوسيع الربحية وزيادة إنتاجية العمل".

      

في الأوساط الأكاديمية، يتجلى ذلك بطرق جلية، فيُجبر الأكاديميون على نشر الأبحاث إذا لم يريدوا أن يخسروا وظائفهم، وأن يحصلوا على التمويل من أجل البحث إذا لم يريدوا أن يجوعوا!

  

فبدون الاستثمار العام، تضطر الجامعات إلى اللعب وفق قواعد القطاع الخاص، أي العمل كأنها شركات تتوخى الربح. وبالفعل، فالشّركات التجارية، بالطبع، تدور أعمالها حول تحقيق الربح الأقصى والذي يعتمد بدوره على التقييم الدقيق والمستمر للمدخلات والمخرجات.

     undefined

       

نتيجة لذلك، وفقا للباحثين مارك أ. إدواردز وسيدهارتا روي في بحثهم "البحث الأكاديمي في القرن الحادي والعشرين: الحفاظ على النزاهة العلمية في مناخ من الحوافز الضارة والتنافس المفرط"، تم فرض نظام كمّي جديد لقياس أداء البحث الأكاديمي، وهو يتحكم بكل ما يفعله الباحثون العلميون تقريبا، وله تأثير (سلبي) ملحوظ على ممارسات العمل. تتضمن هذه المقاييس والمعايير "عدد المنشورات، والاستشهادات، وعدد المنشورات-الاستشهادات المشتركة (على سبيل المثال مؤشر إتش)[1]، ومعامل التأثير[2]، ومجموع دولارات البحث، والبراءات الإجمالية".

   

يلاحظ إدواردز وروي أن "هذه المقاييس الكمية تُهيمن الآن على اتخاذ القرارات في مجال التوظيف والترقية والتثبيت والجوائز والتمويل" في الأوساط الأكاديمية. ونتيجة لذلك، فإن العلماء الأكاديميين هم مدفوعون بشكل متزايد بالرغبة المحمومة للحصول على التمويل من أجل أبحاثهم ونشرها وضمان الاستشهاد بها. كما لاحظا أنه مما تم قياسه من خلال إحصاء كمية الاستشهادات، يمكن الملاحظة أن حجم الإنتاج العلمي قد تضاعف كل ٩ سنوات منذ الحرب العالمية الثانية".

   

لكن الكمية الهائلة هذه لم تُترجم إلى زيادة في الجودة، بل العكس. لقد تتبع إدواردز وروي تأثير مقاييس الأداء الكمي على جودة البحث العلمي ووجدا أن له تأثيرا ضارا لأنه كنتيجة لنظام المكافآت الذي يشجع زيادة حجم النشر، أصبحت الدراسات العلمية أكثر ابتسارا وأقل شمولية، وأضحت مليئة "بالمنهجيات الرديئة فيما زادت نسبة الاكتشاف الخاطئة" التي تحتويها. كما أنه استجابة للتركيز المتزايد على كمية الاستشهادات كمقياس في التقييمات المهنية، أصبحت قوائم المراجع منتفخة لتلبية الاحتياجات المهنية، في حين أن هناك الآن عددا متزايدا من المراجعين النظراء الذين يطلبون أن يتم الاستشهاد بعملهم أيضا كشرط لمراجعة البحث ونشره!

   

وفي الوقت نفسه، فإن النظام الذي يكافئ الباحثين بناء على نجاحهم في الحصول على التمويل من المنح بالمزيد من الفرص المهنية يؤدي إلى إضاعة هؤلاء الباحثين الكثير من الوقت في التقديم للحصول على المنح والتركيز فقط على النتائج الإيجابية لأبحاثهم لجذب انتباه الممولين. وبالمثل، عندما تقوم الجامعات بمكافأة أقسامها بناء على مرتبتها في التصنيفات الدورية، فهذا يحفّز الإدارات على "الهندسة العكسية، والتلاعب، والغش" في سبيل تحقيق مرتبات عالية في هذه التصنيفات، مما يؤدي إلى تآكل نزاهة المؤسسات العلمية نفسها.

    undefined

   

إن هذه العواقب البنيوية لمتطلبات السوق على العلوم الأكاديمية قد تكون كارثية. كما كتب إدواردز وروي: "إن هذا المزيج بين الحوافز الضارة وانخفاض التمويل يزيد من الضغوط التي يمكن أن تؤدي بدورها إلى سلوك غير أخلاقي. وإذا أصبح عدد كبير من العلماء غير جدير بالثقة، قد تحدث نقطة تحول حيث تصبح المؤسسة العلمية نفسها فاسدة بطبيعتها، وتُفقد الثقة العامة، مما قد ينذر بظهور عصر مظلم جديد ستكون له عواقب مدمرة للإنسانية". بعبارة أخرى، من أجل الحفاظ على مصداقيتهم، يحتاج العلماء إلى الحفاظ على نزاهتهم، لكن التنافس المفرط يقوّض تلك النزاهة، مما قد يقوض العمل العلمي بأكمله.

  

علاوة على ذلك، فإن العلماء الذين ينشغلون بمطاردة المنح والاستشهادات يخسرون فرصا ثمينة للتأمل البطيء والدقيق والاستكشاف العميق، وهي أشياء ضرورية لاكتشاف الحقائق المعقدة. قال بيتر هيجز، عالم الفيزياء النظرية البريطاني الذي توقّع في عام ١٩٦٤ وجود جسيم بوزون هيغز، قال لصحيفة الغارديان بعد حصوله على جائزة نوبل في عام ٢٠١٣ إنه لم يكن ليتمكن من تحقيق اكتشافه في البيئة الأكاديمية الحالية. وأضاف: "من الصعب تخيل أنني كنت سأحظى بالسلام والهدوء في المناخ الحالي للقيام بما قمت به في عام ١٩٦٤… ففي زمننا هذا قد لا أحصل حتى على وظيفة أكاديمية، لأنه بكل بساطة لن يتم اعتباري باحثا منتجا بما فيه الكفاية"(!)

   

في وقت لاحق من حياته المهنية قال هيجز إنه كاد أن يُشكّل "إحراجا للقسم عندما قاموا بإجراء تقييم للأبحاث". إذ إن قسم الفيزياء في جامعته، أي جامعة أدنبرة، كان يقوم بإرسال رسالات دورية تطلب من كل باحث تقديم قائمة بالمؤلفات المنشورة الحديثة الخاصة به. فكان يرد: "ليس لدي أي منشورات". وقال هيجز إن الجامعة أبقته في وظيفته على الرغم من عدم كفاءته الإنتاجية على أمل أن يفوز بجائزة نوبل، لأنها كانت ستُشكّل رافعة كبيرة للجامعة في بيئة "البقاء للأصلح" الأكاديمية المعاصرة كما يوصّفها.

  

عندما تكون الإملاءات التنافسية للرأسمالية -بيع ثمار عملك إذا كنت عاملا، أو تعظيم الربح إذا كنت مديرا- فوق كل اعتبار، فإنه سوف يتم إحباط المساعي الأخرى، مهما كانت هذه المساعي نبيلة. مثلا، أحد الأهداف النبيلة لأكاديميات العلوم هو توفير الموارد للناس وتشجيعهم للقيام بتجارب دقيقة ومضبوطة من شأنها تعزيز المعرفة الجماعية عن العالم الذي نعيش فيه. لكن هذه التطلعات تتراجع إلى الوراء عندما تقوم الحكومات ذات العقلية التقشفية بقطع التمويل للجامعات والأبحاث مما يُجبر المؤسسات على التكيّف من خلال تغيير نماذج التمويل وذلك للبقاء على قيد الحياة.

      undefined

   

لاحظ إدواردز وروي أن التنافس المفرط الناجم عن انتشار العمل بمقاييس الأداء الكمية هذه يدفع العلماء الأكاديميين إلى التركيز على الكمية على حساب النوعية، وعلى اتخاذ الطرق المختصرة في عملهم، كما أنه يؤدي إلى تفضيل الباحثين ذوي العقل على أولئك من أصحاب العقل العلمي. باختصار، تؤثر إملاءات السوق الرأسمالية ("المنافسة، التراكم، تعظيم الأرباح، وزيادة إنتاجية العمل") على النزاهة العلمية والسعي الجماعي نحو المعرفة.

   

يُوصي كل من إدواردز وروي بالعديد من الإصلاحات، مع التركيز بشكل رئيسي على تخفيف المقاييس الكمية ومنع التجاوزات البحثية. لكن على الأغلب، ستستمر هذه المشكلة حتى يتم معالجة السبب الجذري لها، أي فقط حين لا تعود الرأسمالية تُهيمن على الجامعة والمجتمع الذي يدعمها.

   

—————–

هوامش:

[1] لقياس كل من الإنتاجية والتأثير الانتشاري بناء على المنشورات لعالم أو باحث أو مؤلف

[2] (بالإنجليزية: Impact factor) هو مقياس لأهمية المجلات العلمية المحكمة ضمن مجال تخصصها البحثي

    

ترجمة (كريم طرابلسي)

(الرابط الأصلي)