شعار قسم ميدان

السياحة الجنسية.. صناعة تكشف عورة العالم المتحضر

midan - ladies

اضغط للاستماع

  

 "لا أحب قضاء الأسبوع كله مع امرأة واحدة. نعم أنا متزوج منذ أكثر من 40 عاما وأعيش حياة سعيدة، وأمتلك منزلا في هولندا، ولدي ابنان، وزوجتي شقراء وجميلة، لكني مع ذلك أقضي وقتا مع العاملات في الجنس في تايلاند، والسبب هو أني أعتقد أنني أرغب في تجربة شيء مختلف"

(روبرت، مواطن هولندي)[1]

  

لا تختلف قصة روبرت كثيرا عن آلاف وربما ملايين السياح الذي يجوبون العالم بحثا عن لذة الجنس، ولا يوجد صعوبة شديدة في تحديد وجهة السائح الجنسي، فكثير من المناطق توفر كل سبل الحصول على "السياحة الجنسية"، في حين تتفاوت جودة الخدمات ومستواها من منطقة إلى أخرى.

 

وفي الوقت الذي تحتفي فيه وسائل الإعلام بإنقاذ 12 طفلًا تايلانديًا ويتابع العالم عملية "تحرير" الأطفال، يتغافل الكثيرون عن الواقع المؤلم الذي يعيشه أطفال تايلاند، فمدينة بانكوك في تايلاند تعتبر أشهر مدن السياحة الجنسية في العالم، وقد قُدّر عدد العاملات في الجنس هناك بما لا يقل عن 250,000 امرأة، ثلثهم على الأقل من الأطفال.[2] في حين أشارت بعض التقديرات الأخرى إلى وجود 800,000 عاملة بالجنس في تايلاند وحدها[3].

 

في السنوات الأخيرة، تنامى سوق صناعة الدعارة والسياحة الجنسية، وازداد الطلب على السفر من أجل الاستمتاع الجنسي، لا في تايلاند وحدها، بل على امتداد دول العالم، حتى صارت السياحة الجنسية بالنسبة لبعض الدول لا تقل أهمية -من حيث الدخل العائد منها- عن السياحة الترفيهية والعلاجية، وبناء عليه انتعشت أسواق الجنس وشبكات التهريب في تايلاند وهولندا، في جمهورية الدومينيك والإمارات، في لاس فيجاس والفلبين. فما طبيعة هذه الصناعة؟ وما دوافع استمرارها؟ وكيف يُستغل بؤس الفقراء والمحتاجين من أجل خدمة الأثرياء والمرفهين؟!

 

طبيعة السياحة الجنسية

 يرى الباحث الكيني وانجوهي كيبيشو أن التجارة بالجنس، يعد مصطلحا "مؤدبا" للدعارة، أما السياحة الجنسية فهو النشاط السياحي الذي يتضمن دافعا أساسيا أو ثانويا لاستهلاك العلاقات الجنسية أثناء السفر[4].

    undefined

  

بدأت السياحة الجنسية في الظهور منذ منتصف القرن التاسع عشر مع صعود الطبقة الوسطى الأوروبية وتراكم ثرواتها وانتشار فكرة السفر إلى الخارج من أجل المتعة، وكانت وجهة الأوروبيين -منذئذ وحتى الآن- هي كينيا وجنوب أفريقيا وبعض الدول العربية، بالإضافة إلى دول جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية[5]. والمشترك بين كل هذه المناطق هي الظروف المعيشية المتدنية ومن ثمّ العمالة الرخيصة، فانتشار الفقر والبطالة في هذه الدول يدفع النساء والأطفال إلى العمل في الدعارة، وهو ما يتيح فرصة للسياح الغربيين للحصول على تجربة جنسية فريدة مقابل ثمن زهيد.

 

الأثمان تصل أحيانا ل5 دولارات فقط مقابل قضاء ليلة جنسية كاملة في كينيا، ويروي أحد السياح الألمان تجربته في مدينة مومباسا الكينية وسبب تفضيله لهذه المدينة على دول جنوب شرق آسيا قائلا: "يتطلب قضاء أيام أو أسابيع أو حتى شهور في كينيا تكلفة أقل من الدول الأخرى مثل الفلبين وتايلاند وفيتنام، ربما يكون هذا بسبب أن بائعات الهوى هنا مستقلات ولايعملون تحت مزود خدمات جنسية.. والمنافسة الحادة بينهن توفر لنا الخدمة بسعر أقل، هنا يعاملننا كملوك.. بالطبع نحن كالملوك هنا، ملوك في غرف النوم الكينية"[6].

 

ما الذي يدفع السياح إلى السياحة الجنسية؟!

بجانب التكلفة الرخيصة للمتعة الجنسية في الدول الفقيرة، تمثل السياحة الجنسية فرصة ذهبية أمام قطاع كبير من السياح لكسر روتين الحياة الحديثة الممل، فأمام ضغط العمل المتواصل، يلجأ كثير من الناس إلى السياحة الجنسية للهروب من ملل الحياة وللبحث عن تجديد لسعادتهم وحيويتهم.

 

يصف أحد السياح إلى تايلاند هذا الشعور أثناء تجربته في السياحة الجنسية قائلا: "عمري 71 عاما في دياري، لكني هنا في تايلاند أبلغ 20 عاما. غالبيتنا [كسياح] نرتدي أفضل ما عندنا ونضع العطر ونحلق قبل الخروج إلى الشارع.. أنا متزوج منذ ثماني سنوات، وستة منهم كانوا بمنزلة الجحيم!"[7].

      

undefined     

دوافع السياحة الجنسية لا تقتصر على الرغبة في التجديد وكسر الروتين فحسب، حيث تلفت الباحثة التايلاندية يودماني تيبانون نظرنا إلى نقطة لا تُطرق عادة، وهي أن التنافس الحاصل بين المرأة والرجل في الغرب داخل البيت الواحد بخصوص مسؤوليات كل طرف ومكانة العمل ونحو ذلك قد دفع الرجال إلى البحث عن المتعة مع امرأة لا يشعر فيها الرجل بالتنافس المستمر والشعور بالخصومة الدائمة مع الطرف الآخر[8].

 

في إطار هذا العداء الذي ولده التنافس بين المرأة والرجل في الغرب، يذكر ماركوس، وهو مواطن سويدي خاض تجربة السياحة الجنسية، عن أسباب سفره للسياحة الجنسية قائلا: "النساء في دولتي تحاول أن تكون قوية وصلبة وغنية، ومع الوقت أصبحت العلاقة بيني وبين شريكتي تنافسية، وأنت لا تريد أن تنافس صديقتك وإنما تريد أن تحبها، أريد من يهتم بي وأهتم بها لا من ينافسني في كل شيء".[9] أمام هذا الإقبال الكبير من قِبل السياح -الغربيين خصوصا- لتجربة السياحة الجنسية في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، كيف يتوفر العرض إذن في سوق الجنس في هذه الدول؟ ومن أين تأتي كمية العمالة في مجال الدعارة والجنس وكيف يُحافظ على استمراريتها؟!

 

التهريب والاتجار بالجنس

تعد عمليات التهريب والاتجار بالجنس (Sex Trafficking) أحد أهم مصادر توفير العاملات -نساء وأطفالا- من أجل متعة السياح، ووفقا لريجان رالف، المدير التنفيذي لقسم حقوق النساء بمنظمة "هيومن رايتس ووتش" (Human Rights Watch)، فإنه من المستحيل أن نحدد عدد من يتم خطفهم وتهريبهم، ولكن التقديرات تتراوح بين مئات الآلاف إلى الملايين من الضحايا سنويا، منهم 100,000 طفل وامرأة يتم تهريبهم إلى الولايات المتحدة وحدها[10].

 

تقول رالف: "تبدأ عملية التهريب بعرض فرصة عمل للمرأة في الدعارة ووعدها بمرتب مجز في دولة أخرى، وأمام مواجهة المرأة لظروف اقتصادية صعبة واستنفاد الفرص أمامها داخل دولتها فإنها توافق على الوظيفة. وفي حالات أخرى يتم خداع النساء بإجازات وهمية أو وعود زواج وهمية كذلك، وبالنسبة للأطفال فإن آباء الأطفال يوعدون بتوظيف أطفالهم في أعمال مربحة فيرسلونهم إلى مكان الحلم المنشود، والواقع المؤسف أنه في كل هذه الحالات يتم خطف النساء والأطفال بلا رجعة"[11].

  undefined

 

عقب نزول الضحية إلى الدولة الجديدة، يستلم أصحاب الأعمال، المخطوفين من النساء والأطفال ويدخلونهم في دائرة مغلقة من الدَّيْن والاغتصاب والتهديد بالعنف وإدمان المخدرات لا يستطيعون منها فكاكا، فيصيرون عبيدا لدى القواد (Pimps) وأصحاب هذه الأعمال القذرة، ويتم توظيفهم قسرا من أجل خدمة شهوة السياح.

 

تعتبر دولة اليابان مكان الوصول الأكثر انتشارا للنساء الذين تم استعبادهم جنسيا، كما تذكر الحقوقية اليابانية ماتسوي يايوري[12]. ورغم علم الحكومة بطبيعة هذه الكارثة إلا أنها تفشل في مواجهة هذه الجريمة، وتذكر يايوري أن أحد أهم أسباب انتشار العبودية الجنسية في اليابان هو حجم صناعة الجنس فيها حيث تنتج ما يفوق 30 مليار دولار سنويا! وهو رقم "يساوي مجموع ميزانية الأمن القومي الياباني.. كما أن صناعة الجنس تعوض نقص النساء اليابانيات، حيث يتم استيراد النساء من آسيا، الذين يتم تأجيرهم بشكل أرخص"[13].

  

هل تغض الدول النظر عن السياحة الجنسية؟

تضيف يايوري: "نظرا لتهريب عدد كبير من الفتيات من تايلاند إلى اليابان، تناقص عدد الفتيات العاملات في الجنس في تايلاند، ومن ثمّ يتم خطف وتهريب الفتيات من الدول المجاورة مثل بورما (ميانمار) إلى الداخل التايلاندي من أجل تعويض النقص وتوفير المتعة للسياح، وعادة ما يحصل التهريب والخطف بتواطؤ من المسؤولين الرسميين التايلانديين"[14].

   undefined

 

هذا التواطؤ ليس حكرا على المسؤولين التايلانديين فحسب، بل يبدو أنه ظاهرة تعمّ كافة الدول التي تستفيد من السياحة الجنسية على أرضها، فالملاحظ أن حكومات هذه الدول الفقيرة تغض طرفها عن السياحة الجنسية، ففي دولة مثل كينيا دفع فيها الفقر والبطالة 95% من النساء العاملات في الجنس إلى الدعارة[15]، لا تبدو الحكومة جادة في محاربة السياحة الجنسية ولا تبدو السياسات مقنعة في مواجهة هذه الظاهرة، فلماذا هذا التواطؤ إذن؟ بحسب كريس ريان أستاذ السياحة بجامعة وايكاتو في نيوزيلاندا، فإن تدوير عمال الجنس في اقتصاد الدولة "يجلب الربح إلى الكثيرين، بدءا من الفنادق وخطوط الطيران العالمية ووصولا إلى الباعة الصغار والملاهي الليلة. مديرو الفنادق، سائقو عربات التاكسي، ملاك الأعمال، كل هؤلاء وغيرهم يتربحون من عمالة النساء في الجنس"[16].

 

هذه الفوائد الاقتصادية لا يعود نفعها إلى الأشخاص فقط، وإنما إلى حركة اقتصاد الدولة ككل، خصوصا بسبب أن العملة الأجنبية الصعبة تدخل إلى الدولة عن طريق هؤلاء السياح. لذلك يضيف ريان: "إن الشرطة والدولة والمشاريع المحلية والدولية يدركون تماما أن الجنس له قيمة سوقية، رغم أنهم يصرحون دائما أن الدعارة غير أخلاقية"[17].

 

السياحة الجنسية في الدول العربية

لا يختلف الحال كثيرا في الدول العربية بمختلف أقطارها عن الحال في تايلاند أو كينيا، فالظروف الاقتصادية والاجتماعية تدفع كثيرا من الأفراد للدخول في مساحة الجنس باعتباره مصدر دخل سهل وسريع، كما أن إقبال الكثيرين، يزيد من توسعه ورواجه.

  

 

يبرز اسم الإمارات كقبلة للسياح الجنسيين الأجانب من الطبقات الغنية، حيث تضم دبي أكبر عدد من الحانات والنوادي الليلية وأماكن الرقص والدعارة في آسيا بعد تايلاند[18]. وثمة 15 مركزًا على الأقل تنتشر فيه الدعارة في دبي، على رأسها نادي Cyclone ذائع الصيت الملقب بـ"الأمم المتحدة للدعارة" حيث أنه يُعرف كأكبر مركز لتقديم الخدمات الجنسية والدعارة في الشرق الأوسط[17].

 

في عام 2017م، عرضت قناة Discovery تقريرًا بعنوان "ليالي دبي Dubai’s Nights" كشفت فيه عن إجبار الإمارات للفتيات القاصرات على ممارسة الدعارة، قائلة إنها وجدت أن اقتصاد البلد يعتمد بنسبة كبيرة جداً على الدعارة الدولية والسياحة الجنسية. ونقل التقرير عن فتاة في عامها الـ19، أنها "تمارس الدعارة يومياً مع أكثر من 30 رجلاً بالإمارات رغماً عنها؛ لتربح المال ولدعم سياحة واقتصاد البلاد".

 

وتحدث مواطن إماراتي بالتحقيق عن أن الحكومة الإماراتية تجلب فتيات من الهند والصين وشرقي أوروبا وروسيا وأفريقيا، وتحتجزهن بشقق الدعارة سنواتٍ طويلةً دون أن يغادرنها. كما أكد مواطن آخر أن الدعارة بالإمارات ليست كأي مكان في العالم، قائلاً إنها شبكات دعارة دولية منظمة داخل الشقق، وليست بالشوارع كسائر بلدان العالم.

 

تعتبر المغرب إحدى المحطات العربية في السياحة الجنسية، ومؤخرا عرضت قناة إسبانية تقريرا حول السياحة الجنسية في مراكش، وذكر التقرير أن مراكش أصبحت "مركزا لاستقطاب السياحة الجنسية، حيث يمكنك الحصول هناك على كل شيء". وعبر حوارات مباشرة في التقرير مع الأطفال ومع القوادين، أورد التقرير شهادات صادمة عن خضوع أطفال ذوي 10 و12 عاما لرغبات السياح الأجانب، بل وأورد التقرير امرأة صرحت أنها لا تمانع أن تذهب ابنتها ذات الـ 11 ربيعا لممارسة الجنس مقابل المال ما دامت تحصل على لقمة العيش.

 

  

لبنان كذلك لا تبتعد كثيرا، فوفقا لأحد التقارير، تتقاضى الفتيات العاملات في الجنس بلبنان من 800 إلى 1200 دولار شهريا عبر تقديم الخدمات الجنسية للسياح الأجانب. ويتم استجلاب السياح إلى بيوت الدعارة والملاهي الليلية عبر مكاتب معروفة في الدول الأجنبية تقدم فرصة السياحة الجنسية إلى عملائها[20].

 

في مصر، يحكي هشام، وهو أحد العاملين في الجنس: "دفعتني الظروف الاقتصادية إلى هذا العمل.. تأتي الفتيات والنساء إلى مصر للسياحة ويرغبن أحيانا في التمتع بعلاقة عابرة، أحيانا تعرض إحداهن عليّ أن أسافر معها إلى موطنها الأصلي ولكن هذا لا يتجاوز مجرد الكلام.. مهنتي مجزية لأني أتقاضى أجري بالدولار وليس الجنيه المصري، والعلاقات الجنسية التي أقدمها للسائحات ليست علاقات حب وإنما جنس محض.. أشعر أحيانا بالعار وألوم نفسي على هذا العمل لأني لم أنشأ على مثل هذه الأمور"[20].

 

هكذا تبدو صناعة السياحة الجنسية أكبر من مجرد علاقة عابرة بين سائح وعامل، وإنما هي حركة اقتصادية كبيرة يُروّج لها من قِبل مكاتب السفر وشركات السياحة لجلب المزيد من الأرباح، في حين تتغاضى الدول بشكل جزئي عن مكافحة هذه الظاهرة وتتواطأ في إنعاشها، رغم أن جرائم الاتجار بالأطفال وتهريب النساء والدعارة هي ركائز هذه الظاهرة التي تقوم أساسا على الاستغلال الرأسمالي اللاآدمي لفقر الدول المستضيفة.

المصدر : الجزيرة